من خلال فهم السياق التاريخي والسياسي والاقتصادي، يناقش كتاب بحثي نماذج الذكورة وممارستها في مصر، ولبنان، والمغرب، وفلسطين.
مايا البوطي [1]
لا يزال الجدل حول النماذج الذكورية ذات الهوية المعاصرة بتنوعها قائماً في منطقة "الشرق الأوسط"[2]ضمن البحث في مجال دراسات الجندر والهوية. ولأن الذكورة ليست نموذجاً ثابتاً وأحادي الأبعاد، بل مجموعة ممارسات وتجارب غير منتهية وتفاعل مع النفس والآخر عبر تقاطعات متعددة (اجتماعية واقتصادية وتعليمية ودينية وتاريخية...الخ) فقد أصبح البحث ضمن هذه النماذج وممارساتها سؤال أساسي يجذب الباحثين والباحثات.
ضمن هذا السعي تأتي مراجعة كتابArab Masculinities: Anthropological Reconceptions in Precarious Times، والذي أقترح ترجمة عنوانه إلى "الذكورة العربية: إعادة التفكير في مفاهيم إنثروبولوجية في أوقات الشدة"، باعتباره كتاباً حديث الإصدار يقدم رؤية تتسم بمنظور معاصر ومتجدد. يشمل الكتاب، الصادر باللغة الإنجليزية في عام 2022، عشر دراسات تتنوع بمواضعيها حول الذكورة وتسعى – كما جاء في تقديم الكتاب – إلى تحدي تنميط الذكورة في المنطقة العربية كما جرت العادة ضمن دراسات الاستشراق.
فضاءات منفصلة تعزز النمطية
في تقديم الكتاب، تقول محررتا الكتاب الدكتورة كونستانتينا إيزيدوروس ومارسيا سي إنهورن، إن دراسات الأنثروبولوجيا ساهمت بتثبيت صورة الرجل في الشرق الأوسط بوصفه الآخر الخطير والعنيف، وهذه الصورة تجد جذورها منذ أيام الصليبين. وتشير المحررتان إلى أن إدوارد سعيد، وهو أستاذ في الأدب في جامعة كولمبيا ومنظر فلسطيني أمريكي، استطاع في تحليله اللامع الذكاء للاستشراق، تفكيك رؤية الغرب لما يدعى بالشرق. فتبعاً له يَنظر الغرب للنساء في الشرق كأنهن مخفيات خلف ستار وتتم السيطرة عليهن من قبل الرجال.
كما تستدل المحررتان بأعمال ليلى أبو اللغد التي تقول إن هناك ثلاث مسارات شائعة نزعت نحوهم النظرية الأنثروبولوجية، أولها الاهتمام بدراسة قبائل المنطقة، ثم دراسات الإسلام، والتي باتت ككناية عن المنطقة ككل. وأخيراً، برزت دراسة الحريم التي تنطلق من منظور فصل الجنسيين وتنحية النساء إلى حيز الفضاء الخاص.
تركز هذه الرؤية -بحسب مقدمة الكتاب- على الفصل بين الفضاء الخاص والعام في الشرق الأوسط، كنتيجة لفصل قوتين أساسيتن في البحث. فحتى 1980 سيطر الباحثون من الذكور على مجال الأنثروبولوجيا، وكان لهم اهتمام خاص بموضوع حياة البداوة والقبائل والقيادة السياسية ومنهم (طلال أسد، وفريدرك بارث، وروبرت فيرني… الخ). إذ اهتم الباحثون بسلطة الرجال وبالسيطرة والعنف والتي هي من المفردات التي استخدمت في عناوين كتبهم. ووصفوا الرجال في تلك المناطق بالشيخ والقديس والبطل ومايعرف بالمقاتل ومحارب القبيلة، مما ساهم بتقديم نماذج نمطية استمرت حتى التسعينات. أما الرجولة المرتبطة بالحياة الاعتيادية فلم تكن تعني هؤلاء الباحثين، كما لم يكن لديهم اهتمام بدراسة العلاقة بين الرجال والنساء مبررين ذلك بعدم قدرتهم على الوصول لعالمهن.
في السبعينات ومع رواج الموجة النسوية الثانية ودخول عدد كبير من الباحثات في هذا المجال، ولاحقا تأسيس جمعية دراسات المرأة الشرق أوسطية في الثمانينات، بدأ الاهتمام بقضية المنظومة الأبوية وبسلطة الرجال على النساء ليصدر عدد من الكتب التي اهتمت بالشاعرات وبسرديات القصص من إنتاج النساء وعنهن والتراث النسائي المحكي وبعلاقة الإسلام بالنساء وغيرها. لكن في معظم هذه الأعمال، لم يظهر الرجال كأباء وأشقاء وأزواج وكأصدقاء ونادراً ما كان يتم تمثيلهم. في المحصلة فإن الباحثين والباحثات اللواتي والذين ركزوا على هذه الفضاءات المنفصلة بين النساء والرجال قد ساهمن/وا بتعزيز صور تنميطية عن الرجال تظهرهم بمظهر القامع المسيطر.
صور مغرضة عن الذكورة
تقدم المحررتان أمثلة إضافية تلت دراسة الاستشراق، فمن ضمن الجيل الجديد من باحثي وباحثات الأنثروبولوجي نجد دراسات بول آمار والتي تبحث في الصور المغرضة حول جيل الرجال المعاصر في الشرق الأوسط بطريقة بعيدة عن التنميط، حيث تظهر انخراطهم في صناعة التغيير في الشرق الأوسط من خلال مساهمتهم في ثورات الربيع العربي. وتبين المحررتان أنه مع وجود مفهوم الذكورة المهيمنة، المرتبطة بالذكورة السامة، تم تنميط الرجال في الشرق الأوسط بذكورة تتصف بعدد من الصفات على رأسها العنف. فضمن دراسات الأنثروبولوجيا للشرق الأوسط، التي اعتمدت نموذج راوين كونيل للذكورة المهيمنة، غالباً ما تم تصنيف الرجولة المهيمنة في هذه المنطقة، باعتبارها نموذجا ساما وغيري الجنسانية وذات سلطة على النساء والمجموعات المثلية.
لكن مع بداية الألفينيات، ظهرت مدارس أنثروبولوجية بحثت في الذكورة وفي معنى الرجولة ضمن الواقع المعاش وفي علاقتها مع المثلية وهنا برزت دراسات ماثيو جوتمان والذي انطلق في بحثه من العمل على مفهوم الرجولة ومعنى الفحولة عند الرجال اللاتينين (من أصول في قارة أمريكا الجنوبية) إلى دراسة الذكورة الخاصة بالمثليين اللاتينين في فترة الإيدز.
شملت هذه الموجة من دراسات الذكورة منطقة الشرق الأوسط، ومن الكتب التي صدرت في تلك المرحلة، كتاب Dislocating Masculinity: Comparative Ethnographies. وشمل الكتاب دراسة عن مفهوم الشرف والعار واحساس الضغط النفسي الذي قد يعيشه بعض الرجال فيما يسمى "ليلة الدخلة". ومنها أيضاً، دراسة تبين الضغط الذي يعايشه بعض الذكور الغيرين والذين يعبرون عن هشاشة ما، بالتالي، يتعرضون للتمييز ضدهم. وركزت معظم الدراسات في هذه الفترة على موضوع الجيش والعسكرة والذكورة ضمن هذه المنظومة.
مساعي للإنصاف
بحسب المحررتان، نجد فيما بعد أنه تم إنتاج عدد من الكتب الأنثروبولوجية والتي تميزت بقراءة العلاقة بين الرجال والنساء في حيز التفاعل اليومي والمُعاش وضمن تجربة الواجبات المنزلية وكيفية تشارك أعبائها. ومما يميزها أيضاً، أنها من تأليف باحثات في الأثروبولوجيا. ومنها كتاب "الرجل العربي الجديد" للباحثة مارسيا إنهرون، والذي يبحث في تجارب الرجال مع الإنجاب والخصوبة وتقبلهم للتكنولوجيا التي تساهم في الإخصاب في حالات عدم القدرة عليه.
تقودنا هذه المقدمة التعريفية بمنهجية بحث دراسات الأنثروبولوجيا في الشرق الأوسط حول موضوع الذكورة، لفهم سبب أهمية كتاب "الذكورة العربية". حيث يسعى الكتاب لتفادي قصور الأبحاث الأنثروبولوجية سابقاً، في محاولة لإعطاء صورة أكثر إنسانية للرجال بعيداً عن النمطية المتبعة في المنطقة. ينطلق الكتاب في سعيه للبحث في الذكورة من قراءة السياق التاريخي المعاصر لمنطقة الشرق أوسط، التي تعرضت لحروب كبرى وحالات طوارئ متعددة وباتت مصدرا أساسيا لأكبر موجة هجرة ولجوء ونزوح مؤخراً بعد تبدد الأمل بربيع مقبل.
من هنا يأتي اختيار تعبير أوقات الشدة أو الأوقات الحرجة الذي اقترحته كعنوان للكتاب باللغة العربية، لكونه يبحث في قدرة الرجال على النجاة ضمن هذه الظروف وعلى قدرتهم، خاصة من يزل يقطن في بلده، على مجاراة ضغوط الحياة الاقتصادية والسياسية بعد عقد من الصراع والمعاناة.
تقدم المحررتان، واحدة من الدراسات المهمة التي بحثت في مفهوم الذكورة في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وهي دراسة أجريت من قبل هيئة الأمم المتحدة للمرأة وعدد من المنظمات الأخرى. وبحثت في التجارب المعاشة للرجال بطريقة مقارنة. تعتقد المحررتان أنه تم استقبال هذه الدراسة بطريقة سلبية خاصة في الإعلام الغربي، ومن ذلك تعليق مجلة ذي إيكونوميست البريطانية، "يتمسك الرجال العرب بالأبوية ليبقوا في منطقة الراحة الخاصة بهم".
وتتابع المحررتان، ضمن ظروف اقتصادية صعبة مابعد عام 2011، يجد الرجال العرب أنفسهم في مواجهة أوقات حرجة، فيها عدم استقرار سياسي وعنف يهدد حياتهم وأمنهم وقيمهم الأخلاقية وتطلعاتهم المستقبلية وحقوقهم الإنسانية والسياسية وكرامتهم بشكل عام. وتقتبس المحررتان من جوديث بتلر، باحثة علم الاجتماع الشهيرة، في وصفها لمفهوم أوقات الشدة في كتابها "أطر الحرب"، حيث تقول، "نتيجة الظروف السياسية الصعبة التي يجد نفسه ضمنها قطاع من السكان حيث يعانون من فشل شبكات الدعم الاقتصادي والاجتماعي وبهذا يصبحون عرضة للإصابة والعنف والموت. هذه الفئات هم أكثر عرضة للأمراض والجوع والنزوح والتعرض للعنف دون وجود حماية".
ومن خلال فهم السياق التاريخي والسياسي والاقتصادي، تناقش الدراسات التي يشتمل عليها الكتاب الذكورة ونماذجها وممارساتها فيما بعد عام 2011 في مصر، ولبنان، والمغرب، وفلسطين.
يركز القسم الأول في الكتاب على الذكورة ضمن الصراع الطبقي وغياب الأمان الاقتصادي. ومن هذه الدراسات، يأتي البحث الذي يدور حول الرجال من الطبقة الوسطى في الاسكندرية في سعيهم لتطوير التواصل في علاقتهن مع الخطيبة أو الزوجة. وكيفية رفضهم لبعض التقاليد للجيل القديم والتي تكشف عن عجز في التواصل مع الأبناء والبنات والزوجات. في المقابل، يقرأ هذا الفصل في كيفية ابتعادهم أيضاً عن نماذج من الرجولة ترتبط بالطبقة العاملة والتي يشكل الآخر الذي ينظرون له بتعالي ونوع من الإزدراء. وبهذا تعكس هذه الدراسة كيف عززت الظروف الاقتصادية الصعبة في مصر بعد عام 2011، التوتر الطبقي فيها.
وتبين الدراسة الثانية في الكتاب كيفية استقبال أبناء الطبقة العاملة في مصر للطريقة التي يمثلهم بها الإعلام. ومن ذلك، كيفية تفاعلهم مع مسلسل الأسطورة وبطله محمد رمضان، وسبب إعجابهم أو عدمه، بطريقة تمثيل البطل الشعبي التي ترتبط بالعنف والانتقام. فمقابل رفض أبناء الطبقة الوسطى لهذا العمل وللقيم التي تحاول تقديمها، تماهى أبناء الطبقة العاملة مع هذه الشخصية الشعبية العنيفة بما ينم عن رفضهم لوصمهم وتحدي تنميطهم بتبني العنف.
يدور القسم الثاني من الكتاب حول التهجير والانتقال والاستقرار ومعنى الإنتماء. ومنه الفصل الخامس الذي يبحث في معنى الأبوة عند المهاجرين العرب في الدنمارك والضغط الذي يواجهونه من الافتراضات المسبقة ضدهم وخاصة من قبل المنظومة التعليمية لأبنائهم وبناتهم. ورغم استثمار هؤلاء الأباء في تربية أطفالهم إلا أنهم يتعرضون للتمييز في حالات كثيرة. وكذلك الفصل السابع الذي يتمعن في رمزية غطاء الوجه للرجال الصحراوين في شمال افريقيا والذي يمتلك خصوصية هامة لدى هذه الفئة.
يبحث القسم الثالث من الكتاب في معنى الذكورة ومستقبل العائلة والجنس والزواج والأبوة تحت التهديدات المتنوعة. ومنها الفصل الثامن الذي يناقش كيف تصيغ النساء الطرابلسيات رؤيتهن للنموذج الأمثل للزوج المستقبلي بناءاً على معايير وطنية. ومن ضمن هذه الرؤية يتم التعاطي مع نموذج اللاجئ السوري كالآخر الذي يتم التعالي عليه. وتضع الظروف الاقتصادية وارتفاع نسبة البطالة الرجال اللبنانين في حالة من العجز تشبه حالة العجز لنظرائهم من اللاجئين السوريين والفلسطينيين، ولكن ذلك لا يلغي تميز اللبناني (ابن البلد) ضد اللاجئين حتى وإن كان بعض اللاجئين أفضل حالا من اللبناني.
أخيراً، يشكل كتاب "الذكورة العربية" جهداً لرصد معاني الذكورة في منطقة الشرق الأوسط في مرحلة تاريخية مضطربة سياسياً واقتصادياً. في نهاية مقدمة الكتاب، توضح المحررتان تقديرهما للرجال في هذه المنطقة لسعيهم لإيجاد حلول لمعضلات كبرى وخاصة بعد جائحة كورونا حيث سعوا للوقوف مع أحبتهم ومساندتهن/م في ظل غياب سياسات اقتصادية واجتماعية عادلة. علماً أننا ما زلنا بحاجة إلى المزيد من الجهد ضمن دراسات الذكورة، للتمكن من تقديم حلول لمعضلات تعاني منها منطقة الشرق الأوسط وشمال افريقيا ضمن عجز سياسي واقتصادي، حيث يشكل هذا النوع من الدراسات مدخلاً لاستشراف مستقبل يحمل الأمن والسلام والعدالة الاجتماعية والجندرية.