يناقش كتاب "دارفور: تاريخ قصير لحرب طويلة" الأسباب وراء الصراع الدامي في دارفور من خلال تسليط الضوء على الإهمال والتجاهل الذي عانى منه الإقليم وسكانه منذ عقود وإلى يومنا هذا.
هيثم نوري
يشهد السودان منذ القرن الماضي تقلبات سياسية وصراعات دموية مستمرة، فمن الحرب الأهلية الأولى (1955 - 1972)، ثم الثانية (1983 – 2005) وصولا إلى حرب دارفور(2003 - 2020) والتي راح ضحيتها أكثر من 300 ألف شخص وتعرضت أكثر من 20 ألف سيدة وفتاة للاغتصاب وفقا لتقديرات الأمم المتحدة ووكالاتها وشركائها من المنظمات الإغاثية العاملة في الإقليم.
نتيجة لذلك، عانى إقليم دارفور – الواقع غرب السودان - من إهمال اقتصادي وخدماتي مروع، إلى جانب استغلال سياسي وديموغرافي لا مثيل له، نتج عنه واحد من أكثر الصراعات الإفريقية حدة وإثارة للجدل، من منظور الهوية أولا ومن ناحية تقاسم الموارد الشحيحة التي تضررت ليس فقط بفعل الحرب، ولكن أيضا بفعل التغيرات المناخية المستمرة. ومنذ شهور، يخوض السودان حربا في عاصمته الخرطوم لأول مرة منذ تأسيسها على يد إسماعيل ابن محمد علي باشا في 1822، راح ضحيتها أكثر من 10 آلاف شخص، واضطر خمسة ملايين لترك منازلهم حسب أقل التقديرات. بالطبع، لم ينس طرفا النزاع الجديد أن تكون دارفور مقراً ثانيا للحرب. ففي الإقليم الأبعد عن الخرطوم تقود قوات الدعم السريع تصفية واسعة لمن تبقى من القوميات غير العربية ليتحول دارفور إلى دويلة عربية مستعدة للانفصال عن السودان.
من هنا تبرز أهمية كتاب، دارفور: تاريخ قصير لحرب طويلة، والذي كتبه اثنان من أبرز خبراء الشؤون الإفريقية - اليكس دي وال و جولي فلينت. يرأس اليكس دي وال مؤسسة السلام العالمي وهو أستاذ في كلية فلتشر للقانون والدبلوماسية بجامعة تافتس بالولايات المتحدة ومتخصص في دراسات منطقة القرن الإفريقي، وله أبحاث عديدة عن أثيوبيا والسودان. أما جولي فلينت فهي صحفية وصانعة أفلام، ولها عدد من الدراسات ضمن برنامج "مسح الأسلحة الصغيرة" حول دارفور، كما أعدت أفلام عن الصراع العربي الإسرائيلي. كما اشترك المؤلفان في جولات التفاوض "سلام دارفور" في العاصمة النيجيرية أبوجا في 2006.
توثيق موجع
يوثق الكتاب بأسلوب ممتع لكنه محزن قصة صراع استخدمت أطرافه كل أسلحة الخسة البدائية والمال القذر والأسلحة الخفيفة والصغيرة لقتال بعضها البعض. حتى وصل الأمر بإصدار أول مذكرة توقيف بحق رئيس يمارس مهامه السيادية - عمر البشير - لكونه "العقل المدبر.. لجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية في دارفور"، بحسب المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية.
صدر الكتاب لأول مرة في عام 2005 بتمويل من مؤسسة فورد ومشروع "العدالة لإفريقيا"، ثم في طبعة جديدة عام 2008 بدعم من وكالة التنمية الدولية البريطانية وعدد من منظمات المجتمع المدني المعنية بدارفور. ونشر الكتاب مركز أبحاث "أفريكان أرجيومنتس" | African Arguments التابع للجمعية الملكية الإفريقية في المملكة المتحدة. إلى جانب المقدمة، يتضمن الكتاب 9 فصول تقدم تسلسلاً زمنياً للإقليم منذ العصور الوسطى، وقائمة تعريفية بالمصطلحات والشخصيات الفاعلة، وفهرس وقائمة بالمراجع ومجموعة صور شارك بها عدد كبير من أشهر المصورين من الإقليم وخارجه ممن كان لهم "حظ" تغطية أحداث الحرب.
"من هم الدارفوريون؟"
يحاول الفصل الأول أن يجيب عن هذا السؤال الهام وذلك لمحاولة فهم المنطقة وتاريخ الانقسامات والحروب بها. من وجهة نظر الكاتبان لا ينقسم السودان فقط بين شمال وجنوب، كما صورته الدعاية الغربية بسبب الحرب الأهلية المستمرة فيه، بل هو "ثلاث سودانات" كما يطلق عليها دي وال وفلينت، الشمال والجنوب، ودارفور. وينقسم هذا الإقليم الأخير ما بين قبائل رعوية عربية بالأساس أبالة (رعاة الإبل) في الشمال، وسيارة (رعاة الغنم) جنوبهم وفي أقصى الجنوب بقارة (رعاة البقر)، رغم أن رعي الأبقار يشترك فيه العرب وغير العرب. إلى جانبهم، المزارعون الفور الذين منحوا الإقليم اسمهم (دارفور تعني بلد الفور) حيث حكموا الإقليم منذ قرون في شكل سلطنة إسلامية، وصلها الدين من المغرب العربي، وليس مصر عبر النيل مثل شمال ووسط السودان.
انقسامات وحروب متتالية
يمكننا بالطبع اعتبار السودان الكبير "عدة سودانات" وليس ثلاث فقط من واقع التنوع الديني والقبلي والعرقي واللغوي والمعيشي والإنتاجي في بلد كان الأكبر في إفريقيا مساحة ويضم خمسين مليون نسمة. يستعرض الكاتبان أطراف الأزمة والحرب وهم حكومة السودان (الفصل الثاني) والجنجويد (الفصل الثالث)، وأخيرا المتمردين (الفصل الرابع). بالطبع كان لحكومة الخرطوم دور أساسي في تطور الصراع إلى الحرب بإهمالها الشديد للإقليم وعدم الاكتراث بسكانه. لكن الأكثر فداحة هو تركها الصراع في حوض بحيرة تشاد (دارفور جزء من ذلك الحوض) بين ليبيا اثناء حكم معمر القذافي وجمهوريات تشاد والنيجر، يؤثر بشكل سلبي على الإقليم وسكانه.
تأثرت دارفور قبل غيرها من المناطق بحروب القذافي ضد تشاد منذ منتصف السبعينيات وحتى مطلع الثمانينيات، والتي انتهت بفشل مغامراته السياسية والعسكرية التي جند فيها آلاف من أبناء القبائل العربية في دارفور ضمن ما أسماه حينها "الفيلق الإسلامي" بقيادة الشيخ ابن عمر التشادي.
ومع هزيمة القذافي، تشتت عناصر الفيلق وسلاحهم وذلك بالتزامن مع المجاعة الكبرى في منطقة الساحل والقرن الإفريقي والتي أطاحت بالرئيس السوداني الراحل جعفر نميري. لتظهر مجموعة الجنجويد، وهو اسم شعبي في دارفور لقطاع الطرق ومجرمي النهب المسلح، الذين حولتهم حكومة الصادق المهدي ووزير دفاعه برمة ناصر (ينتمي إلى الأبالة في دارفور) إلى قوات الدفاع الشعبي بتسليح من القذافي مقابل استخدام النظام الليبي إقليم دارفور ضد حكم الرئيس التشادي حسين حبري.
بمرور الوقت، تفاقم الوضع بسبب حكم فاشل وضعيف وتسليح واسع غير منظم وتغييرات مناخية دمرت أساليب الحياة القديمة في الإقليم. ثم في 1989 سقطت حكومة المهدي عند انقلاب عمر البشير المدعوم من الإخوان المسلمين عليه. حينها بدأ فصل جديد من تاريخ السودان بقيادة البشير، عنوانه "الجهاد" في جنوب السودان، الذي تصاعدت حربه إلى حد مقتل أكثر من مليوني شخص.
لاحقا في عام 2000، انقسم الإسلاميون بين زعيمهم حسن الترابي وقائد النظام عمر البشير، واحتاج الحكم حلفاء جدد أو على الأقل تخفيف أعباءه، فبدأ البشير مفاوضات مع الحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة جون قرنق في 2001. في تلك الأثناء، تصاعدت مطالب أبناء دارفور بتقاسم السلطة والثروة، لكن النظام المنهك رفضها، ولجأ لبديل "غير مكلف" لمواجهتهم متمثلا بقوات "الدفاع الشعبي أو الجنجويد" ليدمر الإقليم. ولتظهر مجددا دعاوى "التفوق العنصري العربي" على جيرانه من "الزرق" أي شديدي السواد، رغم أن العلاقات بين الإثنين لم تكن في يوم ما سيئة إلى أي درجة تذكر.
في الفصلين الخامس والسادس، يرصد الكاتبان مسار الحرب التي أنتجت مئات الآلاف من الضحايا، وآلاف المغتصبات وملايين النازحين واللاجئين، والتي أدت أيضا إلى معارك كثيرة بين الحكومة والجنجويد، وبين القبائل العربية وبعضها البعض، وبين القوميات غير العربية في شكل انشقاقات في تنظيماتهم المسلحة.
ومع رد الفعل الدولي الضعيف الذي رصده الفصل السابع، كان لزاما على الحكم في الخرطوم وخصومه من الحركات المسلحة في دارفور الجلوس لطاولة التفاوض. لكن اتفاقات "سلام دارفور" لم تصمد لأسباب كثيرة، منها استبعاد جماعات محلية قوية، أو رفض جيش تحرير السودان المتحصن في معاقله نتائج المحادثات، أو عدم ضمان رضى العناصر العربية عما يمكن أن تحمله الاتفاقات. انتهت مفاوضات أبوجا إلى لا شيء، ليأتي انفجار إقليم دارفور في فوضى شاملة لم تنتهي حتى اليوم.