صدر كتاب "في معنى الأرض: استعادة الذات الفلسطينية"[1] للباحث الأكاديمي بلال عوض سلامة في عام 2021. تناول فيه موضوع الأرض وأهميتها المادية والمعنوية والرمزية بالنسبة للفلسطيني، باعتبارها أكبر خسائره التي فقدها في عام 1948، وفقد معها القدرة الفاعلة على إعادة إنتاج ذاته ومصيره. إلا أنه استطاع الصمود والنضال والاستمرار في الوجود والبقاءَ على قيد المقاومة.
إسراء زيد[2]
تتناول أعمال بلال عوض سلامة، أستاذ علم الاجتماع في جامعة بيت لحم، مواضيع تتعلق بالثقافة المدنية واستعمار الأمكنة الفلسطينية، معتمدًا على نظريات فلسفة المكان واحتلال الذاكرة، ومتبنّيًا توجهًا إثنوغرافيًا في تحليل الوقائع والأحداث. يسلط الضوء في هذا الكتاب، الذي يتألف من خمسة فصول، على معنى الأرض، ودورها الحيوي في تكوين هوية وثقافة وذاكرة الشعب الفلسطيني. كما يبين كيف أن فقدانهم للأرض جراء الاحتلال والتطهير العرقي في عام 1948 تسبب في تأثيرات عميقة على جوانب الحياة الاجتماعية والثقافية والاقتصادية، إلى جانب التأثير النفسي والجسدي المصاحب لها. ويؤكد سلامة في الفصل الثاني أن الأرض ليست مجرد قاعدة إنتاجية فقط، بل تحمل قيمة معنوية ورمزية وثقافية لها الأهمية المطلقة في تكوين كرامة وهوية ووجود الشعب الفلسطيني، وخلق "الذات الفلسطينية".
الأرض كبعد حضاري وثقافي في ظل الاستعمار
يشرح الكاتب دور علاقة الفلسطيني بالأرض في تشكيل هويته ووجوده. ويصف ارتباط الفلاح بالأرض بأنه ارتباط مقدس، موضحًا بذلك أن أهمية الأرض لا تقتصر على الجانب الجغرافي فحسب، بل تحمل أبعادًا حضارية وثقافية ورمزية واقتصادية وكيانية، ما يجعلها عاملًا أساسيًا يؤدي دورًا مهمًا في تشكيل جوهر وتاريخ الشعب الفلسطيني.
أما عن السياقات الاستعمارية في فلسطين، فيذكر سلامة في الفصل الثالث أن سياسة "المحتشدات" أو المعازل المكانية، وهي "أماكن الفصل الممنهج للقرى والمدن والمخيمات وعزل بعضها عن بعض"، كانت أداة أساسية تستخدم لفصل وعزل الشعب الفلسطيني عن أرضه. وهو ما أحدث تغييراً جوهرياً في بنية الوجود الفلسطيني الاجتماعية والاقتصادية الهشة. أما السبات الاستعماري فهو محاولات فرض وممارسة السيطرة على الذات الجماعية الفلسطينية، أو كما أطلق عليها، الموت الاجتماعي.
وفي هذا السياق، يستمر الكاتب في توسيع النظرة نحو سياسات التمييز والتفرقة التي تطبقها سلطات الاستعمار الصهيوني، حيث يُسلَّط الضوء على استخدام هذه السياسات لتقسيم وتجزئة الهوية الفلسطينية، وخلق مناطق جغرافية مختلفة للفلسطينيين بهدف تفكيك هويتهم الجماعية وتيسير عمليات الهيمنة والسيطرة. يظهر الكاتب بوضوح كيف يستمر الاستعمار الصهيوني في تشكيل حاضنة الهوية الفلسطينية بواسطة استخدام سياسات التهجير والقمع، وكيف أن هذه السياسات تعمل على تجزئة وتشتيت الهوية الفلسطينية، ما يخلق واقعاً استعمارياً يهدف إلى تحقيق أهدافه.
يحلل الكاتب هندسة المشهد والمكان الفلسطيني، مشيرًا إلى كيفية إعادة تشكيله بواسطة الاستيلاء على الأرض بما فيها من موارد وثروات. كما يشير إلى تاريخ العلاقة القائمة بين الأرض والفلسطينيين من خلال الثلاثية المقدسة (الأرض والتاريخ والذاكرة)، مشددًا على أهمية الحفاظ على هذه العناصر، وكيف أن فقدان أي عنصر من هذه العناصر من شأنه أن يؤدي إلى تفكك إدراك الوعي الفلسطيني وتشويه هويته، والتي تعد نتيجة لعملية المحو الثقافي التي يمارسها الاستعمار الصهيوني بشكل ممنهج.
كما يوضح سلامة كيف امتدت سياسات إسرائيل في هندسة المشهد الفلسطيني إلى مختلف جوانب الحياة اليومية والهوية الفلسطينية. مشيرًا إلى تاريخ تهجير ومحو وجود الفلسطينيين باعتبارهم جماعة قومية تتصل بالأرض، ومشكلة تعيق المخططات الصهيونية. ولذلك تبنت دولة الاحتلال استراتيجيات لتفريغ الأرض من سكانها مثل نقل السكان لتحقيق التحكم والرقابة في بدو النقب والسكان في الأغوار وبناء الجدار الفاصل والتعامل مع المناطق "ج" في الضفة الغربية.
يقدم سلامة تفصيلاً لمفهوم المثقف في السياق الفلسطيني، موضحًا ظاهرة "المثقف المشتبك"، كأداة حية تتمحور حول الوعي بالواقع والانخراط المجتمعي ومقاومة الاستعمار. كما يربط بين مفهوم "المثقف المقاوم" بحسب إدوارد سعيد، وبين مفهوم "المثقف المشتبك" في حالة باسل الأعرج. إلا أن الكاتب يعود ليطرح مفهوماً جديداً مستندًا فيه إلى حالة المجتمع الفلسطيني، أطلق عليها اسم "المثقف الفلاح". إذ يشير إلى أن هذه الشريحة لا يقتصر انتماؤها على الطبقة الفلاحية فقط، بل تقوم على الوعي المشترك الذي يتأثر بالسياق الاستعماري ويدور حول جوهر الصراع الذي يتمحور حول الأرض.
يسلط هنا سلامة الضوء على دور "المثقف الفلاح" في مقاومة الاستعمار وحفظ الذاكرة الجماعية وصيانة الهوية الوطنية. بالإضافة إلى إبراز أهمية الأرض في الصراع الفلسطيني، ودورها في تحديد الهوية الفلسطينية ومقاومتها لتحديات الاستعمار الصهيوني. ويؤكد بذلك أن "المثقف الفلاح" يحاول جاهدًا توضيح معالم الطريق "لاستعادة الذات الفلسطينية المقاومة"، ضمن مشروع تحرري في ميدانَي الثقافة والعودة إلى الأرض، باعتبارهما الحلقة الأهم في الصراع مع الاستعمار الصهيوني، وذلك وانطلاقًا من الدفاع عن ثقافة الفلاح، بما تنطوي عليه من قيم وارتباط وانتماء وفداء وهوية وتضحية وكرامة وعقل جمعي وذاكرة محلية وجمعية.
الأرض كمسار للانعتاق والتنمية
في الفصل الختامي من كتابه، يواصل سلامه استعراض تأثير الاستعمار الصهيوني على الوضع الاقتصادي والاجتماعي للفلسطينيين. مسلطًا الضوء على تغيير نمط الحياة والعمل الذي أحدثه الاستعمار، حيث أجبر الفلسطينيون على أدوار اقتصادية جديدة في المستوطنات الإسرائيلية، خاصةً في قطاعي البناء والزراعة. يعد الكاتب هذا التغيير جزءًا من استراتيجية الإلحاق الاقتصادي التي هدفت إلى تحويل الهوية والاقتصاد الفلسطيني. ويوضح أن الاستعمار لا يقتصر على الأثر الاقتصادي، بل يؤثر أيضًا في الهوية والثقافة الفلسطينية. ما يؤكد على أطروحته الأساسية التي تبناها في كتابه وهي أهمية الأرض وكونها عصبًا أساسيًا في هوية الفلسطيني، وكيف أن فقدانهم للأرض يعني فقدان قيمتها الإنتاجية الأساسية وبالتالي خسارة جزء من هويتهم وكرامتهم. فيشير إلى أن السيادة على الأرض تتعدى السيطرة على الموارد إلى التأثير الاجتماعي والنفسي، ما يؤثر على الفرد والمجتمع في مستويات عدة.
في هذا السياق، عزز الكاتب فكرة "التنمية بالكرامة" كمحور أساسي لتحقيق الاستقلال والتحرر الفلسطيني. مشدداً على أهمية تحقيق السيادة الفعلية على الغذاء، وتحقيق الاستقلال في ميدان الزراعة والإنتاج الغذائي وتحديد السياسة التنموية الخاصة، لتلبية احتياجات المجتمع الداخلي " الاكتفاء الذاتي" بدلاً من الاعتماد الزائد على الواردات أو الاستيراد والذي بدوره يعكس سعي الفلسطينيين للقضاء على تبعية الاقتصاد الاستعماري الصهيوني وتحقيق الاستقلال الوطني والكرامة في معركتهم الأكبر من أجل التحرر والسيادة والبقاء على قيد المقاومة.