يُقدم نورمان فنكلستين في كتابه "غزة: بحث في استشهادها" تحليلًا دقيقًا للهجمات العسكرية الإسرائيلية التي تعرضت لها غزة خلال الفترة الممتدة من 2008 إلى 2014. ويُسلط الضوء على دوافع تلك العمليات العسكرية وتأثيراتها المدمرة على المدينة، مشكلاً رواية تفصيلية مدعمة بالوقائع لمعاناة أهل المدينة خلال تلك الفترة.
إسراء زيد [1]
أكد جوزيب بوريل، مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، في يوم 24 نيسان/ أبريل 2024، أن ما تعرضت له مدينة غزة من دمار يفوق بكثير ما تعرضت له المدن الألمانية خلال الحرب العالمية الثانية، مضيفاً: "يمكننا القول إن أكثر من 60% من البنية التحتية المادية في غزة تضررت، 35% منها دُمر بالكامل". وفي السياق نفسه، نشرت وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "الأونروا" في يوم 23 نيسان/ أبريل 2024 على تطبيق (X) فيديو يُظهر حجم الدمار الهائل الذي لحق بمدينة غزة، مرفقًا بتعليق جاء فيه: "بعد مرور 200 يوم على الحرب، الدمار في كل مكان في غزة. إن الأضرار التي لحقت بالبنية التحتية هائلة، إذ فقد أكثر من مليون شخص منازلهم، ونزح 75% من السكان.
إزالة الحطام ستستغرق سنوات
كما يوثق الكتاب رفض إسرائيل المتكرر لعروض السلام العادلة، مؤكدًا على استمرارها في ممارسة الضغوط السياسية والاقتصادية بمعونة أميركية لتجنب المساءلة والعقاب. يتناول أيضا تفاصيل مختلفة حول الصراع الدائر في المنطقة، مما يسهم في فهم أعمق للتحديات التي يواجهها الفلسطينيون في غزة وتأثيرات السياسات الإسرائيلية عليهم. وبفضل جهود الكاتب في توثيق هذه الأحداث والتحليل العميق الذي يقدمه، يعد هذا الكتاب مرجعًا مهمًا لفهم الصراع الفلسطيني الإسرائيلي وما يتعرض له شعب غزة من اضطهاد وظلم.
قوة الردع واستراتيجية التصعيد الاستفزازي في النزاع الفلسطيني الإسرائيلي
يعتمد "فنكلستين" في كتابه على سياسة التصعيد الاستفزازي، وهو مفهوم استراتيجي يستخدم في علم السياسة لوصف النزاعات. يتضمن هذا المفهوم التصعيد المتعمد للعنف من قبل أحد الأطراف بهدف استفزاز الطرف الآخر (أو أطراف أخرى) للرد، وهو ما يستخدمه الطرف (الذي يملك آليات أو بدأ التصعيد) لتبرير التصرفات التعسفية والعسكرية اللاحقة بحجة حق الرد والدفاع عن النفس. يطبق "فنكلستين" هذا المفهوم على سياق النزاع الفلسطيني الإسرائيلي، وخاصة شرح نمط عمليات الاحتلال الإسرائيلي في قطاع غزة.
بموجب هذا المفهوم، يعتمد الاحتلال الإسرائيلي على التصعيد المتكرر للعنف بهدف استفزاز المقاومة الفلسطينية للرد، مما يوفر ذريعة للهجمات العسكرية الإسرائيلية اللاحقة. يعتمد الاحتلال على آلة الدعاية الصهيونية لتبرير التصعيد والعمليات العسكرية، من خلال تصويرها على أنها "رد على الإرهاب والانتقام من مرتكبيه". تعد هذه الاستراتيجية جزءًا بارزًا من الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، إذ يؤدي استخدامها إلى دورة من العنف والتوتر المستمر بين الجانبين، دون أي حلول جذرية تسهم في إنهاء الصراع وتحقيق السلام.
أشار الكاتب إلى أن العمليات العسكرية التي تشنها إسرائيل على قطاع غزة ليست إلا قرارات سياسية مُنظّمة تسعى إلى تحقيق أهداف سياسية واقتصادية إسرائيلية محددة. تشمل هذه الأهداف، على سبيل المثال، تعزيز فكرة الردع الإسرائيلي ونشر الخوف في نفوس الفلسطينيين وتقويض التنمية في قطاع غزة من خلال استخدام ما يُعرف بـ "جزّ العشب" على حد التعبير الإسرائيلي. ويشير هذا المصطلح إلى سياسة تدمير البنية التحتية والمرافق الحيوية في القطاع بهدف خلق حالة من الاعتماد المستمر على الاحتلال، حيث يجد السكان في غزة أنفسهم في حاجة مستمرة إلى المساعدة الإنسانية وجهود الإعمار. نتيجة لذلك، يصبح سكان القطاع أكثر تبعية للسلطة الإسرائيلية دون القدرة على مقاومة هذه التبعية بشكل فعّال. وبالتالي، تُعد هذه العمليات العسكرية الإسرائيلية جزءًا من استراتيجية أوسع تهدف إلى تحقيق الهيمنة السياسية والاقتصادية على قطاع غزة، وضمان مصالح إسرائيل في المنطقة من خلال زيادة مستوى التبعية والخضوع للإملاءات الإسرائيلية من قبل الفلسطينيين في القطاع.
يؤكد الكتاب على أهمية بناء وتعزيز قوة الردع لدى دولة الاحتلال الإسرائيلي كجزء أساسي من استراتيجيتها العسكرية والسياسية. لإثبات ذلك، يستشهد الكاتب بتجربة حرب عام 1967، حيث كانت إسرائيل على علم بعدم استعداد الرئيس المصري جمال عبد الناصر لشن هجوم عسكري عليها. ومع ذلك، كانت إسرائيل تدرك أن الخطر الحقيقي يتمثل في تصاعد القومية العربية وتنامي الاعتراض ضد إسرائيل. أدى ذلك إلى تأكيد أرئيل شارون على أهمية الخوف من إسرائيل كسلاح رئيسي. يُظهر هذا كيف أن قوة الردع لدى إسرائيل ممتدة للمناطق المجاورة، وكان لها تأثير في سلوك الدول المحيطة بها.
أما المبدأ الآخر الذي يلازم استراتيجية الردع فهو "استراتيجية أو عقيدة الضاحية". وهو مبدأ يُستخدم في وصف استراتيجية عسكرية إسرائيلية تُطبق في الرد على الهجمات الصاروخية أو القذائف التي تُطلق من المناطق السكنية الفلسطينية نحو إسرائيل. تقوم هذه العقيدة على استخدام قوة عسكرية مفرطة، حيث تقصف المناطق التي يُطلق منها الهجوم بشكل مكثف، مما يؤدي إلى خسائر هائلة في الأرواح والبنية التحتية، دون الحاجة الفعلية لذلك. تُظهر هذه العقيدة السعي إلى استخدام القوة بشكل غير متناسب كجزء من استراتيجية الردع الإسرائيلية في المناطق المحيطة بها، بغض النظر عن التبعات الإنسانية والسياسية لهذا السلوك. ورغم أن عقيدة الضاحية حديثة نسبيا، إلا انها طبقت فعليا أثناء الهجوم على ضاحية بيروت الجنوبية في حرب تموز / يونيو 2006، وأصبحت جزءًا من الاستراتيجية الإسرائيلية في التعامل مع المناطق الفلسطينية وخصوصا غزة.[4]
في تحليله للأوضاع في قطاع غزة، يؤكد فنكلستين أن الضربة الساحقة بالفعل ضد سكان غزة هي الحصار الخانق الذي يفرضه الاحتلال على السكان بشكل متعمد لإعاقة سير الحياة اليومية ومنع الانتعاش الاقتصادي. ومن هذا المنطلق، يسلط الضوء على الجهود الشجاعة التي بذلت لجلب المساعدات إلى أهالي غزة عبر البحر، والتي واجهت عنفًا شديدًا من قبل إسرائيل، مصرحًا أن الهجوم على سفينة "مافي مرمرة" في عام 2010 يعد أحد أبشع مظاهر هذا العنف.
أسطول الحرية: "مافي مرمرة"
تعرضت سفينة "مافي مرمرة" التابعة لهيئة الإغاثة الإنسانية التركية، والتي كانت جزءًا من قافلة من السفن عرفت باسم "أسطول الحرية" التابع لمنظمات غير حكومية تهدف إلى فك الحصار المفروض على قطاع غزة، إلى هجوم شديد متعمد شنه الجيش الإسرائيلي. يرفض فنكلستين المزاعم التي قدمها الاحتلال لتبرير هذا الهجوم، مشيرًا إلى أن إسرائيل لم تكن لديها أي مخاوف بشأن حمولة السفينة، وهذا ما يظهر من خلال عرضها على التفتيش من قبل هيئة محايدة. كما يطرح تساؤلاً بشأن أسباب تنفيذ الهجوم ليلاً، واستخدام فرقة خاصة لتنفيذ إنزال على السفينة من المروحيات، مشيرًا إلى أن الهدف من ذلك كان إثارة الفزع والفوضى لاستفزاز النشطاء على متن السفينة، مما يمنح الجنود الإسرائيليين ذريعة لتنفيذ الهجوم والتصعيد العسكري. ويؤكد أن الهجوم الذي شنته إسرائيل على الأسطول كان متعمدًا بهدف خلق الرعب وإرهاب أي شخص يفكر في دعم غزة. أي أن الهجوم يعكس مبدأ الردع الذي تتبناه إسرائيل كجزء من استراتيجيتها العسكرية والسياسية.
حق المقاومة والدفاع عن فلسطين
تُعد مناقشة حق الفلسطينيين في استخدام القوة المسلحة بهدف إنهاء الاحتلال مسألة جريئة ومعقدة تستند إلى تفسيرات مختلفة للقانون الدولي والمبادئ الأخلاقية والسياسية. إلا أن الكتاب يعرض جانباً مهماً من هذه المناقشة، إذ يتناول النقاط المتعلقة بحق الشعوب في تقرير مصيرها ومنع استخدام القوة العسكرية لقمع الحركات الثورية وفقًا لقرارات محكمة العدل الدولية. لا بد هنا من الإشارة إلى أن هذا الكتاب بمنظوره المتعاطف مع الجانب الفلسطيني والمؤيد لحقه في المقاومة وتقرير المصير هو ثمرة تعاون بين الكاتب فنكلستين وشخصين من أبرز المدافعين عن حقوق الفلسطينية والمنتقدين لإسرائيل والولايات المتحدة، وهما المؤرخ الإسرائيلي "إيلان بابيه" والفيلسوف الأمريكي "نعوم تشومسكي". هذا التعاون سمح بإنتاج كتاب يقدم رؤية شاملة ومكثفة للصراع، مع التركيز على تحليل أسباب تجاهل المجتمع الدولي للجرائم التي ترتكبها إسرائيل منذ عام 1948، وكذلك تطور المقاومة الفلسطينية ضد الظلم التاريخي الذي تعانيه فلسطين.
الكتاب والأحداث الراهنة
أصبح الكتاب والتحليل المستخدم في عرض سياسات إسرائيل الاستفزازية الممنهجة ذو أهمية كبيرة في الوقت الحالي. فالتشابه بين سياق الأحداث التي وقعت في فترة كتابته والأحداث التي تجري الآن في غزة تجعله مرجعًا مهمًا، خاصةً مع استمرار الاحتلال الإسرائيلي في شن حربه اللاإنسانية والهمجية على قطاع غزة. إذ يتناول الكتاب نفس الظواهر والتعقيدات التي لا تزال تحتل الصدارة في الأزمة، مثل: المذابح، الحصار، الدعم والتأييد الأميركي لإسرائيل، المساعدات الإنسانية ومحاولات كسر الحصار، دور المقاومة الفلسطينية، وموقف السلطة الفلسطينية في رام الله، والكثير من المسائل الأخرى ذات الصلة بالقانون الدولي وحقوق الإنسان.Formun Üstü
ختامًا، تؤكد الحقائق أن حرب غزة الحالية تجاوزت في شدّة تدميرها وخرابها كلّ الحروب التي سبقتها، مستهدفةً الإنسان والمكان. فمنذ بدء العدوان الإسرائيلي، تتعرض المستشفيات والمدارس والكنائس والمساجد لقصفٍ جوي ومدفعي طال منذ الأسبوع الأول الجامعات المختلفة ودمر أغلبها، بالإضافة إلى المكتبات والأرشيفات والمؤسسات الثقافية، مثل مكتبة إدوارد سعيد.[5] ولم تقتصر الهجمات على ذلك، بل شملت أيضًا قصف مبانٍ تاريخية ومواقع أثرية عريقة مثل كنيسة القديس برفيريوس للروم الأرثوذكس، التي تعدّ ثالث أقدم كنيسة في العالم، وتدمير المسجد العمري الكبير. ورغم اتّباع الاحتلال لأساليب التخويف و"جزّ العشب" التي ذكرها الكتاب، في محاولة يائسة لتغطية خيبته وخسارته وعدم تحقيقه لأيّ أهداف حتى بعد مرور شهور من العدوان على القطاع، إلا أن ثمن هذه الحرب باهظٌ جدًا، فقد سقط عشرات الآلاف من الشهداء والجرحى، وغدت غزة مدينة ركام ورماد، وهو ما ظهر جليًا في مقطع الفيديو الذي نشرته الأونروا على حسابها، والمشار إليه في المقدمة، والذي اعتمد جزء منه عنوانًا لهذا النص. إن هذه الحقيقة تُدمي قلب كلّ فلسطيني وإنسان ينتظر بفارغ الصبر نهاية الحرب ليرى غزة تخرج من تحت الركام كطائر الفينيق، رافضًا حقيقة أنّ "إزالة الحطام ستستغرق سنوات".