"شرط المحبة الجسارة"، كما يقول الشاعر أحمد فؤاد نجم ليُعرف شرع القلوب الوفية الذي التزمت به ابنته نوارة حين روت قصتهما معا في كتابها الأخير، حيث حكت ما أحزنها وما أضحكها بكل جرأة لكي ترتاح وتشاركه مع الناس.
داليا شمس[1]
قالوا البنت سر أبيها، ونوارة نجم في كتابها «وأنت السبب يابا.. الفاجومي وأنا»، الصادر عن دار الكرمة، قررت ببراعة أن تلعب دور "حارسة الكنز" التي في حوزتها الكثير من الحواديت لكي ترويها. بخفة دمها المعتادة والتي ورثتها عن والدتها الصحافية والناقدة المسرحية، صافي ناز كاظم ووالدها شاعر العامية أحمد فؤاد نجم، تسرد نوارة نجم تفاصيل حياتها وعلاقتها مع أبيها وحياة مجموعة من النساء اللاتي أحطن بها وتشابكت مصائرهن جميعا معاً.
نوارة التي ولدت بعد أيام من حرب أكتوبر 1973، ومن هنا جاء اسمها "نوارة الانتصار"، تشرح منذ بداية الكتاب أنها شعرت بحاجتها للكلام، ليس فقط لكونها تحب الكلام، وهي ما لا تنكره وما نلاحظه من نصوصها عموما، لكن أيضا لأن البوح يساعدها في التخفيف من آلام حملتها طويلا، ويمنحها مساحات من الأمان النفسي هي بحاجة إليها. ولأن والدها يستحق أن تتكلم عنه، وأن تروي قصتها وقصته "عبر كاميرا مثبتة في حدقة عين طفلة ثم مراهقة ثم شابة. هو دفع المهر غاليا، ودفعت معه بالتبعية دون اختيار مني".
على هذا النحو توضح نوارة منذ السطور الأولى كيف ستسير بنا الأمور خلال 300 صفحة تقريبا، نتابع فيهم مغامرات أشخاص استثنائيين، سواء هم أنفسهم أم أصدقائهم ومعارفهم. وهنا تكمن صعوبة الكتابة عن مثل هذا الكتاب المصنوع بحب وتلقائية شديدين، على طريقة الأشخاص ذوي العفوية المدروسة بذكاء، التي تنفذ إلى عمق الأشياء، وتشي بمعان معقدة دون ادعاء وبسخرية لاذعة ومحببة. توليفة فريدة معجونة بروح متغلغلة في الثقافة المصرية الشعبية. وهي ما تذكره نوارة حين تصف مواقف أبيها السياسية وانحيازاته، قائله "الحقيقة أن أحمد فؤاد نجم ليس سياسيًا، هو شاعر، شاعر مصري، مـتألم، حزين، غاضب، ساخر (...) متشرب بالثقافة المصرية الشعبية الصوفية، فهو لا يفطن شيئا عن السياسة، ولم يدع يوما أنه يفطن شيئا عنها، بل إنه عاش يحتقرها". بالطبع هذا لا يمنع أن أعماله التي تغنى بها الشيخ إمام والثنائي الذي شكلاه معا سيظلوا عالقين بأذهاننا ومرتبطين بصفوف اليسار وحركة الطلاب في السبعينيات وما تلاها، وبسنوات قضاها في المعتقل، ولا يتعارض هذا أيضا مع أنه "شحن للثورة طيلة عمره"، وأن أشعاره حرضت عليها باستلهام تجارب شعوب أخرى.
هو "الفاجومي" كما أطلق على نفسه في مذكراته. ينام في مقامات أولياء الله الصالحين كالدراويش خاصه حبيبه سيدنا الحسين، ويسمي ابنته الأصغر زينب على اسم بنت بنت النبي بعد قضائه ليلة إلى جوار مقصورتها بحي السيدة، ويستيقظ عابسا سيء الخلق. يُكلم السخان حين يكتب، ويزوره فنانون مثل سعاد حسني وعادل إمام وسعيد صالح في منزله القديم بحوش آدم في قلب القاهرة التاريخية، وينتقل من سجن لآخر ومن عهد لآخر دون أن يغادر صفوف المعارضة. ويتزوج ست مرات بالإضافة إلى نزوات أخرى، ويمجد الفهلوة المصرية ويصدق الكاذبين من أجل اكتساب الرزق ويتلمس لهم الأعذار، ويشارك في مظاهرات حركات كفاية وفنانون وأدباء من أجل التغيير... دائما يتحرك، وابنته تركض وراءه لاهثه على مدى مشوارها معه.
"وهكذا سيداتي آنساتي سادتي، استمرت علاقتي طوال عمري بأبي، يعضني فأبكي ثم يدغدغني فأضحك، بالمعنيين الحرفي والمعنوي. وأمي تتدخل دوما: كفاية البنت تعبت يا نجم". كان ذلك في سنوات عمرها الأولى، أما بعد ذلك حين صارت "بلسانين" وأعجبته سرعة بديهتها وخفة دمها تعمد أن يثير حنقها كي يراقب ردة فعلها ويضحك. يتقبل النقد لكن لا يحب العتاب، ووالدتها عودتها أن تكون متصالحة مع طبيعته حتى لا تتأذى: "ما جاء منه نقبله، وما لم يجئ لا نحاسبه عليه".
أم محترمة قوية لم تستخدم الإبنة قط للانتقام ولم تجعلها طرفا في سجال بينهما. حرصت على توطيد العلاقة بينهما، فأحاطت نوارة بصور أبيها وتسجيلاته حين أخذتها معها للعيش في العراق حيث درست في الجامعة المستنصرية، ثم اصطحبتها لتراه أول مرة في السجن بعد عودتهما إلى مصر، ومن بعدها جعلتها تحضر معظم ندواته وحفلاته، فقد كانت تفهم صعوبة الوضع في ظل أب دائم الحضور والغياب، وتعلم قسوة إحساس الرفض بالنسبة لطفلة متعلقة بأبيها "المشهور الغلبان" الذي لا تشبه حياته معظم الناس. لم ترد الأم لابنتها أن تعاني أكثر مما عانت، فصار نجم يشعر مع الوقت أن نوارة أمه أكثر منها ابنته، رغم أنه حظي ببنتين أخريين من زيجات مختلفة، عفاف الكبرى، وزينب الصغرى من قرينته الأخيرة "التورماي"، كما كان يمازحها، والتي تكبر نوارة بثلاث سنوات فقط. وقد استمرت علاقته بأم زينب، لمدة ربع قرن، حتى نهاية أيامه، لأنها كانت تتحمله كثيرا وبسبب تدخلات نوارة ووالدتها للصلح بينهما إذ لزم الأمر.
نجم ابن هانم
علاقات شديدة الغرابة والتعقيد ترسمها نوارة بأسلوبها الساخر الرشيق، ولغة تتأرجح بين العامية والفصحى، وترسم معها الابتسامة على وجه القارئ الذي يتابع تحليلها الفرويدي لشخصية أحمد فؤاد نجم من خلال علاقته بأمه. وضعته هذه الأخيرة في ملجأ للأيتام بالشرقية بعد وفاة أبيه المفاجئة، رغم كونها على قيد الحياة، لأنها لم تستطع تدبير مصاريفه بعد أن عانت فقرا لم تتوقعه. " طالما شعرت بتداخل مصر مع النساء مع هانم نجم، جدتي أم أبي. أبي يحب أمه جدا، وهو متعلق بها تعلقا مرضيا. المحبط أنها لم تتعلق به كما تعلق بها". ورث عنها ارتجال الشعر والحكايات وخفة الدم وقوة الشخصية، وكان يحب أن يناديه الناس "يا ابن هانم".
ظل يبحث عما افتقده في علاقته معها لدى أخريات، صَدَقَ فرويد حين قال إن علاقة الرجل بكل النساء اللاتي يعبرن في حياته ليس لها تفسير سوى علاقته بأمه، وهو ما يبرر الكثير من تناقضات نجم فيما يتعلق بالجنس الآخر، فقد كان " كل حاجة والعكس (...) وبمعرفتي بالتركيبة، فإنني لم أنتظر منه شيئا". يهرب من مواجهة موقف اعتقال نوارة ويجلس وحيدا في غرفته يبكي، ويُقر بأن أمها أجدع منه، يغار من أزواج بناته، ويدافع دائما عن النساء مؤكدا أن "الست تعشش والراجل يطفش (...) الراجل اللي ما يخفش من مراته يبقى مش راجل"، رغم أنه هو نفسه طلق خمس زوجات قبل أم زينب.
اطمني يا صافي، نوارة مقبوض عليها
الكتاب مليء بتفاصيل تخص العديد من النساء، تداخلت مساراتهن.. فنوارة وأمها وأبوها كانوا يعيشون دائما ضمن قبيلة من الأصدقاء الدائمين، أبوها بالنسبة لها هو "نجم، وإمام، ومحمد علي"، الرسام التلقائي ورفيقهم الثالث، ومن ناحية أمها فقد كانت هناك دوما "شلة الطنطات": وداد متري وشاهندة مقلد ومنى أنيس، مناضلات يساريات تقاطعت دوائرهن سواء في السجن أو خارجه. إذ اعتقلت صافي ناز كاظم في عهد السادات سنة 1981 وتركت نوارة مع جليسة الأطفال في المنزل قبل أن تنتقل للعيش مع خالتها في رمسيس. تروي الإبنة لحظة إلقاء القبض على والدتها التي تأنقت وتكحلت كعادتها قبل أن تخرج مع الضابط الشاب في مشهد مهيب، "سارت أمي أمامه بكل كبرياء، رافعة رأسها، وساروا هم خلفها كأنهم في تشريفة أميرة وليسوا ضباطا يلقون القبض على إحدى المشاغبات". هذه الصلابة ذاتها تتكرر في مواقف مختلفة قابلت نوارة لتجد نفسها محاطة بنساء قويات، قادرات على حل كل المعضلات، سواء أمها أو "الطنطات" أو غيرهن ممن صادفت.
حين تم القبض عليها، وهي طالبة في الجامعة خلال فاعلية ضد مشاركة إسرائيل في المعرض الصناعي بالقاهرة عام 1995، تعرفت على سجينات "ظلمتهن الحياة والدولة"، بالطبع ساهم "فريق الطنطات" في رحلة البحث عنها حتى عثرن عليها في قسم مدينة نصر قبل ترحيلها إلى سجن القناطر حيث مكثت أسبوعين قبل الإفراج عنها. وعندما أرادت "طنط وداد متري" أن تطمئن قلب صديقتها على ابنتها الوحيدة بادرتها قائلة قبل أن تفتح لها الباب: "اطمني يا صافي، نوارة مقبوض عليها". تجربة السجن، رغم تضامن كل المحيطين بها، كان لها وقعا كبيرا في نفس نوارة التي شعرت وقتها أن الله قد تخلى عنها لأنها أخطأت في حقه وكانت تناطح أمها فيما يخص لبس الحجاب التي سعت للتخلص منه بكل الوسائل. لذا واظبت على الصلاة في الزنزانة وقررت أن تضع الخمار في حال خروجها، وظلت تقرأ أمهات الكتب لمدة ثلاث سنوات اقتربت خلالهم من السلفيين، بعد تعاطفها الشديد مع الإسلاميين في السجن.
تتخلص نوارة من مرارة التجربة السلفية التي خرجت منها بسلام، فقد كانوا يطلبون منها أشياء ضد طبيعتها وضد ما تربت عليه ويريدون منها "الالتزام بنصوص قالوا إنها كتالوج الإنسان"، إلا أنها لم تستطع التجاوب معهم للنهاية وفضلت الانضمام لمجموعة عمرو خالد، الداعية الشاب وقتها الذي نجح في إقناع الكثيرين، خاصة من أبناء الطبقة الوسطى والعليا، بخطاب يمزج الدين بالتنمية البشرية والعمل الخيري. حينها نطق أبوها معترضا "استحملتك وإنتي دماغك إرهابية، وكل يوم أقول يا رب ما تروح تفجر نفسها، وحاطط إيدي على قلبي، إنما الراجل ده أنا ما أقدرش أستحمله، لا... إيه ده؟! وجايبه شرايط لأم زينب كمان؟! ح أسيب البيت وأمشي". تدريجيا دخلت نوارة في مرحلة المراجعات وأدركت أن التيارات الإسلامية تعمدت الحفاظ على الفقر والفساد الداخلي والجهل وحشو البطون وفرض الحجاب بدلا من إصلاح أحوال الناس لكي تظل لها اليد العليا عليهم، في انتظار اللحظة المناسبة.
كل ضيقة بعدها وسعة
بعدها سيصل التحرر مداه مع ثورة يناير وخلع الحجاب. انخرطت نوارة في صفوف المدونين وعرفت أبيها على بعضهم ونسج معهم بدوره صداقات لطيفة، ونزلت هي وزملاؤها إلى ميدان التحرير بتشجيع ودعم من أمها. لخصت ما جرى على طريقتها بإيجاز شديد، "مرت أحداث الثورة، أنا في الشارع، وأبي يبكي لأمي، وأمي توقظني كي ألحق الناس، والدكتورة رضوى عاشور تستلمني في الميدان، وتطمئن أمي أنني تحت عينيها، وتستضيفني لأستحم وآكل وأرتاح نصف ساعة، أو أهرب عندها من الضرب (...) حتى انتهى الأمر بفوز جماعة الإخوان المسلمين بالحكم". كانت صورة الإخوان قد تحطمت في عينيها بسبب "تصرفاتهم وطمعهم في السلطة". وفي لحظات الغضب، كان أبوها يطمئنها ببساطة "دول مش ح يقعدوا أكتر من سنة (...) الدايرة لازم تكتمل (...) دي بلد ولها خصال ومفاتيح". هم عائلة مصرية تؤمن كغيرها بالروحانيات والحكم الصوفية، وبالتالي " كل ضيقة بعدها وسعة"، وما ضاقت إلا لتفرج.
[1] تعبّر وجهات النظر الواردة في هذا النص عن آراء كاتبها، ولا تمثل بالضرورة وجهة نظر منصة "الصالون".
صحفية وكاتبة مصرية، متخصصة في بشؤون الثقافة والإعلام والمجتمع.