تقدم دينا عزت سردًا لحياة عائلة فلسطينية، من خلال مذكرات إدوارد سعيد وشقيقته جين سعيد المقدسي. العائلة التي غادرت فلسطين لأسباب طوعية قبل أن تصبح العودة مستحيلة بعد نكبة 1948، مما فتح فصولًا من الشتات والحزن. يسرد إدوارد في كتابه "خارج المكان" تفاصيل سنواته الأولى حتى تشخيصه بمرض سرطان الدم، مركزًا على تجارب الألم والهوية المتذبذبة. من جانبها، توثق جين في كتابها "جدتي وأمي وأنا" رحلة ثلاث نساء من ثلاثة أجيال، مسلطة الضوء على تجارب المرأة الفلسطينية في ظل الحروب والنكبات. تلتقي السرديتان في تصوير تأثيرات الفقد والتهجير على الأسرة، مشددتين على دور الأم والشخصيات النسائية الأخرى في مواجهة التحديات واستمرار الحياة. تظهر اللغة والهوية كموضوعين مركزيين في تجربة الشتات، حيث تبرز الصراعات النفسية والانتماءات الثقافية المتعددة التي عاشتها العائلة.
دينا عزت [1]
فيما يشبه متوالية موسيقية، يقدم كل من إدوارد سعيد، المفكر الفلسطيني-الأمريكي، أو ربما الأمريكي-الفلسطيني، وجين سعيد المقدسي، الكاتبة الفلسطينية-اللبنانية، وهما شقيقان مولودان في القدس عامي 1935 و1940، سرديتان مختلفتان لحياة عائلة فلسطينية مسيحية إنجيلية. غادرت هذه العائلة فلسطين طواعية لأسباب تتعلق بعمل الأب، ثم أدركت في أيار/ مايو 1948 أن العودة أصبحت مستحيلة. إذ غدت القدس، مدينة ميلاد الشقيقين ووالديهما، وكذلك الناصرة، مدينة ميلاد الأم ومهد السيد المسيح، بعيدتي المنال، إلا إذا تمكن أحدهما من استخدام جواز سفره الأمريكي الموروث عن والدهما للوصول إلى النقطة التي تُجسد ذروة الشتات والحزن في حياتهما، شأنها شأن لحظات المرض والفقد.
هناك فارق كبير في القصد من وراء الكتابين؛ كتب إدوارد سعيد "خارج المكان"[2] استرجاعًا لبدايات حياة أصبحت على المحك مع تشخيص إصابته بسرطان الدم، ونشره بالإنجليزية عام 1999، قبل أربع سنوات من رحيله عام 2003 في نيويورك، على بعد آلاف الأميال من القدس. أما جين سعيد المقدسي، فكتبت كتابها "جدتي وأمي وأنا: مذكرات ثلاثة أجيال من النساء العربيات"[3] احتفاءً بمسار ثلاثي التكوين بدأته جدتها المولودة عام 1880، واستمر مع والدتها المولودة عام 1914، وصولاً إلى جين المولودة عام 1940.
وما بين استغراق إدوارد في رحلة استرجاع ذكريات الماضي، وهي العملية التي لا تخلو من ألم شديد الوطأة وألعاب ذاكرة خادعة، وسعي جين لتأطير قصتها كجزء من سياق أوسع لمسار المرأة الفلسطينية بين نهاية القرن التاسع عشر وبدايات القرن الواحد والعشرين، تباينت منهجية الكتاب، بل وتقدير نقاط السعادة والحزن في الأحداث نفسها والشخصيات المتطابقة الظهور في النصين.
يقف إدوارد في نقطة غير بعيدة عن نهاية لا تبدو محتمة، فيتمهل كثيرًا في استرجاع سنوات الصبا والتكوين، ويمر سريعًا على سنوات النضج وتجاوز، أو شبه تجاوز، عثرات أول الطريق. وفي هذا، لا يبدو وجلًا على الإطلاق في البوح ومشاركة الألم وكشف النواقص وتسميتها بأسمائها. أما جين، فهي تكتب لتروي التاريخ وتحلل المجتمع من منظور أسرة بعينها، فلا مكاشفات كبيرة ولا تعرية لأحزان عميقة أو اعترافات مبهرة بلحظات ضعف كبرى.
في نص إدوارد، الواقع في 357 صفحة في الترجمة العربية، وفي نص جين، الواقع في 376 صفحة في الترجمة العربية، نواة مشتركة: الأب وديع، الذي حصل على اسم ويليام عند انضمامه إلى صفوف الجيش الأمريكي في العقود الأولى من القرن العشرين، والأم هيلدا، والأبناء: إدوارد، روزماري، جين، جويس، وجريس. في النصين أيضًا، أب ميسور الحال وأم متميزة اجتماعيًا وحياة بدت رائقة بين القدس والقاهرة، ثم استحالت هادئة تحت غيمة من الأسى مع وقوع نكبة عام 1948. قبل أن تنتقل العائلة، مع توالي ذهاب الأبناء للدراسة، إلى الولايات المتحدة الأمريكية، لتستقر في بيروت بعد سنوات مع بداية الحكم الناصري في مصر ومع إرهاصات توترات طائفية تحولت إلى حرب أهلية في لبنان عام 1975.
وفي السرديتين، تبدو القاهرة المتاحة للطبقة الاجتماعية الميسورة، من المصريين أو الشوام التي تُصنف عائلة إدوارد وجين تحت مظلتها، بهيجة ومليئة بأسباب الرضا. كما تبدو بيروت قبل عقد من الحرب الأهلية مضيئة، أما فلسطين فهي ناعمة وحزينة في آن واحد قبل أن "تسقط". وفي السرديتين أيضًا، مشاعر تفيض بالحزن الكامن، ليس فقط لضياع المكان الذي كان في النهاية هو الوطن، بصورة لم تكنها مصر ولا لبنان بالنسبة لأي من إدوارد أو جين أو حتى أمهم هيلدا، ولكن أيضًا الأسى الكامن بسبب هاجس الارتحال الدائم، والقسري في كثير من الأحيان، حتى لو كان الارتحال غير خاضع لقسوة الفقر والحاجة التي حلت بكثير من الفلسطينيين بعد النكبة وتهجيرهم القسري عن أرضهم عام 1948.
الأم، الشخصية المحورية للسرديتين على اختلاف منظور إدوارد وجين، هي النموذج الأقرب لتبعات الارتحال المتكرر والحزن القادم معه. ولكن هناك أيضًا العمة نبيهة، التي تراها جين جوهر المرأة الفلسطينية، ويقول إدوارد إنها سبب إدراك أعمق لديه بالقضية، سياسيًا وإنسانيًا، وهي التي حُكم عليها بالنفي من الأرض الفلسطينية لتأتي إلى القاهرة، وتشمر ساعدي العون لغيرها من لاجئي 1948 الذين ليس لهم من الحظوظ المالية ما ييسر حياة ما بعد النكبة.
النكبة أيضًا، هي نقطة انتقال عميقة لدى إدوارد وجين. فهناك الحياة ما قبل 1948، كما تبقى محفوظة في ألبومات صور ومراسلات ورسائل العائلة والأصدقاء. وهناك الحياة المسيطر عليها هاجس أنه لم يعد هناك وطن للعودة إليه - حتى بالنسبة للأب الذي كان شغفه بالنظر إلى الأمام ينال من علاقته بالقدس، دون أن يكون هذا الشغف بالمستقبل حاميًا له من الحزن على خسارة فلسطين.
اللغة هي بدورها سياق للقلق والحيرة وتساؤلات الهوية، بما في ذلك تلك المتعلقة بفكرة الدين، في سيرة إدوارد ومذكرات جين. فكلاهما يعلم أن العربية هي لغة القلب، وربما أيضًا بمعنى ما لغة الماضي. وهي كذلك لغة حنان الأم الكامن. وكلاهما يعلم أن الإنجليزية، على كونها لغة المستعمر البريطاني سواء في فلسطين أو مصر، وعلى كونها لغته الكولونيالية التمييزية، إلا أنها في كل الأحوال اللغة الممتلكة. كتب الشقيقين مذكراتهما باللغة الإنجليزية.
وعلى هذا، فإن السرديتين تطرحان روايتين بهما الكثير من الاختلاف عن الحياة الأسرية ومعناها بالنسبة للأخ والأخت، وبالنسبة لوالديهما وأقاربهما الذين تشتتوا في الأرض بعد النكبة. وتطرح السرديتان أيضًا بدرجات ومعاني متفاوتة تبعات الطفولة والمراهقة الأولى في ظل النكبة، حتى ما قبل الإدراك العميق للمعنى السياسي.
في صعوبة أن تكون إدوارد وسعيد(ا) في ذات الوقت: المراوحة بين عالم وآخر
"هذا الكتاب هو سجل لعالم مفقود أو منسي... ومحور الكتاب هو الأرق." هكذا يكتب إدوارد سعيد جملة مفتاحية، ليس فقط عن حالة نفسية من الترقب سيطرت عليه بعد أن أخبره الأطباء تشخيصهم يإصابته باللوكيميا، ولكن أيضًا على مسار حياة سيطر عليها التردد بين اللغة والهوية والتكوين، وأيضًا بشكل ما، تصوره وفهمه لذاته.
لم يحب إدوارد، كما يخبر قارئه، اسمه الأول. ولم يفهم لماذا كان يجب عليه، وهو الفلسطيني، أن يحمل اسم أمير ويلز. ولماذا كان عليه أن يحمل اسمًا غربيًا متبوعًا باسم عائلة عربي يصعب نطق حرف العين فيه، ليتحول في أثناء دراسته الجامعية في الولايات المتحدة الأمريكية إلى "إد سآييد". كما لم يستطع إدوارد فعليًا أن يكون "إدوارد" المثالي حسب رغبة والديه، خاصة والده. كذلك، لم يستطع أن يكون سعيدًا، ربما أبدًا.
أراد كل من هيلدا ووديع، لابنهما الأول والأكبر، أن يكون ملتزمًا دراسيًا، متأنق الهندام، حسن السلوك، طموحًا، وناجحًا. بينما إدوارد، الذي لم يكن يرغب في أن يكون إدوارد، لم يرغب في الانضواء في أي إطار محجوز له مسبقًا، وبالتالي لا يشعر بالانتماء إلى أي من هذه الوضعيات المفترضة. فهو محب للشغب - أو هكذا يفهم القارئ - ولا يجد غضاضة في المحاولة والفشل أو السهو والخطأ، فالمحاولة هي جوهر وجوده.
لم يعرف إدوارد، الطفل والشاب والرجل فيما بعد، مكانًا واحدًا ينتمي إليه. ففلسطين التي كان "يسلم بها كونها الوطن" اكتملت خسارتها. والقاهرة التي عاش فيها وراقت له، لم ينتم إليها يومًا. ونيويورك، التي درس وعاش فيها، لم تكن يومًا وطنًا بالمعنى الحقيقي، رغم جنسيته الأمريكية المكتسبة بحكم ميلاده لأب يحمل هذه الجنسية. وفي تأمل ذلك الشتات الكامن في النفس، رغم تجاوز الواقع له، يدرك إدوارد أنّ شعوره بحتمية الرحيل الذي يلي الرحيل هو السبب في حمله لأمتعة تفوق احتياجه بكثير عند سفره. فهو يعيش في جغرافيا الارتحال، وعلى هامش الأطر التي فرضت عليه أو اختارها. ومع ارتباك انتمائه اللغوي وتداخل هواياته المتنوعة، تبقى حيرة المكان والانتماء عالقة في ذهنه، دون أن تُحسم لصالح أيٍّ منها.
لحظة الاستقرار النسبي التي عرفها إدوارد أتت في عام 1991 مع انخراطه في الفعل الفلسطيني السياسي، ولو بمعنى أكاديمي. وهي تلك اللحظة ذاتها التي شُخِّص فيها بمرض اللوكيميا وأدرك حينها، ولو بصورة غامضة، أن الوقت ربما يكون قد فات على الفتى الذي عاش الكثير من الحيرة والارتحال، وأن الوصول إلى "مكانه" قد أصبح أمرًا بعيد المنال.
وربما لطبيعة التجربة الإنسانية المميزة، وربما لشجاعة البوح عن ما هو قاسٍ أو حتى ما يمكن النظر إليه من البعض على أنه غير مقبول، وربما لإدراك اقتراب الموت، فإن كتاب إدوارد سعيد - كتاب حياته كما يمكن أن يسمى بالعامية المصرية الدارجة - هو كتاب مثقل بالأحاسيس والألم، وربما أيضًا هواجس ما قبل الموت، أكثر من كونه "سيرة" لواحد من أبرز المفكرين الفلسطينيين. "خارج المكان" هي قصة إدوارد كما عاشها وكما رواها، دون أي رغبة في تلبية توقعات الآخرين، أو حتى توقعاته هو نفسه. وهي أيضًا تحدٍّ عميق لقدرة الإنسان على مواجهة ذاته بكل شجاعة، بدءًا من الغوص في أعماق الذات، مرورًا بمواجهة الماضي بكل ما يحمله من ذكريات، وصولًا إلى استيعاب الحاضر بكل تعقيداته.
في التماهي مع أن تكون "جين" ولا تكون "حنة" أو حتى "هنا": خليط الشتات الممتد من منظور امرأة عربية
لا تفهم جين لماذا لم يُسمها والداها وديع وهيلدا بالاسم العربي "حنة" على اسم جدتها لأبيها. ولا تفهم أيضًا لماذا لم يختر والداها "هنا" كتنويع أكثر حداثة لـ"حنة" - بمعايير أواخر النصف الأول من القرن العشرين عند ولادتها في القدس، لأب مقدسي وأم من الناصرة. لكن جين تعرف أن أخاها الأكبر إدوارد وأخواتها البنات، روزماري وجريس وجويس، وكذلك أمها هيلدا، لديهم أسماء غير عربية، فتتساءل عما إذا كانت مرتبطة بالانتماء البروتستانتي عبر ثلاثة أجيال لعائلة الأب والأم، وما يعنيه ذلك الارتباط من تأثيرات ثقافية أمريكية حتمية تتجاوز المذهب الديني، نظرًا لارتباط هذا المذهب بمدارس الإرسالية البروتستانتية التي ترددت عليها نساء العائلتين قبل أن يقرر والدا جين أن يكون الجزء الأكبر من تعليمها وأخيها وأخواتها في مدارس "مدنية" قبل الذهاب إلى الولايات المتحدة الأمريكية للدراسة الجامعية.
تُؤطر جين في كتابها أطروحة رئيسية، من خلال مقارنة حظوظ التعليم وتطور صيغ الأسماء، وشرح تفاصيل العلاقة بين الأزواج عبر ثلاثة أجيال، مستعينة بقدر وافر من المعلومات التاريخية والأنثروبولوجية. وتروي المقدسي قصة ثلاث نساء فلسطينيات من ثلاثة أجيال: "تيتة" المولودة في العقد قبل الأخير من القرن التاسع عشر في سوريا الكبرى (التي ضمت سوريا ولبنان وفلسطين آنذاك)، وهيلدا الأم المولودة في الناصرة، وجين المولودة في القدس، والتي انتقلت إلى واشنطن بعد زواجها في عام 1962، حيث أنجبت أبناءها الثلاثة بينما كان زوجها يعمل في إحدى المؤسسات الدولية لعشر سنوات. عادت العائلة لاحقًا إلى بيروت، المدينة التي نزحت إليها الأسرة من القاهرة، بعد انقطاع الأمل في العودة إلى القدس.
الأطروحة الثانية لكتاب "الأجيال" الذي وضعته الكاتبة الفلسطينية المقيمة حاليًا في لبنان، والتي حضرت مؤخرًا إلى القاهرة (في شهر مايو - ذكرى النكبة) لمناقشة نسخته العربية الصادرة عام 2023، بعد عشر سنوات من صدور النسخة الإنجليزية الثانية، هي تسلسل الحروب وتأثيرها في نشوء الشتات الفلسطيني مع نكبة عام 1948، ثم استحكامه مع هزيمة كل الجيوش العربية عام 1967، ثم تفاقمه مع الحرب الأهلية اللبنانية التي بدأت عام 1975، رغم مقدمات تعود إلى نهاية الخمسينيات من القرن العشرين، واستمرت خمسة عشر عامًا كاملة.
تضع الكاتبة القارئ في عمق ما تعنيه مثل هذه الحروب لامرأة فلسطينية تلو الأخرى - وهو ما يختلف عما تعنيه نفس الحروب لنساء عربيات أخريات لم يخسرن أوطانهن بسبب الاحتلال الإسرائيلي. فالحروب، كما تقول الكاتبة، تنال من الأرواح، لكن النساء هن "قلاع القوة" حتى في خضم الحروب، فالنساء لا يتوقفن عن إطعام الأطفال ورعايتهم ومساندة الأزواج والقيام بمهام عديدة ربما لم تكن منوطة بهن من قبل.
لكن، كما يصف كتاب جين سعيد المقدسي، فلا حرب قاصمة كالتي كانت في عام 1948 مع النكبة الفلسطينية، ذلك الخط الفاصل في حياة جدتها وأمها وحياتها بصورة تشاركية، على الرغم من تنوع درجات القهر، والذي بلغ أشد درجات القسوة في حالة "تيتة". قبل عام 1948، كان الأهل يروحون ويجيئون في أرجاء المعمورة. ولكن بعد عام 1948، كان النفي والفقد، ثم رحيل يتبعه رحيل، وذكريات الرحيل مع أسى مقيم، رغم رفاهية الحياة، وحتى رغم تواري السياسة بدرجة غير قليلة عن السياق المباشر لحديث العائلة وشواغلها.
في قلب الرحيل، كما تقول جين، تقع مدينة القدس. ومنها كان الشتات بعد أن كانت مركز العائلة. فلم يتبق منها إلا مشاهد محزنة لما آل إليه حال البلدة، التي لم تكن يومًا قبل عام 1948 في رفاهية القاهرة، لكنها كانت دومًا أرض الوطن. ويبقى أيضًا من القدس روائح اختبرتها جين، وهي بعد فتاة في طفولتها الأولى. تتذكرها مع رائحة الياسمين وزهور البرتقال، كما تتذكر طفولتها في القاهرة مع رائحة صابون زيت الزيتون الذي كانت والدتها تحممها به، وملطفات الشعر المصنوعة من البابونج التي كانت الأم تضعها على شعرها قبل أن تجمعه في ضفيرتين.
لكن الشتات الذي يبقى مؤلمًا، بأشكال مختلفة، لم يحل دون الحياة والحلم، حتى حد الانخراط أحيانًا، كما كان الحال في اللحظة الناصرية في القاهرة في الخمسينيات من القرن العشرين. عندما فتنت هيلدا، الأم، وجين الابنة، بالحديث الناصري ووعود التحرر والتلاحم العربي.
في الوقت نفسه، فإن النكبة، كما تروي جين، لم تولد شعورًا بالغضب تجاه اليهود. فتستبقي جين الصداقة المدرسية التي جمعتها في المدرسة الإنجليزية في مصر الجديدة بالقاهرة، قبل أن تتحول إلى كلية النصر مع نظام 1952. صداقة مع فتاة يهودية، بالضبط كما كان الحال مع أبيها وأمها في صداقات جمعتهما مع أصدقاء يهود، سواء في فلسطين - حيث كانت القابلة يهودية وطبيب الأطفال يهوديًا - أو في مصر حيث كان أحد أقرب أصدقاء الوالد جواهرجيًا يهوديًا "كان يقترح عليه دائمًا الهدايا المناسبة" للأم.
في كل الأحوال، لا يبدو الدين عنصرًا حاسمًا في قصة جين، عكس جدتها ووالدتها. وهو ما جعل أبناءها يشعرون بالاندهاش عندما قررت شراء صليب ذهبي تتحلى به حول عنقها عوضًا عن صليب فيروزي معلق بسلسلة ذهبية كانت عمتها قد أهدته لها، كما فعلت مع أخواتها. كانت أمها تحرص على أن تطوق به عنق جين، وكذا الحال مع أخواتها، قبل الذهاب إلى الكنيسة في أيام الأحد. وتقرر جين، التي فقدت صليب عمتها الذي كان لها تميمة أمان أكثر من أي شيء آخر، أن ترفع عن عنقها الصليب الذهبي الجديد، لأن "المفقود لا يعوض"، سواء في حالة فلسطين أو في حالة الصليب الفيروزي، رغم بقاء الحنين والأسى على الفقد.
هذه المشاعر العميقة بالحنين والفقد تعكس بقوة موضوع الشتات الفلسطيني الذي تناولته كل من مذكرات إدوارد وجين. من خلال هاتين السرديتين المتقاطعتين، يظهر بوضوح تأثير خسارة المكان على الهوية والانتماء، وتشكلان مصدرًا مهمًا لفهم تجربة الفلسطيني، ولكن من زاوية فريدة تختلف تمامًا عن السرديات المتعارف عليها في منطقتنا. فالعائلة التي اختبرت الشتات هنا لم تكن ضحية من ضحايا اللجوء القسري بل كانت تنتمي إلى طبقة أرستقراطية خرجت طوعًا من القدس، مما أضاف تعقيدات مختلفة لتجربتهم. هذا التباين يبرز أهمية الحفاظ على الذاكرة، ويُظهر أن تجربة الشتات ليست مجرد قصة واحدة بل هي مجموعة من الحكايات المتشابكة التي تعكس تعددية الأصوات والتجارب الفلسطينية في المنفى.