القارئات والقراء الأعزاء،
يُضفي قسم الإهداء في مقدمة كل كتاب بعدًا شخصيًا على النص، ويكشف عن عمق علاقات الكاتب وامتنانه لأشخاص، مدن، اقتباس شعري، وأحداث أثرت في مسيرته وعبّرت بشكل من الأشكال عن تجربته. مما يجعل القارئ يشعر بقرب أكثر منه ويفهم الدوافع الإنسانية وراء الكتابة. وقد تُعدّ إهداءات المذكرات، بشكل أكثر تحديدًا، بابًا آخر لاكتشاف الكاتب وذاته، فتُقدّم مفاتيح لما أراد إيصاله للقارئ، أو رسائل خاصة لأشخاص غادروا هذه الحياة.
في هذا السياق، سجلت جين سعيد المقدسي للقارئ في صفحة الإهداء من مذكراتها المعنونة بــ "جدتي وأمي وأنا: مذكرات ثلاثة أجيال من النساء العربيات" عبارة مفعمة بالحب والحنين، تقول فيها: "في الذكرى الحبيبة لأمي، وأبي، وجدتي، ولروزماري، وجويس، وجريس، وبالطبع لإدوارد، وإن كان ذلك متأخرًا جدًا". يعكس هذا الإهداء العلاقة التي تربطها بأفراد عائلتها، ويُبرز تأثيرهم الكبير على حياتها وسرديتها، وهو ما أكدته في آخر فقرة في الكتاب بقولها: "أخي الراحل إدوارد وأخواتي روزماري وجويس وجريس، الذين أهديت لهم هذا الكتاب، كانوا رفاقي منذ البداية، وهم بالنسبة لي كأصابع يدي. لقد تشكل وعيي معهم وبفضلهم". بهذه الكلمات، اختتمت جين كتابها تاركةً لنا صورةً لعائلة مميزة رحل عدد من أفرادها لكن لم ترحل أصواتهم عن عالمنا.
أما إدوارد سعيد، والذي استقى عنوان كتابه "بعد السماء الأخيرة: حيوات فلسطينية" من شطر من قصيدة "تضيق بنا الأرض" لمحمود درويش، فيورد جملة في أوائل صفحات هذا الكتاب، لتحل محل صفحة الإهداء، يقول فيها: "إلى أين نذهب بعد الحدود الأخيرة؟ أين تطير العصافير بعد السماء الأخيرة؟". يعترف إدوارد ويقر بأن هذا الكتاب ليس كتابًا "موضوعيا" بل هو قراءة شخصية وذاتية للفلسطينيين كجماعة وطنية مشتتة فقدت مكانها وأصبحت منفية. ويضيف: "على الرغم من كل الكتابات عن الفلسطينيين، إلا أنهم ما زالوا مجهولين تقريبًا في الغرب، وخاصة في الولايات المتحدة الأمريكية.. منذ عام 1948، أصبح وجودنا أقل أهمية بل وأُسكت صوتنا دون أن نترك أثرًا"..."لقد كان مصيرنا متنوعًا ومشتتًا للغاية.. ولكن ليس هناك شك في أننا في الواقع نشكل مجتمعًا مبنيًا في جوهره على المعاناة والمنفى".
ربّما يكونُ إدوارد سعيد في كتابيه "بعد السماء الأخيرة" و"خارج المكان"، خيرُ منْ تمكّن من تقديمِ الصراعِ الهُويّاتي. إذ تحولت هذه الأعمال إلى أداة للسجال في موضوعات تؤرق كثيرين في هذه اللحظة العالميّة، كالاقتلاع والمنفى والهُويّة (الأنا والآخر)، وهي حكايته الشخصية، حكاية "الفلسطيني التائه" المتعدد الهُويّة، صاحبُ دعوة الاختلاف وقبول الآخر في المجتمع الغربي. لكن قبل وفاتهِ بـ3 سنوات، أكد في إحدى الحوارات التي أجريت معه وأدرج نصها في كتاب "إدوارد سعيد: السلطة والسياسة والثقافة" أنه لم يكن مهاجرًا إلى أمريكا، والتي عاش فيها أكثر من 40 عامًا، بل كان منفيًا في انتظار تحقيق حلم العودة للقدس، قائلاً: "لست لاجئًا، لكني أشعر أن لا مكان لدي. أنا معزول عن أصولي. أعيش في منفى. أنا منفي".. ويضيف
"لسنوات طويلة، بكيت خسارة ذلك العالم [أي القاهرة وبيروت وطالبية ما قبل 1948]. بكيتُه فعلاً. أما الآن، فاكتشفت إمكان إعادة ترجمته. وأدركت أنه حقيقي ليس فقط بالنسبة إليّ، بل بالنسبة إلى معظمنا: نحن نسير في الحياة ذارفي الدموع على الماضي -على ما هو منسيّ ومفقود. أدركت أن دوري هو أن أروي المرة تلو الأخرى قصة خسارة وطن حيث فكرة العودة إليه، العودة إلى البيت، مستحيلة".
يستعيد سعيد وضعيَّته كونه منفيَّاً بالمعنيين السياسي والثقافي في مؤلفه "بعد السّماء الأخيرة"، فيصف شعور الفلسطيني بقوله: "لقد تبخَّر من حياتي وحياة الفلسطينيين جميعاً ثبات الجغرافيا وامتداد الأرض".
وفي خضم الحديث عن المنفيين وسرد قصص خسارة الأوطان، تُطرح تساؤلات مهمة حول دوافع المؤرخة روزماري سعيد زحلان لعدم كتابة مذكراتها، على الرغم من تمتعها بذاكرة قوية استثنائية، كما شهد بذلك زوجها أنطوان زحلان في قسم الشكر والعرفان في كتابها "فلسطين ودول الخليج" الذي صدر عام 2009، أي بعد وفاتها، إذ قال: "تمتعت روزماري بذاكرة قوية للغاية "prodigious memory"، فكانت تتذكر المعلومات لسنوات طويلة". روزماري التي تعد من أهم الباحثين المختصين في تاريخ الخليج العربي، رحلت عنا دون أن تترك مذكراتها. بل إننا لم نعثر على الكثير من المعلومات عن حياتها على صفحات الإنترنت، وربما كان ذلك طبيعيًا لامرأة عملت في صمت. لكن ما لفت انتباهنا هو أن اسم أخيها إدوارد كان يُرافق اسمها وتاريخ ميلادها ومهنتها وحتى الإعلان عن وفاتها، إذ لم يفصل بين وفاة إدوارد في أيلول/ سبتمبر 2003 ووفاة روزي (كما كانت الأسرة تناديها) في أيار/ مايو 2006 سوى أقل من ثلاث سنوات. روزماري، التي لم تكن أقل ألمعيَّة من أخيها في مجالها، انتقدت الضغوط الاستعمارية في المنطقة، وحافظت على هُويتها الفلسطينية طوال حياتها فوصفتها مجلة الغارديان بـ"مؤرخة دول الخليج التي كان قلبها في فلسطين".
ارتأينا في هذا العدد أن نتخذ من اسم "آل سعيد" عنوانًا لنشرتنا، وذلك لتكريم ذكرى هذه العائلة الفلسطينية-الأمريكية بامتدادها وفروعها، ممثلةً بروزماري وزوجها أنطوان زحلان، وجين وزوجها سمير مقدسي أولادهما ساري وأسامة، وجويس، وجريس، وإدوارد وزوجته مريم وأبناؤهما وديع ونجلاء. من خلال سرديتين متقاطعتين، "خارج المكان" و"جدتي وأمي وأنا" تقدم دينا عزت قراءة تظهر بوضوح تأثير خسارة المكان على الهُويّة والانتماء، في محاولة لفهم تجربة الفلسطيني، ولكن من زاوية فريدة تختلف تمامًا عن السرديات المتعارف عليها في منطقتنا. هي سردية عائلة عاش أفرادها في المنفى، إذ عاشت روزماري في لندن لأكثر من 36 عامًا، وجريس وإدوارد في واشنطن، أما جين وجويس فعاشتا في بيروت، بانتظار عودة لم تتحقق بعد.
دمتم بخير،
فريق تحرير الصالون.