يقدم كتاب "تهويد المعرفة"،[1] لمؤلفه ممدوح عدوان، نظرة شاملة على تأثير سيطرة الصهيونية على العقل والوعي في العالم، مسلطًا الضوء على كيفية تشكيلها للتاريخ والمعرفة. كما يتناول بشكل مفصل سيطرتها على المجالات السياسية ووسائل الإعلام، مع التركيز على تأثيرها العميق على القضية الفلسطينية. يعدّ الكتاب عرضًا سريعًا لأشكال تلفيق وتزوير المعرفة، ويكشف عن الاستراتيجيات الصهيونية في إعادة كتابة التاريخ، واحتكار المأساة.
علي أبو هواش[2]
يعد ممدوح عدوان واحدًا من الأدباء السوريين الأكثر إنتاجًا في المجال الأدبي. حقق كتابه "حيونة الإنسان" شهرة واسعة وجدلاً كبيرًا منذ صدور طبعته الأولى في عام 2003، إذ أثار تساؤلات جادة حول طبيعة الإنسان وقدرته على التغيير في ظل الاستبداد. أما كتابه "تهويد المعرفة"، الذي صدر في طبعته الأولى عام 2007، فقد كان من المفترض أن يكون مقدمة لكتاب آخر،[3] ولكن عدوان اختار أن يستفيض في شرح محتواه، مما جعله كتابًا مستقلاً بذاته.
اختار عدوان عنوانًا لكتابه يعبر عن رأيه في تأثير هذا العنوان على زمانه، ونجده يظهر يوميًا في وسائل الإعلام العالمية من خلال رواج السردية الصهيونية حول القضية الفلسطينية. يقدم هذا السرد بلغات غير العبرية، ويُعرض عبر شخصيات سياسية وإعلامية غير إسرائيلية. وعلى الرغم من ذلك، تتبنى هذه الشخصيات بشكل كامل ما يرويه الصهاينة حول ما يجري في المنطقة، وتسعى بحماس لتبرير حروبهم وأفعالهم الإجرامية واحتلال الأراضي وإذلال الشعوب.
تُصوّر رؤية الصهاينة للصراع على أنه صراع بين قوى الخير وقوى الشر المطلق. كما يصوّر اليهودي نفسه حاملاً لراية العلم والحضارة، حتى وإن كان جنديًا مختلاً يمارس أبشع أشكال القتل والتعذيب والسادية. في المقابل، يُصوّر الفلسطيني كشرير وشيطان، حتى وإن كان طفلاً صغيرًا يخاف من صوت الطائرات والقنابل. بل يذهب الإنسان الأبيض أبعد من ذلك بعدم تصديق ما تراه عيونه، بهدف التأقلم مع الجريمة التي صنعها، ولا يزال يظهر تأييدًا ودعمًا لها.
يوضح الكتاب أن السيطرة الصهيونية لم تبدأ، كما يشاع، مع ظهور اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة، الذي له تأثير كبير في الإعلام. كما أنها بدأت في وقت أكثر قدمًا من وعد بلفور، أي من دعوة نابليون لخلق دولة شبيهة بإسرائيل تضم يهود العالم، كحل نهائي للمسألة اليهودية في أوروبا، وثم توالت المشاريع المتأخرة التي ظهرت نتيجة لتهويد المعرفة الغربية.[4] يشرح الكتاب، في أقل من مئة صفحة، تاريخ التلفيق والتزوير الذي أعاد كتابة تاريخ يُصوّر اليهودي فيه منزهًا عن كل شائنة، حتى أن أي حدث شارك فيه اليهود بدور غير محمود، جرى إعادة النظر فيه إما لنفي دورهم فيه او لتبريره. ويشير إلى أن عملية إعادة كتابة التاريخ هذه لا تحدث الا لأغراض سياسية، وهي العملية التي ذكرها برنارد لويس في كتابه "التاريخ: استذكاره واستعادته واختلاقه"، بأن هذا التاريخ هو التاريخ المستعاد، الذي يشمل الأحداث والأشخاص والحركات التي نبذتها الذاكرة الجماعية، ثم جرت عملية استعادتها عبر دراسات علمية أكاديمية، خضعت إلى عمليات إعادة تشكيل لصالح مجموعة دون أخرى. وهذا ما فعله تمامًا في أطروحاته وتناوله للتاريخ، إذ فسر كل الحوادث التاريخية من منطلق ديني محض، بل تحيز بشكل واضح لليهودية والنصرانية.
تحولات صورة اليهودي في الفكر الغربي
ظهر تهويد المعرفة بشكل واضح في الأدب الغربي، إذ انتقل الأدباء الأوروبيون تدريجيًا من شيطنة اليهودي إلى التغني بالشخصيات اليهودية. بدءًا من شخصية المرابي اليهودي "شايلوك" في مسرحية "تاجر البندقية" للشاعر والكاتب وليم شكسبير، الذي اشترط أن يقطع رطلاً من لحم التاجر المسيحي "أنتونيو" بدلاً من المال الذي اقترضه منه، وصولاً إلى شخصية "باراباس" الذي رفض إعانة مالطا في حربها ضد تركيا في مسرحية "يهودي مالطا" لكريستوفر مارلو. وكذلك شخصية اليهودي التي يذكرها جيفري تشوسر في "حكايات كانتربري"، وما يذكره فولتير أيضًا في "قاموس الفلسفة" في نفس السياق والذي خصص له 30 مقالة في نقد اليهود.
ظهر التحول في المؤلفات السياسية والفلسفية وغيرها مع بداية القرن الثامن عشر، إذ تحولت قضية اليهود في كتابات جورج إليوت ودزرائيلي وغيرهم إلى واحدة من أهم قضايا التحرر في الفكر الغربي وأكثرها مركزية. ووصولاً إلى كتابات هيغل، الذي ألحق الديانة اليهودية بالمسيحية الغربية، رغم اعترافه بأنها ديانة مشرقية، متأنفًا من أن يتركها لأصلها الذي نبتت فيه. وهكذا بدأت عملية تهويد المعرفة، ليس فقط بالتلاعب بالحقائق، بل بلوغها حد التزييف وتبني "حقائق بديلة".
في السياق ذاته، كان لمواقف التنويريين الغربيين من الكنيسة دور في تغيير صورة اليهود ونظرة الغرب إليهم. إذ أضيفت قضية اليهودية إلى قضايا العدالة والتنوير نتيجة للاضطهاد الكنسي، مما دفع إلى فهم أكبر لمساعي اليهود وحقهم في المساواة. تطور الأمر مع وصولهم، "أي المطرودين من الحرم الكنسي في أوروبا"، إلى أراضي أميركا وأدغالها. ذلك الانتقال الذي جعلهم أكثر توحدًا مع التصور الأقلوي لليهود عن العالم.
شعب الله المختار
تمثل هذه التسمية "شعب الله المختار"، تمثيلاً واضحًا للتشابك والترابط العقدي والعاطفي بين المستعمر الأميركي في أراضي الهنود الحمر، وبين المستعمر الأبيض الصهيوني في الأراضي الفلسطينية. حتى أن المستعمرين الجدد الذين تبعوا كولومبوس أطلقوا على الأرض التي اكتشفها اسم "أرض صهيون"، و"كنعان الجديدة". لقد آمن "البيوريتانيين" القادمون من أوروبا بأن تجربتهم الخاصة، المتمثلة في الهروب إلى البراري، هي تجسيد لتجربة الخروج التي خاضها اليهود الذين قادهم موسى من مصر "أرض العبودية". لقد آمنوا بأن تجربتهم هي تجسيد حي لتجربة الخروج، وفسروها على أنها تكرار للتاريخ الذي شكل شعب الرب القديم. وبذلك، اتحدوا تمامًا كشعب مختار مع الشعب الذي سيظهر لاحقًا في أرض فلسطين.
يفرض هذا التشابه في الاعتقاد تشابهًا في الممارسات. فالشعب الذي يرى نفسه مختارًا وحاملاً للحضارة يبيح لنفسه كل مقتلة وإبادة ويعقلن كل ما يفعل كضرورة. ذلك لأن هذا الشعب الأرقى لا يستطيع التعايش مع الشعوب الأدنى في نفس المساحة، ولا يجد حلاً لها سوى بإبادتها أو تهجيرها وطردها حتى تخلو له الأرض الخيرة وتجود عليه بما فيها. بل ويسمي حملات القتل في هذا السياق "تطهيرًا"، ولا يشعر بالأمان إلا إذا خلت الأرض من سكانها الأصليين الذين يظلون مذكرين له بغرابته عن المكان، وخطيئته الأصلية فيه.
هيمنت الصهيونية، قبل حتى أن تظهر بشكلها العنيف والإمبريالي الحالي، على العقل الأميركي والأوروبي. وتمكنت تدريجيًا من فرض سيطرتها في كل المجالات، من الدين إلى الأكاديميا، والسياسة والاقتصاد. حتى كان أول كتاب مطبوع في أميركا الشمالية هو "سفر المزامير" (The Bay Psalm) في عام 1640، قبل طباعة الإنجيل. أما في جامعة هارفرد، التي تأسست عام 1636، فقد كان يطلب من طلابها اتقان درجة عالية من اللغة العبرية، إذ اعتبرها الرواد الأوائل لغة التنوير وشرطًا للقبول.[5]
الاستراتيجيات الثلاث
يقسم عدوان استراتيجيات المشروع الصهيوني إلى ثلاثة أقسام؛ أولها إعادة كتابة التاريخ، وثانيها سرقة العبقريات، وآخرها احتكار المأساة. ويفصّل في كل واحدة منها مستندًا إلى تاريخ طويل من التزوير والسرقة والتلفيق. فاليهود هم بناة الأهرامات، ومنارة العلم، ومنبع الرسالات، وهم وراء كل عبقرية وكل خير وصلته البشرية، وهم ضحايا التاريخ حتى لو كانوا جلاديه وارتكبوا من المجازر قديمًا وحديثًا ما لا يمكن حصره أو الاستفاضة فيه، من الغزو الفارسي، إلى حرب غزة.
إعادة كتابة التاريخ
يعود بنا عدوان إلى المحاولات الناجحة في دمج الإنجيل والتوراة في كتاب واحد، وذلك بجمع العهدين المعروفين باسم القديم والجديد، كما لو أنهما من أصل واحد، رغم ما في ذلك من تضليل وتجاوز. وبما أن الأصل الواحد يعني مستقبلاً واحدًا، ومشروعًا مشتركًا، فقد عمد اليهود على التبرؤ من دم المسيح والحصول على صك من البابا يشهد بذلك. لكنهم جعلوا من التوراة مرجعًا تاريخيًا لا يمكن الجدال في مضمونه، بل سرقوا المسيح شخصيًا وجعلوه يهوديًا، ومحو شخصيات من التاريخ المسيحي، وأعادوا صياغة أخرى، وصنعوا أحداثًا وحكايات وأبطالاً، بما يناسب مشروعهم وروايتهم. حتى أن "يهوذا الأسخريوطي" الذي سلم المسيح إلى قتلته في الرواية الأصلية، أصبح مجرد تابع بسيط أراد لسيده المجد، فدفعه غير قاصد إلى حتفه.
سرقة العبقريات
يسرد الكتاب العديد من محاولات اليهود لسرقة الشخصيات الرئيسية في التاريخ، من المسيح إلى بوذا، وما بينهما من العباقرة الذين صنعوا أمجادًا وأحدثوا تحولات فارقة. ولم يسلم النبي محمد من تلك التلفيقات والتجاوزات، إذ ادّعوا أنه ناقل عن ورقة بن نوفل اليهودي للدين لا رسولاً مبشرًا به. كما نسبوا إلى أنفسهم جميع الفاتحين حول العالم، معيدين اختراع التاريخ بما يناسب أغراضهم وأهواءهم، لا بما هي حقيقته.
احتكار المآسي
لا جريمة وقعت في التاريخ، سواء قبل السبي البابلي أو بعد المحرقة، مهما كانت أكبر حجمًا أو أكثر توثيقًا وبشاعة، إلا صغرت واستهان بها أمام الجريمتين التي يراد تصويرهما كالإبادتين الوحيدتين في العالم. فلا قيمة لمذابح الأرمن، ولا وزن لعبودية السود، ولا معنى لاضطهاد الإيغور أو الروهينغا أو طرد أي شعب أو قتله أمام معاناة اليهود. لا إبادة حدثت قبل أو بعد يجوز للعالم أن يقارنها بهما. ففي هذه السردية المنحازة والعمياء، اليهود هم ضحايا التاريخ الوحيدون، بينما باقي البشر مادة زائدة عن الحاجة، إذا ما قورنوا بشعب الله المختار. رغم أن المحرقة، التي لا يبكي العالم غيرها، راح ضحيتها من الغجر أكثر من عدد ضحايا اليهود.
التوأمة بين مشروعين
إن إيمان الشعب الأمريكي بأنه الشعب المختار يفرض بالضرورة اعتقاده بأن الشعب الأصلي أو "الآخر" الموجود قبله هو شعب "الأغيار". وهذا نفس الفهم والمبررات التي يستخدمها الصهاينة في فلسطين. فالشعب الأصلي ليس أكثر من كائنات لا مبرر لوجودها إلا في خدمة الاحتلال. وإذا وقف هذا الشعب في وجههم أو اعترض طريقهم أو قاوم مشروعهم، يغدو دمه مباحًا مثل دماء الهندي الأحمر المسفوكة على جبال أميركا ووديانها.
فالأمريكي والأوروبي الغربي قبله، كما يوضح عدوان، لا يُرهق نفسه في الحديث عن حقوق أو أصول. ولا يعترف بحقوق سوى حقه في الوصول إلى أي مكان بفضل القوة، وخدمة الأهداف التي يعلنها هو. وبفضل هذه القوة، يهدم التاريخ والحضارة ويبيد البشر ويفرض مشروعيته. وهو الآن يمنح هذه القوة لإسرائيل التي تريد، ويريدها، أن تفعل مثل ما فعله سابقًا. ولا تكتفي إسرائيل بالقتل والتدمير ومحو الشعب ذاته كما فعلت الولايات المتحدة، بل تريد، زيادةً على ذلك، أن تمحو تاريخه، لكي تمد جذورها في قبوره.
هذه التوأمة الحاصلة بين المشروعين، التي تمتد كما أوضحنا في التاريخ والدين والأكاديميا والثقافة الخاضعة للتهويد، لا يمكن تجاوزها أو العيش في ظلها أو السكوت عنها. وهي نقطة أساسية ضمن الصراع الكبير الذي تخوضه المنطقة ضد الإمبريالية وأدواتها. فالصراع لا يدور فقط على الأرض وبين المقاوم والمحتل، بل يدور أيضًا في العقول والمؤسسات التي لا بد للعرب من أن يوصلوا لها صوتهم وصورتهم وثقافتهم، وإن كانت غارقة بالدماء. وإلا أصبح تاريخ المنطقة يهوديًا، وشعوبها مقيدة بالرواية الصهيونية. فالماضي غدا، كما يصفه وايتلام، "منطقة متنازع عليها" مثلما هي الأرض والحاضر والهوية في الشرق الأوسط. ولا بد من الانتباه والعمل على أن لا نخسر المعركتين أو واحدة منهما، فأي خسارة فيهما هي خسارة للوجود في التاريخ والمستقبل.
وأختم هنا بما ختم به ممدوح عدوان كتابه، محذرًا وناصحًا: "نحن لم نخسر الأرض والوطن والبيوت والمزارع فقط، بل خسرنا التاريخ ومنابع المعرفة أيضاً. وهذا يكشف لنا عن الاتساع الحقيقي لميدان الصراع، إن الصراع قائم وفي غيابنا، في كثير من الأحيان في العالم كله، في الجامعات والدراسات والتعليم والموسوعات والتكوين وعقل هذا العالم، وليس في فلسطين وجوارها والمخيمات فقط، واكتشاف كهذا يجب أن يدفعنا إلى التعويض عن غيابنا عن ميادين كثيرة في هذه المعركة المصيرية".