يقدم كتاب "خلل عربي: الثقافة التكنولوجية، أجساد رقمية وأرشيفات" لليلى شيرين صقر سردية جديدة ومبتكرة لفهم الثورات العربية. تعتمد الكاتبة على مفهوم "الخلل" لتفسير كيفية استغلال الناشطين للثغرات في الأنظمة الرقمية لمقاومة القمع وبناء مجتمعات افتراضية.
أحمد بلال القطّي[1]
تحاول الدكتورة ليلى شيرين صقر، في كتابها "خلل عربي: الثقافة التكنولوجية، أجساد رقمية وأرشيفات"[2] طرح سردية بديلة لما شهدته المنطقة العربية في بداية القرن الواحد والعشرين من طفرة إبداعية تكنولوجية في سياق العولمة، وذلك من خلال التعمّق في عمليات التداخل والتقاطع بين التكنولوجيا والسياسة والثقافة في العالم العربي، مع التركيز على الأحداث الثورية التّي شهدتها المنطقة منذ 2011.
تستعير صقر من المجال التكنولوجي مفهوم الخلل (Glitch)، وتقترحه بوصفه مفهومًا رمزيًا محوريًا لفهم وتفسير تلك الأحداث في الفضاءين الافتراضي والواقعي، موظّفة عددًا من الروايات الشخصية وقاعدة ضخمة من البيانات الرقمية باللغة العربية (R-Shief) [3] للكشف عن مساهمة الأدوات الرقمية ووسائل التواصل الاجتماعي في تشكيل الناشطية العربية ومقاومة مختلف أشكال القمع. كما تلقي الضوء على التحديات التّي تواجهنا خلال العصر الرقمي وتداعياتها على الحركات الاجتماعية والسياسية في المنطقة العربية والعالم.
في طيّات الكتاب
صدر هذا الكتاب باللغة الإنجليزية في صيف عام 2023 عن دار نشر جامعة ستانفورد، وجاء في 194 صفحة، موزعًا على خمسة فصول بالإضافة إلى مقدّمة وخاتمة. حاولت الكاتبة تقديم سرد متشابك للروايات الشخصية والتحليلات التاريخية والثقافية حول موضوعات مثل الثورة والهويّة الثقافية وتأثير التاريخ الاستعماري على الحاضر. استندت إلى رؤى أكاديمية مختلفة لتقديم رؤية شاملة لتأثير التكنولوجيا على المجتمع والسياسة والثقافة في العالم العربي.
جاءت المقدّمة بعنوان "تطبيقات النسوية التقنية في سياق ما بعد الإنسان"، ومثّلت محاولة لاستكشاف تقاطعات التكنولوجيا والنسوية وتأثيراتها في حياتنا اليومية في سياق العولمة، من خلال التعمّق في مفهوم "الأجساد البيانية الرقمية" (Data Bodies) وأهمّيته في العلاقات العابرة للحدود الوطنية، على غرار الكيان الرقمي للكاتبة "أمّ أمل" VJ Um Amel، ودور هذه الكيانات في عالم يعتمد أساسًا على البيانات. كما تشير الكاتبة إلى الدور المهمّ للعمل الجماعي للمبرمجين في تشكيل البرمجيات الحرّة ومفتوحة المصدر ضمن سياقات رقابة الدولة.
قدم الفصل الأوّل المعنون بـ"خلل في عصر الثقافة التكنولوجية"، محاولة للتعريف بالثقافة التكنولوجية منذ التسعينيات، من خلال تتبّع مراحل تطوّر التكنولوجيا وشبكة الإنترنت (Web1.0 - Web 2.0). كما ناقش تجسيد شخصية أمّ أمل (VJ Um Amel) للحساسية العابرة للمحلّية، ويستكشف مفهوم الخلل فيما يتعلق بالبنية التحتية والمقاومة والفنّ. يتتبّع هذا الفصل أحداث مذبحة ماسبيرو في القاهرة عام 2011، ودور وسائل التواصل الاجتماعي في تحدّي نمط إنتاج المعرفة المهيمن.
تناولت صقر في فصل "أجساد بيانية عربية" مفهوم أجساد البيانات العربية كموضوع أساسي للتحليل. واستعرضت فيه كيف ظهر جيل جديد من الناشطين في ظلّ أنظمة سياسية قمعية مثل نظام حسني مبارك في مصر، مستخدمين التكنولوجيا والهويّات الهجينة لتحدي هياكل السلطة القائمة. سلطت الضوء هنا على أهمّية سجلاّت البيانات في تشكيل الهويات الفردية والحركات الاجتماعية، خاصة خلال الثورات العربية عام 2011.
استكشف الفصل الثالث المعنون بـ"النشاطية الرقمية"، القوّة التحويلية لوسائل الإعلام الرقمية في الحركات الاجتماعية العربية. إذ تدور الفكرة الرئيسة حول كيفية استخدام الناشطين للتكنولوجيا لإيصال أصواتهم، وتحدي الأنظمة القمعية، والتعبئة الشعبية أو المجتمعية من أجل التغيير. تشير الكاتبة هنا إلى التطبيقات النسوية المبتكرة للوسائط الرقمية من خلال قصّة "منتدى فتكات" الذّي بدأ بمثابة فضاء تتبادل فيه 3 أخوات وصفات الطعام وسرعان ما تحوّل إلى الفضاء الأبرز للتواصل بين النساء في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. إضافة إلى مبادرات أخرى مثل منتدى "سوبر ماما" وموقع خريطة التحرّش ( (HarassMapالذي استخدمت فيه البيانات المجمّعة لرسم خريطة لحوادث التحرش الجنسي في مصر، الأمر الذّي مثّل أداة للمناصرة والوقاية والاستجابة لجريمة التحرّش.
في الفصل الرابع، "التجميع كأرشيف" تأخذنا الكاتبة في رحلة بين ليبيا وغزّة، مقترحة مفهوم التجميع كوسيلة لدمج البيانات لأغراض الأرشفة. تبرهن صقر، من خلال التنبؤ بسقوط نظام القذافي في ليبيا، كيف أنّنا نعيش في عصر تكنولوجيات نشطة وتفاعلية ذات إمكانات معرفية ضخمة. ومن خلال تقنيات مثل "معالجة اللغة الطبيعية" (NPL) توضح كيف تختزل التكنولوجيا والخوارزميات شفرات رقمية معقّدة تسهم بشكل متزايد في إنتاج الحياة اليومية.
جاء الفصل الخامس، بعنوان "الممارسة الفنية"، مستعرضًا الأساليب الإبداعية التّي يتحدّى بها الفنّانون الممارسات الفنية التقليدية في العصر الرقمي، من خلال التركيز على الأبعاد الجمالية للخلل الذّي يسهم في إنتاج أشكال فنية غير تقليدية تنتقد وتعيد تشكيل المعايير الثقافية. تسرد الكاتبة في هذا الفصل قصّة مبادرات فنّية رائدة مثل "كايرو دوكيومنتا"، كما تشير إلى دور فنّانين مصريين مثل مروان فايد ومحمد علاّم وأحمد الشاعر، في مساءلة السلطة والرموز الثقافية والموروثات الاستعمارية من خلال استخدام التركيبات الصوتية والتطبيقات البرمجية وتركيبات الوسائط المتعددة في أعمالهم الفنية. من خلال هذه الأمثلة، يسلّط الفصل الضوء على كيف يمكن للتجريب في الفنّ أن يقدّم وجهات نظر جديدة حول القضايا المجتمعية ويتحدّى المؤسّسات الفنّية الراسخة. تنهي صقر الكتاب بخاتمة جاءت على شكل استنتاج عنونته بــ "أصلح ديمقراطيتك"، حاولت من خلاله استكشاف القوة التحويلية لـ"مقاومة الخلل" والنشاط الرقمي في تشكيل الثقافة التكنولوجية العالمية.
يعكس الكتاب الترابط بين التاريخ والتكنولوجيا والحركات الاجتماعية، مع التركيز على أهمية التأليف المجتمعي في تحدّي هياكل السلطة التقليدية. ومن خلال تتبّع الأحداث المحيطة بهجوم 6 كانون الثاني/ يناير 2021 على مبنى الكابيتول الأمريكي، تشير صقر إلى مواطن الخلل في النظم القائمة ودور الحقائق المختلطة التّي نستهلكها في طمس الحدود الفاصلة بين الديمقراطية والاستبداد. وتختتم بالتأكيد على أهمّية مشاركة الأفراد بنشاط في إصلاح الديمقراطية من خلال محو الأمّية التكنولوجية واستثمارها في الحركات المستقبلية في عالم على وشك التلاشي.
أجسادنا على المحكّ[4]

"الإنترنت.. ليست مجرّد وسيط محدّد، بل هي نوع من التنفيذ الفعّال لتقنية تصميم قادرة على التعامل مع انفتاح الأنظمة. لقد أنبأ تصميم الإنترنت مسبقًا بتكوين فضاء إلكتروني إمبريالي جديد، تتمثّل مزيّتهُ الرئيسة في الانفتاح، الذّي يمثّل أيضا ميلًا مبدئيًا للتوسّع"[5]
لقد انتصرت التكنولوجيا لأنّها أغرتنا منذ الوهلة الأولى بالإمكانات التّي تقدّمها لنا، ثمّ أربكتنا بتعقيداتها قبل أن تستقر أخيرًا في ثقافتنا باعتبارها أمرًا بديهيًا. وغدت آثارها ونتائجها وأسلوبها في التفكير جزءًا لا يتجزّأ من حياتنا اليومية. حتّى أنّها أرغمتنا على إنشاء أجساد بيانية تخضع لمنطق الخلل والتشويش الذّي يحكمها، وأربكتنا بتضادّاتها الثنائية المتمثّلة في الافتراضي والواقعي، والتحوّل والاستمرارية التّي أصبحت تمثّل جدلاً قائمًا بذاته. هذه النزعة الثنائية هي التّي أصبحت تحكم العلاقة المضطربة بين التكنولوجيا والمجتمع والثقافة. وكلّما قاومنا تلك النزعة، كلّما اتّضحت فوضى البيانات ومكامن الخلل في المشاهد الاجتماعية الرقمية الجديدة.
إنّ هذا الواقع المستجدّ، الذّي يدفعنا للتفكير في العلاقة السببية التّي يكون فيها قدر كبير من التفاعل غير معروف ومعقّد على نحوٍ غير مفهوم، خلق نوعًا من الصراع الخفيّ بين قطبين رئيسين، طرف يسعى للسيطرة عبر الرقابة الصارمة، وآخر يسعى للانعتاق عبر أساليب مقاومة مبتكرة. وفي اللحظة التّي يطفو فيها هذا الصراع على السطح، تصبح أجسادنا في الواقع على المحكّ، وتتحوّل بيانات أجسادنا الرقمية إلى أدلّة تديننا.
إنّ الغائب الحاضر في هذا الكتاب هو المدوّن المصري ومطوّر البرمجيات علاء عبد الفتّاح. تسعى ليلى شيرين صقر، لتسليط الضوء على الواقع الذّي يعاني منه الناشطون العرب، وذلك بتقديم روايتها الشخصية لجملة من الأحداث التّي جمعتها بعدد من هؤلاء الناشطين الذّين علت أصواتهم على غرار علاء في الفضاء الرقمي خلال حكم نظام الرئيس المخلوع حسني مبارك، كنوع من المقاومة ضدّ الرواية الرسمية التي تستخدمها وسائل الإعلام الحكومية من خلال هويّات هجينة تنبع من الواقع المَعِيش من جهة وتسهم في تشكيل العالم الرقمي من جهة أخرى.
تترابط وتتقاطع هذه الأحداث جميعها في قصّة علاء الذّي يظهر بصفته شخصية مركزية في شبكة العلاقات التّي تحيكها الكاتبة. علاء، الذّي يقبع حاليًا في مركز الإصلاح والتأهيل في وادي النطرون بعد أن كان محبوسا في منطقة سجون طره بسبب نشاطه المعارض. شارك منذ عام 2004، رفقة المدوّنة، وزوجته السابقة، منال حسن، في تأسيس أولى المدونات، وأسهموا في التعريف بمدونات الناشطين الرقميين المصريين والعرب، وساعدوا في نقل وتبادل المعرفة.
كان علاء في طليعة مجموعة من الناشطين المنخرطين في الحركات الاحتجاجية والنضال من أجل التغيير السياسي، بدءًا من الدعوة إلى قضاء مستقل في مصر إلى استخدام النشاط الرقمي عبر المدونات ومنصّات التواصل الاجتماعي. الأمر الذّي أسهم بشكل كبير في ظهور مفهوم صحافة المواطن وارتباطه بالنشاط الرقمي، وأدى إلى خلق جيل جديد من الناشطين الملتزمين بالتغيير الاجتماعي، حاملًا خطاب ناقد للتوجّهات النيوليبرالية مع التأكيد على أهمية المشاركة على الأرض على الرغم من خطر مواجهة السجن.
إنّ تناول قصّة علاء يؤكّد، من وجهة نظر صقر، على استدامة الجانب المادي في العصر الرقمي. وهذه العودة إلى المادّيات، لا تقتصر على الظروف المعيشية فحسب، بل تمتد إلى التعامل القاسي والقمعي أحيانًا مع الأدوات والعمليات والممارسات التّي ترتبط بالواقع الذّي تتخلّله التكنولوجيا الرقمية.[6] إنّ التكنولوجيا، كما تصورها صقر، تستحضر الثنائيات المتفائلة والمتشائمة في حيواتنا والأحداث التّي تدور فيها، والتّي تستدعي مناقشات في طبيعة التقاطعات التّي تنشأ بين حضورنا في الواقع الافتراضي وتأثيراته في حياتنا الشخصية ومساراتها. وبتبني مقاربة نقدية، يحيلنا الكتاب إلى قدرات الفضاء الإلكتروني على إنتاج أشكال جديدة من التشبيك مع ناشطين ومجموعات عابرة للحدود، وقوّة التأثير التحويلي للتفاعلات والعلاقات المحكومة بالوسائط في عالم معولم.
الاستثمار في الخلل: البحث عن الحرّية داخل فوضى النظام
دفعني الكتاب، بصفتي باحثًا في علم الاجتماع، إلى طرح تساؤلات جوهرية، لكنّ السؤال الأبرز يرتبط بالمفاهيم السوسيولوجية السائدة وما إذا كانت لا تزال تفي بالغرض في عصر التكنولوجيا أم أنّها أثقلت دلاليًا إلى درجة فقدان مدلولاتها الأصلية عبر التطبيقات الجديدة والسياقات الاجتماعية المتغيّرة؟ يثير الكتاب مجموعة من التساؤلات التي يحاول الإجابة عنها؛ كيف تشكّل التقنيات الرقمية الممارسات الثقافية والحركات السياسية في العالم العربي وكيف تؤثّر فيها وتعطّلها؟ ما هي انعكاسات مواطن الخلل والتسريبات وأجسام البيانات على النشاطية والتغيّر الاجتماعي في المنطقة؟ وكيف يتموقع الأفراد في المجتمعات العربية ويتحرّكون بين التقاطعات التّي تنشأ بين التكنولوجيا والبيانات والحركات الاجتماعية والسياسية؟ وما هو دور الأرشيف في توثيق وحفظ تراث النشاط الرقمي في المنطقة العربية؟ وأخيرًا، كيف يمكن للدروس المستفادة من التجربة العربية مع التكنولوجيا أن تكون بمثابة دليل لتجاوز العقبات المستقبلية المجهولة للتحوّلات الرقمية على مستوى العالم؟
يعد مفهوم الخلل سواء في المجال الرقمي أو مجازيًا بالشكل الذّي تسقطه صقر في هذا السياق، مفهومًا مركزيًا في عملية الإجابة عن هذه التساؤلات. فالخلل، وفقًا لصقر، يتجاوز الأخطاء التقنية التّي قد تحدث في البيانات التّي تتشكّل منها الشبكات الرقمية، بل يتسرّب إلى الأنساق والبنى التّي تشكّل عالمنا في الاقتصاد أو السياسة أو الاجتماع. يرتبط هذا المفهوم بقضايا السلطة والمراقبة والمقاومة والفنّ، ممّا يسلّط الضوء على الآلية التّي تتيح لمن يتخفّون في حالات الخلل التّي تحدث في النظام تحدّي الاقتصادات المهيمنة في إنتاج المعرفة والكشف عن الجوانب غير المرئية من المشهد الاجتماعي والسياسي والتقني.
إن استخدام الكاتبة لكلمة "خلل" ليس اعتباطيًا، بل ينبع من السياقات التاريخية والثقافية والتكنولوجية في التسعينيات، حيث تيّار فنّي جديد يعتمد على الخلل والمقاومة بالخلل -أي القرصنة - كردود فعل على التحديات المجتمعية والسياسية والتكنولوجية التّي كان المبرمجون والمدوّنون الأوائل يواجهونها. إن مصطلح "خلل" متجذّر أيضًا في تجارب صقر الشخصية كشاعرة، ومدوّنة، ومهاجرة اختبرت ردّة الفعل الأمريكية مع المهاجرين العرب في الولايات المتّحدة إبّان أحداث 11 سبتمبر، وهو مصطلح يعكس أيضًا رحلة الكاتبة عبر المساحات الرقمية وأرشيفات البيانات، والحركات الاجتماعية، والثقافات التكنولوجية العالمية.
يستكشف الكتاب مفهوم الخلل بصفته عدسة نقدية لفهم المنطق التشغيلي للأنظمة. تظهر مواطن الخلل عندما تتعطل الأنظمة أو تفشل، ممّا يجعل الهياكل الأساسية مرئية بشكل واضح. وفي سياق الأنظمة العالمية النيو-ليبرالية، تصبح مواطن الخلل واضحة بشكل خاص في المراكز الحضرية مثل القاهرة وبيروت وإسطنبول. يتعمّق الكتاب في كيفية كشف مواطن الخلل في البنية التحتية الحضرية عن مجتمعات جديدة، وأشكال السلطة، وأشكال التضامن الجديدة بين الناشطين.
إن الخلل، في هذا السياق، يتجاوز الخلل التكنولوجي؛ ليصبح رمزًا للمقاومة والتمكين، خاصة في المجال الرقمي. فقد استغل الناشطون مواطن الخلل لتحدي القوى المهيمنة والمطالبة بالتغيير. على سبيل المثال، خلال الثورة المصرية في عام 2011، التقط الناشطين مقاطع فيديو توثق انتهاكات الجيش بحق المدنيين وتداولوها على نطاق واسع، متحدّين الرواية الرسمية ممّا أسهم في فضح ممارسات الدولة العنيفة. يمكن اعتبار هذا الفعل المقاوم عبر وسائل التواصل الاجتماعي بمثابة خلل يعطّل النظام القائم ويتيح مجالاً للأصوات المقموعة.
من خلال اعتماد الخلل كعلامة سيميائية، ينتقد الكتاب فكرة أن الاختلاف يُبنى دائمًا في الآلة،[7] مع التركيز على كيف يمكن لمواطن الخلل أن تدمّر هياكل السلطة. استخدم الناشطون والمبرمجون والتقنيون مواطن الخلل لتحدّي الأنظمة الاستبدادية، وزعزعة استقرار نماذج الشركات العابرة للقارّات، ونشر المحتوى الثوري. ومن خلال مزيج من المعرفة الإجرائية، والنشاط الرقمي، والمشاركة المجتمعية، استخدم الناشطين مواطن الخلل كأدوات للحرية والديمقراطية، ممّا سلّط الضوء على الترابط بين العالمين الرقمي والفعلي في كفاحهم ضد القمع.
عصر الثقافة التكنولوجية والأشكال الجديدة للفنّ
"إن الخلل هو المفتاح الّذي يمكّننا من تحدّي واقعنا والحكم المتلقّات فيه."[8]
أصبحت التكنولوجيا الرقمية جزءًا لا يتجزّأ من الممارسة الفنّية. وقد شهد القرن الحادي والعشرون تطوّرات هائلة في الأذواق والأشكال الفنّية بالاعتماد على الأرشيفات الرقمية، وقواعد البيانات المتاحة على شبكة الإنترنت، ورقمنة الصور والفيديو. كما ألهمت الثورات في المنطقة العربية، جيلًا كاملًا من الفنّانين والفنّانات، ما سمح بظهور مبادرات فنّية مستقلة أسهمت في ازدهار الإنتاجات الفنّية. وقد اقتحم هؤلاء الفنّانون الشبّان المجال الرقمي هربًا من السياسات المقيّدة للحرّيات والإبداع وهربًا من الرقابة على الفنّ. ممّا سمح بظهور نوع من الناشطية الفنّية التّي أتاحت ساحات حيوية للإبداع والتفكير النقدي المشتبك مع قضايا الواقع من أجل نشر الوعي والتغيّير عبر تحدّي السرديات المهيمنة.
يتعمّق الكتاب في كيفية استخدام الخلل بأسلوب فنّي لفهم العلاقة المتشابكة بين السياسة وعلم الجمال. إذ يسمح هذا الخلل للمنطق التشغيلي للأنظمة بأن يصبح مرئيًا من خلال نتوءاتها وإخفاقاتها، ممّا يوفر عدسة نقدية لدراسة بؤس العالم. يسلّط الكتاب الضوء أيضًا على كيف يمكن للفن الاعتماد على الخلل في أشكال مثل تركيبات الفيديو والعروض الحيّة والفنّ الرقمي لتحدّي الأنماط الكلاسيكية لإنتاج المعرفة، كما يكشف أيضًا عن التفاعل بين البنى التحتية والمحتوى عبر سياقات ثقافية مختلفة. من خلال التعامل مع نظرية الخلل واستكشاف جمالية الأخطاء الفنية، يوضح الكتاب كيف يعطّل فن الخلل التمثيلات البصرية التقليدية ويقدّم إمكانات جديدة للتعبير الفني في عالم الثقافة التكنولوجية.
غزّة: توثيق الفناء وأرشفة الألم والذاكرة
تستكشف ليلى شيرين صقر الديناميات المراوغة للعالم الرقمي، حيث تتلاقى الحقيقة والوهم عبر "مواطن الخلل" لتشكّل أدوات للمقاومة وإعادة صياغة السرديات القائمة. في ظلّ حرب الإبادة المستمرّة في غزّة، يغدو الفضاء الرقمي ميدانًا لتوثيق الإبادة الجماعية، حيث تتسلّل الصور والشهادات عبر خيوط الشبكات الاجتماعية، لتصبح شاهدًا حيًا على الجرائم الصهيونية التّي ترتكب ضدّ الإنسان الفلسطيني.
في هذا الفضاء المترامي، تصبح صور الإبادة الجماعية أكثر من مجرّد لحظات زمنية جامدة؛ إنّها ندوب مفتوحة على الشاشة، تحكي قصصًا من الألم والعذاب. وجوه خائفة، أجساد منهكة، وأعين فقدت بريقها، كل صورة وصرخة تختزل عذابات شعبنا الفلسطيني في غزّة المنكوبة، تكسر جدار الصمت، وتكشف عن حجم الوحشية الصهيونية التّي لا تستطع الكلمات وحدها التعبير عنها. هذه الصور لا تتحدّث عن الماضي فحسب، بل تقتحم الحاضر بكلّ ثقلها، تُثقل على كاهل الذاكرة، وتفتح جروحًا جديدة في كلّ مشاهدة. وبينما يحاول البعض طمس هذه المشاهد أو تشويه معالمها، تظلّ الأجساد الصامتة المنثورة عبر الشاشات شاهدة على الحكاية الأليمة، تعيد تشكيل الوعي وتدفعنا نحو الاعتراف والعدالة، حتّى وإن كانت الحقيقة معرّضة دائمًا لخطر الضياع وسط طوفان من الصور المتناقضة.
إنّ هذا الأرشيف الرقمي، المكوّن من لقطات عابرة وتعليقات متفرّقة، ليس مجرّد سجلٍ توثيقي، بل هو ذاكرة جمعية تتحدى الفناء والنسيان. بالرغم من ذلك، يبقى هذا الأرشيف هشًّا، حيث يمكن لمواطن الخلل أن تطمس معالم الحقيقة وتسمح للسلطة بإعادة تشكيل الوقائع، في معركة لا تنتهي بين القوّة الرقمية والوعي الجمعي.
خاتمة
يتجاوز كتاب "خلل عربي" فكرة كونه مجرّد مساهمة نظرية في مجال الإعلام وعلوم الاتّصال، بل يعد سردًا قصصيًا بامتياز لمرحلة مضطربة من تاريخنا المعاصر مليئة بالصدمات والتحدّيات، أبطالها شباب عربي ناضل في الظلّ ليبدع ويبتكر أدوات وطرقًا جديدة للتواصل الرقمي، متحدّين بها سطوة النظم الرقابية للأنظمة القمعية ويحجز مكانًا للكلمة الحرّة والرأي الحرّ في الفضاء الرقمي العصري.