يعد كتاب "ترجمات علمانية: الأمة- الدولة والذات الحديثة والعقل الحسابي"[1] لمؤلفه طلال أسد، أستاذ أنثروبولوجيا الدين والثقافة في جامعة مدينة نيويورك، استمرارًا لمشروعه القائم على المنهجية الأنثروبولوجية التي طورها في مؤلفاته السابقة حول ظاهرة الدين (والعلمانية)، أو ما يتعارف عليه بـ " جِنيولوجيا الدين"، كجزء لا يتجزأ من الحداثة.
مايا البوطي [2]
تتركز أعمال طلال أسد البحثية على موضوعات التدين وخطاب العلمنة ودراسات الشرق الأوسط ودراسات ما بعد الاستعمار، وتمعن في إشكالية المفهوم الغربي للحداثة. من أهم المفاهيم التي ساهم بتقديمها في مقال نشر له عام 1986 بعنوان "فكرة أنثروبولوجيا الإسلام"، مفهوم التقليد الخطابي Discursive Tradition"". اعتمد أسد فيه دراسته على مفاهيم ميشال فوكو المتعلقة بالسلطة والخطاب والممارسات المنطقية أو الممارسات المحكومة بالخطاب "Discursive practice" وذلك لتحليل علاقات القوى بين أوروبا والأقليات المهاجرة، خاصة المسلمة منها.
العلمانية كممارسة سياسية لا معرفية
بيّن أسد الممارسات المتحيزة في دراسات أنثروبولوجية الإسلام التي تنطلق من تحليل الدين الإسلامي كفكر مجرد، بدلاً من قراءته كممارسة وتقليد يبني علاقات الأفراد. كما انتقد دراسات الأنثروبولوجيا الراسخة لكونها محكومة بمركزية عرقية وبتاريخ استعماري، فعمد أسد إلى تفكيك المعرفة المحكومة بالسلطة وذلك بالاعتماد على مفاهيم فوكو.
وفي إطار تحليله للعلمانية، ميّز في مقدمة كتابه، الصادر في عام 2018، بين العلمانية كممارسة سياسية وبينها كفئة معرفية، مؤكدًا أن العلمانية أكثر من مجرد غياب التدين، بل هي نمط من المجتمع المحكوم بممارسات ثقافية ترتبط بها، فهي مفاهيم وحساسيات وطريقة شعور وتفكير وتكلم.[3] وعلى ضوء ما سبق، يتابع أسد الكتابة عن العلمانية كموضوعة تشغله في كتابه "ترجمات علمانية"، وهو عبارة عن نسخة منقحة وموسّعة تجمع محاضرات روث بندكت، التي ألقاها في قسم الأنثروبولوجيا في جامعة كولومبيا في إبريل عام 2017، والتي جرى توزيعها في ثلاث مقالات تناقش الخطاب العلماني.
وضحت المقدمة أن ما يجمع المقالات الواردة في الكتاب، هو مفهوم الترجمة، وذلك انطلاقًا من سؤال يتمحور حول ما تفعله اللغة بالموضوعة، وليس ما تفعله الموضوعة باللغة. فتبعًا لأسد، تتجذر اللغة في الحياة وممارساتها ولا يمكن فصلها عن "العادة" أو "الاعتياد" وهو ما يعرف بالممارسات الثقافية التي تحكم أنماط سلوك طبقة اجتماعية واقتصادية ما. ويرى كذلك، أن الرموز تتحول لممارسة ولفعل. لذا تعد ترجمة القيم من لغة إلى أخرى أمراً إشكاليًا.
يقدم أسد مثالاً عن ترجمة ديفيد فيري لملحمة جلجامش، والتي يرى أهميتها في كونها تنقل لنا إحساسًا وتوصل لنا حالة، ولعلها ليست ذات الحالة الشعورية التي لمسها المتلقي-ة قبل أربعة آلاف سنة، ولا يمكننا التأكد من ذلك. ويعتقد أنه لم يكن هدف المترجم أن يوقظ فينا ذات الحالة الشعورية الأصلية، لكنه، أعطى النص حالة تمنح المتلقي-ة في عصرنا حرية مقاربة النص الأصلي كما يرغب-ترغب بذلك. أي أن الترجمة الأفضل، تبعاً لأسد، هي ما تمكننا من ملامسة معنى مميز مما يقدمه النص الأصلي، إذ لا يمكن للترجمة أن تعطينا المعاني المتضمنة بكليتها في النص الأصلي مهما كانت جيدة. بل إن جودتها تأتي من كونها تربط النص الأصلي بالمترجم والذي يصبح بدوره تجل له.
في سعيه لتفكيك مفهوم العلمانية، يقتبس أسد رؤية السير لاري سايدنتوب، الذي يرى أن روح العلمانية هي الاعتقاد بحق الأفراد المتساوي بحرية التفكير والاختيار والمعتقد، والتي برأيه هي قيمة من قيم المسيحية التي تسعى بدورها لتكريس المساواة وحرية الاختيار. إلا أن أسد يعود ويفند مقولة سايدنتوب وعدد من المفكرين الذين يشاركونه الرأي مثل ماكس فيبر، بقوله: "هذه النظرة للجذور المسيحية في العلمانية، والتي ترى الأفكار العلمانية كترجمة للمسيحية، أكدها هؤلاء ممن يجادلون بأن السابقة لها نسبها الخاص (الجينولوجيا الخاصة)، والتي تمثل الانفصال العميق عن الدين والسحر- انفصال يتميز ببروز العلوم والسياسة الحديثة."[4]
تشكل هذه الدعوى بالنسبة لأسد، حرمانًا لجميع "من لا يستطيعون ادعاء هذا الإرث."[5] لذا، يؤكد بأنه بعد تاريخ طويل من العلاقة المضطربة مع اليهود والتي انتهت بمحرقة الهولوكوست على يد النازيين، تأتي المرحلة الجديدة حيث التوبة والتصالح معهم، ضمن وجهة نظر مسيحية حول مكانة اليهود التي عفا عليها الزمن. هكذا، يجادل أسد أن ادعاء وجود موروث يهودي-مسيحي، يتباهى به علماني الاتحاد الأوربي، هو استبعاد نَحوي للمسلمين-ات. يظهر ما سبق رفض أسد لوجود ثنائية تفترض دونية الديني وتعتقد بكونه ذا طبيعة ثابتة غير قابلة للتطور، كما يكشف الممارسات الإقصائية للفكر العلماني ومركزية رؤيته.
عندما تتناقض القيم: الوحشية والقسوة كجزء من المنظومة
من خلال بيان الترابط بين الفكر العلماني والليبرالي وقيم المساواة والحرية والحياد، يسعى أسد لتفكيك هذه المفاهيم لإظهار التناقض ضمن الخطاب السائد. ويرى أن الفكر الليبرالي يفترض قيامه على نظام المساواة الذي ورثه من الفكر المسيحي، الذي يقوم على "أن الإنسان خلق على صورة الله". على ضوء هذا، يسأل الكاتب إن كانت الليبرالية تقوم على المساواة في الحقوق، فهل يشمل ذلك المساواة بالفرص؟ وهل للجميع، من لا دينيين-ات ومتدينين-ات حق المشاركة على حد السواء؟ ويخلص إلى أن الليبرالية، التي جاءت كحركة ثورية على المنظومة الملكية في القرن السابع عشر والثامن عشر، باتت مشروعًا إمبرياليًا في القرن التاسع عشر والعشرين. كما باتت تشكل قوة غاشمة في القرن الواحد والعشرين بتحريضها العدواني على توسيع حرية السوق وتعزيز قوة رأس المال.
بناءً عليه، يتابع طلال أسد بحثه في مسألة مفهوم الدولة وقيامها على قوة السلطة، مستندًا في ذلك على قراءة توماس هوبز للدولة ودورها. ضمن هذا الدور القهري، يستقصي أسد التناقض بين سلطة الدولة ومفهوم الحرية كحق يصرح به النظام الليبرالي. نظرًا لأن الليبرالية التي طبقها الآباء المؤسسون لأمريكا، تقوم على حق المِلكية كأولوية على حقوق الإنسان، فإنها تنطوي على قبول حقيقة أننا غير متساويين-ات، مما يظهر التناقض في مفهوم المساواة. ومع اعتبار الثروة وتراكمها معياراً لنجاح المنظومة، تصبح الوحشية والقسوة جزءًا منها وادعاء رفض ممارسات الأضحية كشعائر دينية لا يلغي عنف هذه المنظومة تجاه البيئة واستغلالها الجائر.[6]
علاوة على ذلك، يبين أن ادعاء الحياد كقيمة تدعو لها العلمانية على أرضية ليبرالية غير قائمة على التساوي بالفرص يؤدي إلى بطلان المساواة كشرط أساسي للحياد المفترض. ويشير إلى أن الليبرالية تتجه نحو "الاستبداد مع قدرتها على عدم التعامل مع اللامساواة الاقتصادية بكفاءة، وتساهلها مع الفساد السياسي".[7] يضيف أسد في تحليله للثقافة الأوربية، التي تعد وريثة لفكر يهودي-مسيحي، أن مبدأ المساواة السياسية "لا يمكن توسيعه ليشمل المسلمين-ات، لكونه ينظر لهم-ن كأتباع لدين "غير ليبرالي"، لذا يؤكد أن ادعاء العلمانية للحياد في تعاطيها مع جميع المواطنين-ات بغض النظر عن معتقدهم يغدو أمرًا إشكالياً. وبافتراض غياب الله عن العالم، يواجه ورثة العلمانية صعوبة في الاعتماد على مبدأ حب الله للجميع كأساس لبناء مجتمعاتهم. بدلاً من ذلك، يعتمدون على مصلحة الدولة القومية، حيث تمنح المساواة والكرامة فقط للأشخاص الذين يعتبرون مفيدين للدولة. أي تصبح المساواة في ظل غياب الله "شرطية"، تعتمد على شروط معينة مثل الولاء للدولة أو المواطنة. فإن كانت المسيحية قد منحت مشاعر علمانية قيّمة للعالم الحديث، فإن هذه الهبة هي أكثر خطورة مما يفترض، لأن ما يستدل عليه في مجتمع ديمقراطي ليبرالي ليس "الحب الإلهي" للجميع، بل سلطة الدولة فوق الجميع.[8]
لذا يأتي سؤال أسد باحثاً عن لغة يمكنها تقديم رؤية أكثر عدلاً ومساواةً. فيقترح رؤية يورغن هابرماس لما بعد العلمانية، التي تحث على ترجمة اللغة الدينية إلى المجال العام. وهي رؤية لمجال تعددي قد تتيح الاستفادة، في رأيه، من الموارد الأخلاقية للدين. لكن الترجمة المطلوبة التي يقدمها هابرماس، كما يصرّ أسد، مرتبطة بمفهوم الترجمة باعتبارها عملية معرفية مجردة تنطوي على تكافؤ كلمة بكلمة بين اللغات، متجاهلة مركزية الحساسية للغة الدينية. ما يجعل هذا التصور من اللغة "مجرد نظام محايد للوصف" وليست "طريقة نعيش بها الحياة". لكن ما يهم "ليس ما نفعله باللغة" بل "ما تفعله اللغة بنا" هو ما يجب أن ننتبه له. [9]
ما وراء الهجرة والأقليات
من خلال تحليل متعدد التخصصات، يساهم أسد في كشف الإشكاليات التي تعاني منها الدول الديمقراطية في التعاطي مع إشكاليات الهجرة والأقليات والوكالة الأخلاقية وقضايا التمييز والعنصرية. يُظهر تفكيك أسد للحداثة ولمفهوم الدولة والسيادة أن القضايا التي تواجهها الدولة القومية لا تكمن في وضع فئة محددة من الأفراد، بل في موروث الفكر الغربي الحداثي الليبرالي والجهل بإشكالياته التي تنطوي على ممارسات غير عادلة. يتضح من العنوان الذي تم اختياره للكتاب توسع البحث في مسارات متعددة. ومن اللافت في طريقة أسد في هذا الكتاب، المعتمد على أسلوب المحاضرة، التوسع بين محاور وقضايا عديدة في ذات الوقت، مما قد يخلق للقارئ-ة نوعاً من التشتت. إذ ينتقل ليبحث في السياقات الإشكالية في أوروبا ليتحدث في ذات الوقت عن الولايات المتحدة، كذلك ينتقل بين الماضي والحاضر، مما يمكن أن يجعل تلخيص أفكاره أمرًا صعبًا بعض الشيء. لا يلغي هذا ما يحمله الكتاب من منظور شامل وغني يساعد على فهم إشكاليات تلامس واقعنا، بالإضافة إلى أنه يساهم في تحدي تبسيط الأمور ضمن ثنائيات نقيضة نمطية بتعمقه في تحليل المنظومة وسياقاتها.