يلجأ المؤرخ آفي شلايم إلى سيرته الذاتية لتفكيك الأوهام المؤسسة لإسرائيل.
صلاح النصراوي 
ليس هناك صراع في العصر الحديث قام على السرديات التاريخية والهوياتية أكثر من الصراع العربي الإسرائيلي، الذي ارتكزت خطاباته على أساطير اختلط فيها الديني بالعرقي والثقافي، وارتقت فيها الروايات إلى مرتبة الاعتبارات الوجودية. يتجلى بشكل ساطع في النسخة الإسرائيلية التي قامت على أساطير كبرى تمتد من الوعد الرباني بأرض المعاد الى البشارة بـ "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض". أما السرديات العربية فكانت في مجملها رد فعل على تلك التي أفرغتها من جعبتها الحركة الصهيونية الاستيطانية وقبلها الاحتلالات الاستعمارية للمنطقة، والتي استلت من تراث موغل في القدم متوجس من غارات الآخر على المنطقة وعلى شعوبها وثقافتها وعلى وجودها المعنوي والفيزيائي.
يأتي كتاب آفي شلايم الجديد "ثلاثة عوالم: مذكرات يهودي عربي" في وقته تماماً وقبل أسابيع قليلة من الحرب التي تشنها إسرائيل على غزة إثر العملية التي قامت بها حركة حماس في 7 أكتوبر، ليقدم فرصة ثرية للمهتمين بهذا الصراع ليتعمقوا في جذوره التاريخية التي لم يتسنى للكثيرين الاطلاع عليها. وإنما بنوا سرديات للحاضر متحيزة ومفتقدة للدقة وللحقائق، وأحيانا متطرفة لا تقل تضليلاً عن روايات السلف وأساطير الأولين، مما فاقم من محنة وحيرة وقلق كل المعنيين بالصراع والمتابعين له في أرجاء العالم. وهو ما تَبيَّن جلياَ أثناء الأزمة الأخيرة التي اندلعت أثر هذه الحرب.
في الكتاب الصادر باللغة الإنكليزية عن دار نشر (Oneworld Publication) يعود شلايم، أحد أبرز المؤرخين الجدد في إسرائيل، إلى مهمته الأثيرة التي نذر لها عمله الأكاديمي والمتمثلة بتفكيك الأساطير الصهيونية التي قامت عليها دولة إسرائيل. لكن هذه المرة ليس من خلال الوثائق والسجلات التي ارتكز عليها في تدوين كتبه السابقة، وإنما من خلال سيرته الذاتية كيهودي وإسرائيلي والتي يكتبها بحنكة كنموذج بارع للربط بين العام والخاص وتقديم نسخة مشوقة من التاريخ تجمع ما بين الخبرة العملية والتجربة الشخصية. 
وصف يوجين روجان، مدير مركز دراسات الشرق الأوسط بكلية سانت أنتوني في جامعة أوكسفورد، الكتاب حين صدوره بأنه "أفضل كتاب قرأته هذا العام".
عقدة الطفولة
منذ البداية يطرح شلايم في الجملة الافتتاحية لكتابه فكرته الأساسية وهي صراع الهوية الذي عاشه منذ أن وضعت عائلته اليهودية العراقية أقدامها في إسرائيل بعد هجرتهم إليها عام 1951 منساقين وراء دعوة الحركة الصهيونية بالعودة إلى أرض المعاد. يكتب شلايم "إذا ما كان على أن أحدد عاملاً واحداً شكل علاقتي مع المجتمع الإسرائيلي، فإن ذلك سيكون عقدة الدونية... لقد كنت صبياً عراقياً يعيش وسط الأوروبيين". ذلك هو عالم شلايم الأول الذي عاش فيه طفولته وصباه وجزء من شبابه، والذي يلخصه دائماً بكونه العيش كمواطن درجة ثانية من المزراحيم إلى جانب السفارديم (اليهود الشرقيين) في دولة يهيمن عليها الاشكنازي (يهود أوروبا الشرقية).
طالما شغلت هذه الثنائية وممارساتها على أرض الواقع الإسرائيلي الدارسين باعتبارها تعبيراً عن الانشطار الإثني في إسرائيل، والذي يبدد الفكرة الجوهرية للصهيونية التي قامت عليها الدولة عن الهوية الدينية العرقية الموحدة ليهود العالم. لكن ما يقدمه شلايم هنا هو تجربة شخصية وعائلية يحاول من خلالها إلقاء الضوء بحبكة منسوجة بعناية ليحدد من خلال روايته الذاتية معايير تحدد ما يمكن اعتباره واقعا يمنح الرواية الأخرى عن التعددية اليهودية والهرمية السوسيو-اجتماعية الناتجة عنها سلطة مرجعية.
عبر صفحات مطولة يروي شلايم قصة طفولته المرفهة وسط عائلته اليهودية الثرية في بغداد في النصف الأول من القرن العشرين، ويقارنها بعد ذلك بالبؤس الذي عاشته في إسرائيل سواء في سنوات العوز والحرمان الذي لاقته بعد وصولها الى اسرائيل الخارجة لتوها من الحرب، أو بعد ذلك التمييز والنبذ الذي تعرضت إليه على يد النخب الاشكنازية التي هيمنت على الحياة السياسية والاقتصادية والإدارة في "أرض الحليب والعسل" الموعودة.
اللامنتمي
حكاية شلايم وعائلته هي ذاتها حكاية 110.000 يهودي عراقي تعود أصولهم الى جذور عميقة في تاريخ وادي الرافدين ربما لأكثر من 2500 عاماً، ثم أجبروا على الهجرة الى إسرائيل بطرق مختلفة منها التدليس والتضليل وعمليات التلاعب وغسل الدماغ التي مارستها الصهيونية وحملات الترهيب التي لجأت إليها لإفراغ العراق من يهوده.
هنا يعود شلايم كـأكاديمي متخصص ليمارس دوره في حفريات التاريخ وليسلط الضوء على الدور الذي مارسته الحركة الصهيونية وأجهزتها السرية في تهجير اليهود العراقيين الى إسرائيل، من خلال حملة التفجيرات الإرهابية التي قامت بها عناصرها ضد المؤسسات اليهودية في بغداد، وبث الرعب في صفوف اليهود الذين ظلوا رافضين لإغراءات الهجرة إلى إسرائيل. فعبر تقنيات استقصائية يعود شلايم إلى منشورات قديمة وشهادات معاصرين ليعيد تركيب أحداث تفجيرات عامي 1950 و1951 ضد اليهود في بغداد التي قام بها عملاء ووكلاء ومتعاونون مع الأجهزة السرية الصهيونية والتي نجحت بالتالي في إفراغ العراق من يهوده بعد هروبهم إلى إسرائيل.
وإذا كانت مقولة جدته التي ظلت ترددها طيلة حياتها في إسرائيل بحسرة بأن "العراق جنة الله على الأرض" والتي كررها في كتابه مرات عديدة، فإن استنتاجه الأساسي بعد سنوات قليلة من وصولهم الى هناك كان إحساسه بأن إسرائيل "لم تكن وطناً" له وأنه "لم يكن جزءاً منها"، بل كان كسفارديم يشعر دائما بأنه "خارج المكان."
وإذا كان ذلك خلاصة الجانب الذاتي والإنساني من تلك التجربة فإن الخلاصة الجوهرية لتغريبة اليهود العراقيين في إسرائيل، بل تجربة الكثير من اليهود الذين انساقوا وراء وهم الأرض الموعودة، وخاصة الشرقيين، التي يوجزها شلايم هي تلك التي جاءت نقيضا لما جاء في أحد المزامير عن يهود السبي والذي يقول "على أنهارك يا بابل جلسنا نذرف دموعنا حين تذكرنا صهيون". يرى شلايم أن أولئك اليهود العراقيين ربما كانوا يرددون مع أنفسهم "على سفوحك يا صهيون جلسنا نذرف دموعنا حين تذكرنا بابل." 
كل من يلم جيداً بالثقافة اليهودية وتاريخ الحركة الصهيونية ودأبها على تأسيس اسرائيل ولم شتات اليهود فيها يدرك كم هي مؤلمة وقاسية تلك النتيجة التي يصل إليها شلايم على الصعيد الشخصي وكيهودي، ولكنها منسجمة تماما مع تصميمه على تأكيد هويته العراقية والعربية واعتزازه بذلك الانتماء، كما يوجزه في عنوان الكتاب (مذكرات يهودي عربي)، أو كما يفصله في متنه حيث يسمي العراق "وطننا" الذي غادرناه بسبب "قوى كانت تماما خارج إرادتنا وحتى خارج إدراكنا". وإذا كان ذلك استنتاجه الشخصي فإنه خلاصة طرحه الجريء هذا كمؤرخ وأكاديمي هو تحطيم أحد أهم الركائز التي قام عليها المشروع الصهيوني بمحاولة جلب يهود العالم إلى إسرائيل بالترغيب والترهيب ومحاولة صهرهم في بوتقة واحدة.
 لا يكتفي شلايم في دحض تلك الفكرة التي تحاول حبس البشر في سجن هوية واحدة، والتي يرى أنها انتهت بتأسيس إسرائيل ككيان "استيطاني" و"قوة كولونيالية (استعمارية) غاشمة"، بل يناقش تأثيراتها على الجانب الآخر، أي الفلسطينيين الذين تحولوا تحت الاحتلال الإسرائيلي إلى شعب محتل يقاسي من الظلم والتمييز والتعسف تحت نظام لا يتورع من وصفه مرات عديدة بأنه نظام فصل عنصري "أبرتهايد" شبيه بما كان قائما في جنوب أفريقيا تحت حكم الأقلية البيضاء.
هذا النظام كما يراه شلايم ترسخ مع إصدار "القانون الأساسي: إسرائيل دولة-أمة لليهود" الذي صدر عام 2018 والذي أعطى لليهود فقط دون العرب من مواطني إسرائيل حق تقرير مصير الدولة. أما بالنسبة للفلسطينيين في الأراضي المحتلة فإن ذلك الوضع الذي يترسخ بالقوة الجبرية وبالقانون أحادي الجانب أنهى - بحسب شلايم - فرصة أي حل سلمي سواء كان قائما على أساس دولتين على الأرض التي تمتد بين النهر والبحر، أو حتى على أساس دولة واحدة تجمع العرب واليهود مما يبقي شبح الترانسفير أو تهجير الفلسطينيين قائماً. 
العالم الثالث
في بريطانيا التي هرب إليها من أحلام العيش في أرض الأجداد في العراق، ومن كوابيس الجنة الموعودة في إسرائيل، كي تصبح عالمه الثالث الذي يمنحه حياة جديدة يختتم شلايم ذلك الجزء بفصل يعنونه بـ"اليقظة’" للدلالة على الاستعادة وعلى رأس ذلك استعادة الوعي بالهوية الذاتية ونبذ الأحلام والأوهام.
أهم ما يسجله شلايم في هذا الجزء هو شعوره في بريطانيا "بالبعد الأوروبي" في شخصيته، وهي مفارقة أخرى ستضيف إلى ما يسعى إليه الكتاب من تقويض نظرية الاستيعاب التي ارتبطت بالنقاش حول المسألة اليهودية في أوروبا منذ القرن التاسع عشر ـالتي تترسخ في سياسات الدمج في إسرائيل وأخيرا في الإعلان القانوني الدستوري عن يهوديتها.
ورغم أنه لا يعرج كثيراً في الكتاب على حاضره كمؤرخ وأستاذ في جامعة أوكسفورد و كعضو في الأكاديمية الوطنية البريطانية ومؤلف وناشط، فإن سجله الحافل بتلك النزعة الاستقلالية التي أهلته ليكون واحداً من بين ثلاثة – إلى جانب بيني موريس وإيلان بابيه- من المؤرخين الجدد في إسرائيل الذين يحاولون منذ الثمانينات مراجعة التاريخ وتشذيبها من الروايات الآحادية والأساطير والتلفيق التي تم استخدامها لفرض صورة نمطية عن الصراع العربي الإسرائيلي.
ولعل بالإمكان القول أن البيئة الجديدة التي تحققت له في بريطانيا بعيدا عن كل أنواع الضغوط التي كان سيتعرض لها في إسرائيل هي التي مكنته بالنهاية من التخلص من الواحدية الهوياتية والتعصب والانغلاق، وتقديم مساهمة مهنية احترافية جليلة في كتابة تاريخ واحد من أكثر الصراعات تعقيداً في العصر الحديث.
بطبيعة الحال، تعرض كتاب شلايم هذا وما سبقه من كتب إلى موجة انتقاد من قبل التيار الصهيوني العام واللوبيات المؤيدة لإسرائيل الذين ركزوا في الكتاب على قضية تهجير اليهود العراقيين باعتبارها محاولة من شلايم لـ "إعادة تدوير" القصة التي تم تناولها من قبل مرات عديدة، أو اتهامه عموما بترويج روايات "ضعيفة و"آحادية" وغير منصفة" أو إدانته ككاره للذات ومعاد للسامية وهي تهمة غالبا ما توجه لغير اليهود.
يقر شلايم بأن روايته عن الدور الرسمي للحركة الصهيونية في تهجير يهود العراق تفتقر إلى الوثائق الإسرائيلية الرسمية والتي دأب على استخدامها في كتاباته.  لكنه يوجه اللوم في ذلك إلى عدم قبول إسرائيل بفتح الملفات المتعلقة بذلك أمام الرأي العام أو الباحثين، وهي مثل سجلات عديدة أخرى ينتظرها مؤرخون ودارسين للكشف عن تاريخ حافل للحركة الصهيونية وللأجهزة الأمنية والمخابراتية الإسرائيلية بعد ذلك والتي ساهمت بدور كبير في الحرب الخفية التي رافقت الحرب الساخنة التي شنتها أو خاضتها إسرائيل.
شلايم هو من أكثر الناس إداركاً أن الوثيقة هي واحدة من أهم أدوات البحث التاريخي، لكنه أراد أن يثبت في هذا الكتاب أن غيابها لا يعني عدم اللجوء إلى أدوات وسياقات أخرى لطرح الرواية أو الوقائع التاريخية.