القارئات والقراء الأعزاء،
في خضمّ كثافة الصادر من كتابات حول المرحلة الشائكة التي نعبرها اليوم في حروب وإبادة وموت، فإننا نجد أنفسنا أمام سؤال جوهري: ما جدوى المزيد من الكتابة عن فلسطين؟ وقد نلتمس وجهًا من الإجابة فيما قاله إدوارد سعيد في "الثقافة والمقاومة" عندما أكد أن الثقافة، بكل أشكالها من كتابة وسينما ومسرح وأدب، هي شكل من أشكال الذاكرة في مواجهة محاولات الطمس والنسيان.
وبالفعل جسد هذه الفكرة إدوارد سعيد وجين سعيد مقدسي في كتابيهما "خارج المكان" و"جدتي وأمي وأنا". إذ تلتقي هاتان السرديتان في تصوير تأثيرات الفقد والتهجير على آل سعيد بوصفهم عائلة أرستقراطية غادرت القدس طوعًا، مما أضاف تعقيدات مختلفة لتجربتهم. هذا التباين يبرز أهمية الحفاظ على الذاكرة، ويُظهر أن تجربة الشتات ليست مجرد قصة واحدة، بل هي مجموعة من الحكايات المتشابكة التي تعكس تعددية الأصوات والتجارب الفلسطينية في المنفى.
حين انتهى سعيد من تأليف مذكراته، زار فلسطين في تشرين الثاني/ نوفمبر 1998، وأعد فيلمًا وثائقيا لصالح الـ BBC أطلق عليه اسم "في البحث عن فلسطين". يتحدث فيه قائلًا "هذا هو مضمون المأساة الفلسطينية، هذا الاقتلاع والطرد والتدمير اليومي للممتلكات والمنازل، واحتلال الأماكن،... وأنا لا بد أن أقول أنه صعب جدًا أن أقف هنا أتحدث بينما أرى أبناء شعبي يمرون بهذه المعاناة التي لا نهاية لها، دون أي إغاثة، دون أي تعاطف أو دعم من ما يسمى بالعالم المتحضر الذي يدعم إسرائيل في هذه الممارسات الوحشية اللاإنسانية.." نقرأ هذه الإفادة بعد 26 عامًا، ولا يزال الفلسطيني يرزح تحت وطأة العنف الاستعماري ذاته، بل بوتيرة أعلى وعلى صورة غير مسبوقة؛ إذ خلّف العدوان الإسرائيلي على غزة، إلى حد اللحظة، أكثر من 41 ألف شهيد، فضلًا عن أكثر من 96 ألف مصاب، و10 آلاف مفقود.
لفهم أعمق للسياق التاريخي، قدم نور مصالحة في كتابه "فلسطين: أربعة آلاف عام في التاريخ"، وثيقة متكاملة عن تاريخ فلسطين من منظور سكانها الأصليين، تؤكد على استقرارهم الجغرافي والثقافي لأكثر من أربعة آلاف عام، وتكشف المساعي الإسرائيلية الممنهجة لمحو هذا الوجود التاريخي. وركز كتاب رشيد الخالدي "حرب المئة عام على فلسطين"، على تاريخ فلسطين منذ الانتداب البريطاني وصولًا إلى مفاوضات السلام وطرح حل الدولتين. يسلط الخالدي الضوء على ذاكرة الفلسطينيين ونجاحهم في إثبات وجودهم "على خريطة الشرق الأوسط على الرغم من جهود كبيرة قامت بها إسرائيل والولايات المتحدة" للحد من هذا التواجد. يعزز هذا الرأي ناثان براون، في مقالته "فلسطينيون بدون فلسطين"، إذ يشير إلى قوة الترابط داخل المجتمع الفلسطيني، واصفًا إياهم بأنهم "حاضرون بقوة". ويرى أن المحن والصعوبات التي واجهها الفلسطينيون أسهمت في تعزيز تماسكهم وقوتهم، إلا أنه يستبعد قيام دولة فلسطينية في المستقبل القريب.
في سياق الحديث عن المثقفين الفلسطينيين، لا يمكن المضي دون الوقوف عند غسان كنفاني الذي اغتالته إسرائيل عام 1972 في بيروت، وسيكون العدد القادم من "الصالون" مخصصًا لمناقشة كتاب "انهض واقتل أولًا" وموضوع الاغتيالات. تحدث كنفاني مرارًا عن فلسفة الموت ما يبيّن أنّه كان يفهم أبعاد الأمر جيِّدًا، فعندما وجّه إليه المحاور سؤالاً بشأن وقف القتال والموت والبؤس والدمار والألم، أجاب: "موت وبؤس ودمار وألم من؟.. الشعب الفلسطيني الذي اقتلع من أرضه ورمي في المخيمات ويعيش في مجاعة.." كان رد المحاور "ذلك أفضل من الموت". فكان رده: "ربما بالنسبة لك، لكن بالنسبة لنا ليس الأمر كذلك، بالنسبة لنا كي نحرر أرضنا، ونحصل على الكرامة، والاحترام، والحقوق الإنسانية، تلك الأشياء أساسية كما هي الحياة ذاتها". يتوافق هذا الموقف مع ما يطرحه بلال عوض سلامة في كتابه "في معنى الأرض: استعادة الذات الفلسطينية"؛ الذي يؤكد أن أهمية الأرض للفلسطيني تتجاوز البعد الجغرافي لتشمل أبعادًا حضارية وثقافية ورمزية، تسهم في تعزيز صموده ونضاله وتحافظ على استمرار سرديته.
يمتلك الفلسطيني وسائل السرد اللازمة لنقل روايته في موته وحياته. فهو يخلق لنفسه الفضاءات ومجالات التعبير في الأعراس والمآتم. تذكُر لاليه خليلي، في كتابها "أبطال وشهداء فلسطين" أنّ الفلسطيني حوّل جنازات الشهداء إلى "زفاف" وأكد بذلك الأمل من وسط الموت. في مثل هذه المراسم، يُتوقع من أسرة الشهيد الحزينة أن تزغرد وهي تبكي، وتُقدم للضيوف القهوة المحلاة بدلًا من القهوة المرة. في حرب الإبادة على غزة لم يتمكن الأهالي من دفن أبنائهم، ولم تُقَم بيوت العزاء، بل إن الواقع بات أكثر بشاعة حين تحولت المقابر الجماعية لجثث مجهولة الهوية. سرق الاحتلال هذه الجثامين سابقًا من غزة، وأعادها رفات بلا ملامح، ولا معلومات، سرق حق الأهالي في التعرف على جثامين أبنائهم ودفنهم بصورة لائقة. يقدم نورمان فنكلستين في كتابه "غزة: بحث في استشهادها" سردًا تفصيليًا لمعاناة سكان غزة إثر الهجمات العسكرية الإسرائيلية بين عامي 2008 و 2014، أي أن الدمار الحالي الذي تشهده غزة ليس ظاهرة جديدة، لكنه بالتأكيد الأشد قسوة وتدميرًا مقارنة بالاعتداءات الإسرائيلية السابقة.
يقف المرء بفجيعة أمام النتائج المرعبة للأزمات التي ضربت مجتمعاتنا؛ أعداد مهولة من الضحايا والجرحى، ودمار واسع النطاق، وحركات نزوح وأزمات لاجئين. رغم ذلك عمدت وسائل الإعلام الأمريكية والغربية بشكل عام إلى تبني خطاب متحيز وشوفيني في تغطيتها لمعاناة العرب من العراق، سوريا، اليمن، السودان إلى فلسطين وحتى لبنان .. تستخدم عبارات مثل "ادّعى" و"زعم" لوصف معاناتهم، وتبني فعل القتل للمجهول عندما يكون الضحية عربي، وتستهين بأرواحهم وخسائرهم. هذا الأسلوب في التغطية الإعلامية يعيد إلى الأذهان الحجج الاستعمارية التقليدية التي استُخدمت لتبرير سلب الأراضي من أصحابها الأصليين في أفريقيا والهند، وكذلك في فلسطين. نرى مثالاً على الانحياز الغربي للجانب الإسرائيلي؛ عندما حازت الكاتبة الفلسطينية عدنية شبلي على جائزة "LiBeraturpreis" لعام 2023 عن روايتها "تفصيل ثانوي"، لكن تزامن حفل تسليم الجائزة في معرض فرانكفورت الدولي للكتاب مع بداية الحرب الإسرائيلية على غزة. حينها امتنعت إدارة المعرض عن تكريم الكاتبة ومنحها جائزتها، بل ونُعتت الرواية بكونها "معادية لإسرائيل وللسامية" لأنها تُظهر الإسرائيليين في صورة "مغتصبين وقتلة".
في هذا العدد، وبعد مرور عام كامل من الإبادة، حاولنا في "الصالون" الحديث عن فلسطين من خلال مراجعات لكتب متنوعة، بعيدًا عن التوجهات التي تحصر فلسطين بحدود جغرافية وتاريخية ضيقة. جاءت أولى مراجعاتنا لكتاب "ما تقدمه فلسطين للعالم"، الذي وصفته ساندرين جامبلن بأنه "رؤية إنسانية مفادھا أن فلسطين ما زالت حية في تنوعھا وفي اختلافھا، بما يسمو فوق أي صراع أو أیدیولوجیة".
شغل المكان الفلسطيني حيزًا لا بأس به في الأعداد السابقة، مجسدًا في عدة مراجعات تناولت أبعاده المختلفة. من بينها، برز كتاب "أرض جوفاء" الذي يسلط الضوء على الدور المحوري للهندسة المعمارية في ترسيخ أسس الاحتلال في الأراضي المحتلة عبر استراتيجيات عززت من السرديات الصهيونية حول "أحقية وشرعية" استيطان الأرض. في سياق متصل، قدمت منار حسن في كتابها "المغيبات: النساء والمدن الفلسطينية حتى سنة 1948" منظورًا فريدًا لإعادة بناء ذاكرة هذه المدن بالاعتماد على قصص النساء اللواتي عشن قبل النكبة مما أضاف بعدًا إنسانيًا وجندريًا لفهم تاريخ المكان الفلسطيني وتحولاته. وبذلك، يتجلى المكان الفلسطيني كساحة صراع ليس فقط على الأرض المادية، بل أيضًا على الذاكرة والهوية والرواية التاريخية.
سيتعيّن علينا دائمًا أن نقاوم الرواية بالرواية، وألا نتوقف حتى إشعار آخر. أو كما قال إدوارد سعيد "على المرء أن يستمر في رواية القصة بأكبر عدد من الطرق التي يقدر عليها، وبأكثر إصرار ممكن، وبالشكل الأكثر قوة كي يبقيها رهن الانتباه، لأن هناك تخوف من تلاشيها تمامًا.. "
دمتم بخير،
فريق تحرير الصالون