يتخذ كتاب "الأصوات المهمشة: الخضوع والعصيان في ليبيا أثناء الاستعمار وبعده"[1] للأستاذ علي عبد اللطيف احميدة من نظرية ما بعد الاستعمار إطارًا عامًا لمعالجة تاريخ ليبيا الحديث والمعاصر. يهدف من خلال هذا الإطار إلى نقد الرؤية الاستعمارية الأوروبية، وبنفس القدر من الصرامة، نقد رؤية النخُب الوطنية الحاكمة للتاريخ، التي غالبًا ما وظّفته لتمجيد ذاتها والتغنّي بإنجازاتها.
علي بن موسى[2]
تتركز دراسات علي عبد اللطيف احميدة، أستاذ العلوم السياسية في جامعة نيوايغلاند، على موضوعات النظرية السياسية وعلم الاجتماع التاريخي. وتعدّ أبحاثه رائدة في مجال دراسة منطقة شمال أفريقيا، وبشكل خاص ليبيا، مع التركيز على موضوعات الإبادة الجماعية والمقاومة ضد الاستعمار في المنطقة. يعيد احميدة في كتابه "الأصوات المهمشة: الخضوع والعصيان في ليبيا أثناء الاستعمار وبعده"، الصادر باللغة الإنجليزية عن دار نشر روتليدج، التفكير في التحليلات الاستعمارية والوطنية لتاريخ ليبيا الحديث، محاولاً إعادة الاعتبار للأصوات المهمّشة، أي غالبية الأهالي العاديين والأميين من البدو، والفلاحين، والعمال، والمهاجرين، والنساء، والعبيد. تلك الأصوات التي أُهملت أو أُسيئَ استخدامها من قبل النخب الاستعمارية والوطنية، بالرغم من أنها واجهت تناقضات الاستعمار، والإبادة، ونشوء الدولة القومية الحديثة، والاستلاب.
تقوم فرضية الكتاب الرئيسية على أن المنظورات الفردية لا تقل أهمية عن الوثائق الرسمية كمصدر أساسي في عملية صناعة التاريخ. وعلى هذا الأساس، تبحث فصول الكتاب في السيرورات الاجتماعية التي تنتج وتكيّف أصوات الفاعل البشري (Human Agency)، أي الليبيين العاديين، في مواجهة ضغوط السلطة (Power) سواء كانت استعمارية أو وطنية.
تكمن غاية الكتاب في الدفاع عن المجتمع المدني الليبي واستعادة حيوية تاريخه الاجتماعي والثقافي بعد أن جرى اختزاله لعقود في إطار شخصية معمر القذافي. ومن أجل تحقيق هذه الغاية، يستخدم المؤلف مدخلاً متعدد التخصصات يتضمّن الإبستمولوجيا المتعلّقة بالنظرية السياسية والتاريخ الاجتماعي لمقاربة التاريخ الليبي ضمن سياق كوني، وليس باعتباره حالة استثنائية، معتمدًا على المناهج والمفاهيم النقدية المستمدة من مدارس الماركسية الجديدة وما بعد الاستعمار وما بعد الحداثة، خاصةً تلك المتأثرة بالجدالات حول الاستشراق ودراسات التابع (Subaltern studies).[3]
من العثمانيين إلى الإيطاليين: بناء الدولة الليبية في القرن التاسع عشر من وجهة نظر الاقتصاد السياسي
يبدأ هذا الكتاب بدحض مزاعم عدد من المؤرخين للعهد العثماني الثاني (1835-1911)،[4] الذين قادتهم تحليلاتهم المستندة لظاهرة العائلات الحاكمة ونظرية التحديث، إلى الافتراض بوجود دولة مركزية تسيطر على الأطراف. بينما تقوم حجة احميده المغايرة على أن كل جهة من جهات ليبيا الكبرى الثلاث (طرابلس، وبرقة، وفزّان) طورت اقتصادات سياسية متمايزة بفضل تنوع تضاريسها الجغرافية وبيئاتها الطبيعية، والتي ساعدت في استدامة نمط الإنتاج الرعوي وزراعة الكفاف، ونشوء تنظيمات اجتماعية-سياسية جهوية غير خاضعة للدولة المركزية في طرابلس الغرب.
عزّزت التجارة بين أوروبا وأفريقيا عبر المتوسط، مروراً بصحراء ليبيا الكبيرة، من قدرة التنظيمات الجهوية على منافسة الدولة المركزية. إذ قامت بتوفير مصدر إضافي للدخل من خلال فرض الإتاوات على القوافل التجارية المارة بالصحراء عبر الأراضي الخاضعة لسيطرة القبائل البدوية، التي عمل أفرادها أيضًا كحرّاس وأدلاء ومؤجري إبل. ساهم ازدهار التجارة عبر الصحراء في تشكيل تحالفات قوية بين طبقة التجار والصفوف القبلية، مما أدى إلى نشوء عدة دول محلّية قابلة للحياة اقتصادياً، مثل دولة أولاد محمد (1550-1813)، والدولة القرمانلية (1711-1835)، والسنوسية (1843-1932).
بعد عام 1835، استهدفت السياسة العثمانية في ليبيا بناء دولة مركزية قوية في سياق الإصلاحات المعروفة باسم التنظيمات،3F[5] بغية مواجهة التوسّع الأوروبي الرأسمالي (الفرنسي، والبريطاني) عسكريًا وتجاريًا في غرب ووسط أفريقيا. وتطلّب ذلك إنشاء جيش قوي للقضاء على القبائل المتمتّعة بالاستقلال الذاتي والإعفاء الضريبي، وتوطين القبائل البدوية، واستحداث نظام بيروقراطي وتعليمي لتدريب إداريين، وقضاة، ومعلّمين يُشغّلون المنظومة الإدارية الجديدة.
قادت السياسة العثمانية الجديدة والتغلغل الرأسمالي إلى تراجع تجارة الصحراء في فزّان، بينما تكيّفت طرابلس مع ذلك التراجع نتيجة تكامل أسواقها الحضرية، التي استوعبت القبائل البدوية بعد تحول أفرادها إلى فلاحين وعمّال. في حين ظلت تجارة القوافل مزدهرة في برقة نظرًا لقوة البنية التحتية للحركة السنوسية،[6] التي ربطت برقة بالأسواق المصرية، وعزّزت التحالفات القبلية عبر أيديولوجيا الجامعة الإسلامية. وبهذا السياق، نجحت الحركة في إعاقة السيطرة العثمانية على برقة. وبعد انسحاب العثمانيين، وجد الإيطاليون أنفسهم أمام بلد مترامي الأطراف مكوّن من تقسيمات جهوية وتحالفات قبلية واجتماعية، بدلاً من بلد موحّد خاضع لسلطة مركزية.
دولة أولاد محمد: اكتشاف وثائق جديدة مهمة (1555-1813)
كمدخل لتحدّي التصنيفات الكولونيالية للدراسات الأفريقية، وتجاوز التقسيم الأكاديمي بين دراسات شمال أفريقيا وأفريقيا جنوب الصحراء، يسلّط هذا الفصل الضوء على تجربة دولة أولاد محمد وتاريخها الاجتماعي، بهدف إثبات وجود روابط اجتماعية واقتصادية وثقافية عصية على الفهم بين ليبيا ومحيطها الأفريقي إذا ما تم التسليم بفكرة الدولة-الأمة كأمرٍ غير قابل للنقاش. ففي الوقت الذي عاملت فيه النخب الاستعمارية والوطنية الصحراء الليبية كفضاء يفصل بين ليبيا وجوارها، تأتي دولة أولاد محمد بتاريخها الاجتماعي لتتحدّى هذه الرؤية. فالدولة الفزانية التي أسست في عام 1550 على يد أحد الأشراف[7] القادم من مدينة فاس، تمكّنت من البقاء والاستمرار لمدة تقرب من ثلاثة قرون، معتمدة على الإتاوات المفروضة على قوافل التجارة الصحراوية. كما ساعدها قربها من بحيرة تشاد في أن تكون عاصمتها مرزق، سوقاً حيوياً يعج بالعديد من التجار من مختلف الأصول العربية المحلية، والأفريقية من مناطق الجوار.
مكّن الاقتصاد الجهوي والروابط الاجتماعية-الاقتصادية مع الأسر الحاكمة والقبائل القوية في بحيرة تشاد، دولة أولاد محمد من تحدّي السلطة المركزية للدولة العثمانية، ومن بعدها الدولة القرمانلية. إذ اتبع حكامها نمطاً معقّداً من العلاقة مع كلتا السلطتين المركزيتين، يقوم على دفع الضرائب لهما في حالات الضعف، والقتال ضدهما في حالات القوة. ومع تراجع الدخل الريعي للدولة القرمانلية بعد إضعاف أسطولها البحري والتضييق عليها من قبل بريطانيا وفرنسا، اضطرت للتوجّه جنوباً نحو الصحراء لتعويض خسائرها الاقتصادية والقضاء على دولة أولاد محمد عام 1813.
من القبيلة إلى الطبقة: جذور المقاومة الليبية في مواجهة الاستعمار
شهدت ردود الأفعال المحلية ضد الاستعمار الإيطالي تنوعًا في الأشكال، إذ تدرجت من المقاومة المسلحة والتفاوض إلى التعاون والتواطؤ. واختلفت الاستجابات بحسب الجهة والتفاوت الاقتصادي-الاجتماعي، وقوة التغلغل الرأسمالي. في حين ركّزت التفسيرات السائدة على أيديولوجيا القبلية والبداوة، أو الدوافع الأخلاقية الشخصية، أتى هذا الفصل من الكتاب ليطرح تفسيرًا جديدًا تمامًا يأخذ بعين الاعتبار الفوارق الطبقية بين المقاوِمين والمتواطئين على حد سواء.
يجادل احميدة بأن البناء الطبقي في جهات ليبيا الثلاث كان متمايزاً عندما احتل الإيطاليون ليبيا عام 1911. فإلى جانب طبقة الفلاحين والبدو والحرفيين، أدت الإصلاحات العثمانية في طرابلس في عهد تركيا الفتاة إلى ظهور طبقة أعيان حضرية.[8] تلك الطبقة حصلت على رواتب من الدولة العثمانية نظير دخولها في السلك الإداري وعملها كوسيطة بين الدولة العثمانية والأهالي في تحصيل الضرائب. وبالرغم من صراع أفراد هذه الطبقة على الأراضي والمناصب في الدولة العثمانية، إلا أن ارتباطها برابطة الجامعة الإسلامية العثمانية لم يلغ روابطها الدينية والقبلية تماماً، بل عبّرت عن صعود طبقة حضرية قاومت الاحتلال الإيطالي.
في المقابل استفادت طبقة التجار(الكومبرادور)،[9] من الإصلاحات العثمانية في التحول نحو اقتصاد أكثر رأسمالية، بهدف توسيع تجارتها بين المدن ومع الخارج. ارتبطت هذه الطبقة بمصرف روما الذي استثمر بشكل كبير في الأراضي والزراعة ومصانع الزيت والمشروبات الكحولية منذ عام 1907. من أبرز ممثليها حسونة القرمانلي، وعائلة المنتصر من مصراتة، وتجار ليبيون يهود من عائلة حلفون الذين ساعدوا الجيش الإيطالي في احتلاله لطرابلس.
أما بالنسبة للقوى الاجتماعية التي كانت في أطراف طرابلس، فقد تأرجحت مواقفها بين التعاون والمقاومة. فالقبائل التي كانت على عداء مع الإدارة العثمانية لم تر في التوسّع الإيطالي تهديداً لها، بل عدته فرصة لتحقيق التوازن مع خصومها. على النقيض من ذلك، حاربت قبائل أخرى الجيش الإيطالي إلى أن قُتلت أو هُجّرت. يرى احميدة أن تشرذم أعيان طرابلس ودواخلها بين المقاومة والتواطؤ سهّل هزيمة "الجمهورية الطرابلسية" إحدى أقوى التنظيمات السياسية والعسكرية لمقاومة الاحتلال الإيطالي في غرب ليبيا.
بقيت فزان تحت هيمنة الصفوف القبلية التي قاوم بعضها وتواطأ الآخر مع الإيطاليين، بالإضافة إلى العشائر المالكة للأراضي والخماسين.[10] أما برقة فقد تواطأ أعيانها الحضريون مع الدولة الإيطالية، وخاصة في المناطق الساحلية التي لم تربطها سوى روابط ضعيفة بالداخل البرقاوي الذي هيمنت عليه الحركة السنوسية. كان لتجذّر الحركة السنوسية كحركة دينية -اجتماعية، تمتلك هيكلية قضائية وقانونية وزوايا تقدم التعليم الديني والتدريب العسكري إلى جانب تنظيمها للتجارة وحل النزاعات، دور رئيسي في التصدّي للاحتلال الإيطالي، ومن قبله التغلغل الرأسمالي في شمال أفريقيا ووسطها. إذ لطالما خاضت الحركة، بقيادة أحمد الشريف السنوسي، حروباً ضد الفرنسيين في تشاد والإنجليز في مصر.
أما النظام الاجتماعي للسنوسية، فلم يكن قائمًا بأي حال من الأحوال على المساواة، بل تميّز بوجود دولة تتلقى ريعًا سنويًا من تجارة القوافل والوقف المُعفى من دفع الضرائب للعثمانيين. كان هذا الريع يذهب جلّه لطبقتين مهيمنتين داخل الحركة، وهما: طبقة الإخوان (فقهاء الأسرة السنوسية)، وطبقة تجار الصحراء. وقد جمعت بين هاتين الطبقتين علاقات مصاهرة لم تتعد إلى مجموعات أخرى. نجحت الحركة في منع الإيطاليين من التوسّع خارج المناطق الحضرية، ما اضطر الحكومة الإيطالية لعقد اتفاقيتين للسلام معها، انقسمت على إثرهما الحركة سياسيًا إلى جناحين: البراغماتي، مثّله إدريس السنوسي، والذي قبل بسيادة إيطاليا على الساحل البرقاوي نظير السماح بحرية التجارة والإعفاء الضريبي، وضمان مرتبات لأفراد الأسرة السنوسية في مقابل نزع سلاح الصفوف القبلية المقاتلة التابعة للحركة. وهو ما قوبل بالرفض من قبل الجناح الثاني الراديكالي ممثلاً بقادته أحمد الشريف وعمر المختار الذي اختار هو واتباعه المنحدرين من القبائل الأدنى مستوى اجتماعياً مقاومة الإيطاليين إلى أن تم القضاء على المقاومة المسلحة بشكل كامل عام 1932.
المعتقلات الجماعية لإيطاليا الفاشية في ليبيا، وصمت المؤرخين الغربيين[11]
يستبدل الكاتب هنا الدولة القومية كوحدة للتحليل بالنقد المقارن الذي يُدخل المستعمرات الأوروبية في إطار النظام الرأسمالي العالمي، وذلك لدحض الرأي السائد في الأدبيات الغربية حول تاريخ الفاشية الإيطالية باعتبارها ديكتاتورية ومعتدلة من حيث هي أقل شراً من النازية الألمانية. يستعرض الكتاب وجهة النظر المركزية-الأوروبية حول الفاشية باعتبارها ديكتاتورية تنموية ساهمت في تحديث إيطاليا، وإلى موسوليني باعتباره رجل دولة قوي، أو مجرّد مهرج كما صوره منتقدوه. هيمنت تلك الصورة بشكل كبير على أدبيات السياسة المقارنة والنظرية السياسية، وامتدت حتى للمجال الثقافي والأعمال السينمائية، خاصة بعدما اعتُبر النظام الفاشي بالمقارنة مع نظيره النازي متسامحاً مع الأقلية اليهودية الأوروبية، ما دفع بصاحبة الكتاب الأكثر شهرة حول أصول الأنظمة الشمولية، حنة آرنت، إلى المحاججة بعدم وجود مسألة يهودية في إيطاليا وبالتالي ترسيخ اسطورة اعتدال الفاشية.
للرد على هذه المزاعم، كان لابد من اللجوء إلى منهج بديل يُبرز أصوات من اعتُقِلوا في معسكرات الإبادة الجماعية التي انشأها الفاشيون في ليبيا لعزل المقاومة عن قواعدها الاجتماعية بين عامي 1929 و 1934. تكشف هذه الأصوات عن فظائع أدّت إلى مقتل حوالي 70000 مواطن ليبي أعزل، إلى جانب تدمير ثروتهم الحيوانية، وإهانة كرامتهم الإنسانية. وفي ظل الصمت الدولي والمحلي، اتجه احميدة لدراسة التاريخ الحي من الأسفل، أي دراسة تاريخ الناجين من الإبادة معتمداً على ميراثهم الشفهي لإبقاء ذاكرتهم حية، ومحذراً من التسامح مع جرائم الفاشية باعتبارها انحرافاً أو جزءاً من عملية تحديث المجتمعات المُستعمَرة.
الهوية والاغتراب في الأدب الليبي بعد الاستقلال: "ثلاثية" أحمد إبراهيم الفقيه نموذجًا
يقدّم احميدة تحليلاً سوسيو-سياسيًا وثقافيًا لأهم أعمال الأديب الليبي، أحمد إبراهيم الفقيه، لمعرفة الكيفية التي عالج بها إشكاليات الهوية والجنس والجدالات الاجتماعية والثقافية في ليبيا المعاصرة. إذ تعكس أعمال الفقيه بشكل رئيسي قضايا التوتر والاختلافات بين القيم الريفية والحضرية في مجتمع بدأت فيه عملية تحديث كبيرة، وتغيّر اجتماعي بعد اكتشاف النفط، الذي نجم عنه ولادة طبقة وسطى متعلّمة، وحركة طلابية، وأندية ثقافية. وكغيره من مثقّفي جيله الحداثيين من الليبيين والعرب، واجه الفقيه في ثلاثيته مشاكل الاغتراب عن المجتمع والاغتراب في الغرب كانعكاس لتجربته الشخصية في دراسة الدكتوراه في بريطانيا.[12] واستعرض احميدة، بأسلوب أدبي مشوّق، نقد الفقيه المزدوج لمجتمعه الذي، رغم بدء مسيرة تحديثه المادي والتعليمي، ظلت علاقاته العشائرية-الأبوية قوية ومراكزه الحضرية ضعيفة. وكذلك وجه النقد لأنظمته السياسية في مرحلة ما بعد الاستقلال، التي ترفع شعار المحافظة، في الوقت الذي يغرق فيه مسؤوليها في الفساد والاستهلاك.
الجماهيرية: الأصول التاريخية والاجتماعية للدولة الشعبوية
ينطلق الفصل الأخير من نقد الأدبيات السائدة عن الدولة في شمال أفريقيا، والتي تعاني بحسب المؤلف من خلل منهجي ناتج عن وقوعها تحت هيمنة المركزية الأوروبية المتخذة من نموذج الدولة القومية وحدة أساسية للتحليل وفقاً للمنظور الفيبري[13] عن الدولة. من أبرز تلك المدارس نظرية التحديث التي اعتبرت أن الاستعمار سيقضي على القيم القبلية والدينية ليحل محلها قيم العقلانية والديمقراطية الرأسمالية، لكنها عجزت وفقاً لحميدة، بالرغم من الاستعمار الرأسمالي وتحديث ما بعد الاستقلال، عن تفسير صعود حركات الإسلام السياسي مؤخرًا، واستمرار الحكم العائلي والعسكري السلطوي في مصر وتونس وليبيا والجزائر والمغرب.
يُحاجج احميدة بأن تجربة الجماهيرية[14] (1969-2011) لم تكن انحرافاً عن المسار الطبيعي للمجتمع الليبي، كما اعتقد الباحثون الغربيون، بل كان أسلوب حكمها متجذراً بقوة داخل المجتمع الليبي بإدارته السنوسية، والجمهورية الطرابلسية. وذلك من خلال ارتباط المجتمع بالثقافة الإسلامية-العربية الجامعة، ومؤسسات القرابة المستقلة ذاتياً، والخوف من فكرة الدولة المركزية المرتبطة في ذهن المجتمع الليبي بالاستعمار. إن أخذ هذا التاريخ بعين الاعتبار هو الذي يُفسّر نجاح معمر القذافي في ترجمة هذا الميراث إلى أيديولوجيا ثورية، مستخدماً في ذلك لغة شعبية يفهمها الليبيون العاديون.
فالجماهيرية، وبالرغم من كونها دولة سلطوية-شعبوية، إلا أنها خلال عقدها الأول حاولت الإجابة عن المشاكل البنيوية السياسية في المجتمع الليبي، مثل الإرث الكارثي للاستعمار الفاشي، وضعف الدولة الملكية، ومسألة الهويات الجهوية المترسّخة. كما مكنّتها سياساتها الإصلاحية الثورية في البداية، من توسيع قاعدتها الاجتماعية بين الطبقات الوسطى والدنيا خاصة في الأرياف. لكن التحوّلات السياسية في بداية الثمانينات، والمتعلّقة بالمواجهة مع الخارج، وقمع المعارضة الداخلية، انتهى بتحول دولة الجماهيرية إلى نظام سلطوي شخصي يقوم على تعظيم شخصية القذافي، والوحدة الأفريقية بدل العربية. كما أدّى نزوعها باتجاه الدولة الأمنية إلى تقويض عملية البناء المؤسسي، وضعف المنظمات المدنية، وهجرة العقول.
وفي الوقت الذي كثرت فيه التحليلات التي تركّز على غياب المؤسسات في تفسير أزمة الدولة الليبية، أطلق حميدة تحذيرًا سابقًا لاندلاع الانتفاضة الليبية بخمس سنوات، يقول فيه "وما لم يتم التسليم بالقصور ويُستدعى الليبيون المؤهلون للمساعدة في إعادة بناء المؤسسات الاقتصادية والمدنية والاجتماعية، فإن مؤسسات الجماهيرية قد لا يقيّض لها البقاء بعد القذافي. وفي هذه الحالة، ستواجه ليبيا القرن الواحد والعشرين دون مؤسسات قوية، الأمر الذي يضع عوائق هائلة أمام قادتها، ويضع شعبها في مشقة كبيرة."[15]
خاتمة
باستثناء عدد قليل من الدراسات النقدية منذ الاستقلال، ظلت الدراسات الغربية والعربية حول الدولة الليبية الحديثة مُختزلة في أمرين: أولاً، شخصية معمر القذافي، وثانياً، القبلية والبداوة. وقادت تلك التحليلات بدورها إلى الزعم بأن ليبيا كانت مجتمعاً بلا دولة statelessness society، بالرغم من أن ليبيا صُنفّت بحسب مؤشر الأمم المتحدة للتنمية البشرية عام 2010 الأولى إفريقياً والثالثة والخمسين على مستوى العالم، حيث بلغ معدل معرفة القراءة والكتابة فيها ما نسبته 88%، ومدى متوسط الأعمار 76 عاماً.[16]
تكمن الإضافة المنهجية للكتاب في كونه: أولاً، يُقدّم لنا مدخلاً لفهم تشكّل الدولة الليبية من داخل المجتمع الليبي نفسه، بتحولاته التاريخية والاجتماعية والثقافية والطبقية المُعقّدة. وبالتالي، تصبح تجربة الجماهيرية أمرًا ذا معنى إذا نظرنا إليها من خلال تلك التحولات. ثانياً، الاتساق بين النظريات النقدية الثلاث (الماركسية الجديدة، وما بعد الاستعمار، وما بعد الحداثة) التي اعتمدها الكتاب وبين تطبيقها لفهم التاريخ الاجتماعي لمنطقة المغرب العربي، وأفريقيا جنوب الصحراء، وليبيا بشكل خاص. فالحديث عن أصوات مهمّشة ليس اختراعاً جديداً هنا، فقد سبق الكاتب إليه ميشال فوكو في دراساته لأصوات مهمشي أوروبا في السجون والمصحات العقلية،[17] وفرانز فانون في تسليط الضوء على معاناة الجزائريين في المُستعمرة الفرنسية.[18] كما أن تقصّي الأصول الاجتماعية لديكتاتورية نظام القذافي يستلهم العمل الشهير لعالم الاجتماع الأمريكي بارنتغتون مور بعنوان "الأصول الاجتماعية للديكتاتورية والديمقراطية."[19]
في ظل أزمة الدولة الليبية الحالية، يمكن الاستفادة من الكثير مما قُدم في هذا العمل المتميّز. وبالرغم من رؤية مؤلفه النقدية لمفهوم الدولة القومية الحديثة، إلا أن غياب بديل واقعي عنها كإطار مرجعي لإدارة الصراع السياسي-الاجتماعي والطبقي، يعني بالنسبة لنا، منهجياً، إسقاط الماضي على الحاضر وهو أمر يثبت حتى كتابة هذه السطور أنه مستحيل التحقق عملياً. فالمنظمات التاريخية القائمة على الروابط التقليدية كالدين، والعشيرة، والقبيلة هي أضعف من أن تكون اليوم قادرة على مواجهة ميليشيا مسلحة واحدة في ليبيا. وبحسب وجهة نظرنا، هي نظرة رغبوية للمؤلف لاستعادة حيوية التاريخ الاجتماعي والثقافي الليبي أكثر من كونها نظرة واقعية. إن الدولة الحديثة بكل تناقضاتها، وإن كان تحديد طبيعتها أمرُ شائك ومعقّد، ما زالت هي أكثر ما يفتقده، بل ويطالب به الليبيون اليوم لإدارة صراعاتهم الاجتماعية، وتحقيق أمنهم واستقرارهم وعيشهم الكريم.