أثر تكليف الإسلام فعل الخير على خيارات العمارة الإسلامية في العصور الوسطى وهو ما يرصده كتاب "المجتمع والعمران: نفوذ الناس في الحضارة الإسلامية".
دينا عزت
في العصر العباسي كان اسمها دار الضيافة، وفي العصر المملوكي عرفت باسم الدشيشة، أما في العصر العثماني فكانت تسمي دار المرق أو دار الشوربة، لكن جميع هذه التسميات المختلفة كانت لبناء له وظيفة واحدة هي توفير مكان لإقامة وإطعام المسافرين الذين لا يجدون مكانا يأوون إليه دون أن يتوجب عليهم دفع مقابل مالي. إذ كانت الأموال تأتي من الأوقاف المخصصة لهذا الغرض أو من المال العام بأمر من الحاكم.
بهذا المثال المحدد حول بناء مخصص لنشاط خيري مرتبط بتعليمات القرآن الكريم المشجعة على مد يد العون لمن يحتاج والإنفاق في سبيل الله، استنادا على الثقافة العربية التي ترفع من شأن الكرم وتلزم إكرام الغريب يطرح الكاتب خالد عزب قراءته عن الالتزامات الإنسانية المتبادلة بين المقيم والغريب في السياق الإسلامي العربي كجزء من توصيف إخضاع البناء والعمران في مدن الحضارة الإسلامية - من فاس إلى دمشق - في العصور الوسطى.
اختيار عزب نموذج البنايات المرتبطة بالنشاطات الخيرية على اختيارات العمران من بداية الدولة الإسلامية الأولى لمناقشة "نفوذ الناس" وليس "نفوذ الدين" – وربما الأدق نفوذ الناس من المنظور الديني – تمثل بالكثير من التفاصيل التاريخية الشيقة على ضمن 156 صفحة من كتابه الأحدث "المجتمع والعمران – نفوذ الناس في الحضارة الإسلامية"، الصادر العام الحالي عن دار جامعة حمد بن خليفة للنشر.
الكتاب الأحدث لعزب، الحاصل على الدكتوراه في فلسفة التاريخ، هو جزء من مشروع بحثي أوسع بدأ في تحويله إلى سلسلة كتب متتالية قبل نحو عشرين عاماً، من ضمنها "تراث العمارة الإسلامية" و "العمران فلسفة الحياة في الحضارة الإسلامية" و "فقه العمران".
كما في العناوين السابقة، يلتزم عزب بالسرد السلس والشيق فهو يتحرك بين الحكي التاريخي ومساحات الفلسفة بحرص شديد. كما يحرص على استخدام أسلوب الطرح المتصاعد مع الابتعاد الكامل عن التعامل بحتمية مسبقة الافتراض مع ما يطرحه من مركزية فكرة فعل الخير وأثرها الواسع على طرق الحياة في مدن الحضارة الإسلامية.
القوة والجمال كأبعاد للعمران
يشرح كتاب عزب كيف التزم المجتمع بفكرة ومسارات فعل الخير المنصوص عليها في القرآن الكريم والمرتبط ثقافيا بنمط الحياة العربية – وهو هنا يفصل بين ما هو إسلامي وما هو عربي. ثم ينتقل لمناقشة تأثير هذا الالتزام على الخيارات المجتمعية للحياة بما فيها فعل العمران وأيضا لتطور هذا التأثير مع تطور أنظمة الحياة ذاتها.
يقع كتاب عزب في ستة فصول يبدأها بمحاولة شرح "النظرية التي صاغت الشوارع والبنايات" للمدن التراثية للحضارة العربية الإسلامية التي مازالت ماثلة للعيان كشهادة حية – حتى وإن بدت في بعض الأحيان متهاوية ومتراجعة – على معطيات معرفية وفلسفية جاء البناء على أساسها. ويؤطر عزب حديثه عن العمران بنسق الثقافة المرتبط بالقرآن، حيث يقول إن مفهوم العمران عند المسلمين يرتكز على بعدي: القوة والجمال. ويضيف أن ما يكمل صياغة "فقه العمران" عند المسلمين هو التراكم المعرفي المكتسب عبر القرآن والمتسع مع توسعات مساحة العالم الإسلامي والتنوع البيئي المرتبط بهذه التوسعات – وهو الأمر الذي يحرص عزب علي تكرار الإشارة إليه بين الحين والآخر في صفحات الكتاب عندما يطرح الأمثلة من فاس، والقيروان، والقاهرة، ودمشق.
في الوقت نفسه، يفصل عزب في كتابه الكيانات الموازية لما يعرفه في عنوان كتابه بـ "نفوذ الناس" على العمارة، فهناك الدولة والمجتمع والفرد. وبين هؤلاء جميعا، يتم تشارك الحقوق – أو السلطات – والواجبات. ويذكر عزب القارئ بأن سلطة الدولة ترتبط بحفظ الأمن وشق الطرق، في حين تتعلق سلطة المجتمع بالتعليم والصحة، أما سلطة الفرد فتتعلق باحترام حرية الفرد. ويشرح على سبيل المثال، كيف تبدلت هذه المسؤوليات بين العناصر الثلاثة
ويؤكد عزب في طرحه أنه كما هو الحال في المنشآت الخيرية المتعددة والمتنوعة والطرق والخدمات العامة٫ فإن دور الحاكم، بموجب الإسلام في هذه الحالة تحديدا، هو الحفاظ على الإنسان وكرامته. من هنا تأتي فكرة إنشاء مباني للغرباء، وأخرى للأيتام ومبان تخصص للسيدات الراغبات في ترك أزواجهن دون وجود عائلة محتضنة بعد الانفصال، وكذلك أوقاف تخصص للإنفاق على التعليم – سواء ما يتعلق بالعلوم الشرعية أو بالعلوم المعرفية الإنسانية والامبريقية.
يعتقد عزب أن الحقوق المقررة في الإسلام للأفراد – وعليهم سواء في صورتهم الفردية أو الجماعية وبوصفهم حكاما أو محكومين – هي مفتاح فهم نظرية فقه العمران في مدن الحضارة الإسلامية. ويخصص الكاتب فصولا خمسة متتالية بعد الفصل الأول العمومي لتدقيق الشرح في توصيف المسؤوليات المرتبط بحياة الأفراد في مدن الحضارة الإسلامية وأيضا توصيف الحقوق الواجبة لهؤلاء الأفراد.
توظيف العمران لفعل الخير
يربط عزب في طرحه بين مفهومي القوة والجمال من ناحية ومفهوم التزام الأمان وفعل الخير من ناحية أخرى. فعلى سبيل المثال، يخصص الكاتب صفحات غير قليلة من كتابه ليتحدث عن الاهتمام بجمال وحسن تصميم الكتاتيب والمدارس وتهيئتها بجماليات جاذبة وبين إصرار الفكر الإسلامي أولا والتابعين لذا الفكر ثانية على أن يكون المعلم – وهو بالأساس من يدرس العلوم الشرعية وعلوم اللغة العربية – له أيضا من قوة الشخصية وحسن المنظر وسلامة الهندام ما يمكنه من وضع قدميه على الأرض بثقة كافية٫. ويوضح عزب أن كثير من الأوقاف التي تم ربطها لأغراض تعليمية جاءت محملة بالكثير من الشروط الدقيقة لكيفية استخدام أموال الوقف وسبل إنفاقها بعيدا عن أي سلطة للدولة، لأن أموال الوقف تقع في إطار سلطتي الفرد والمجتمع. كما يشير إلى حرص الواقفين على حصول المستفيدين من الفعل الخيري على أقصى ما يمكن تقديمه فعلياً، مشيرا إلى تحديد الواقفين مخصصات للإطعام وأخرى للنظافة وشراء أدوات الطهي والنظافة.
الي جانب ذلك يطرح عزب في كتابه تطور البناء بحسب تطور الأدوار المخصصة له. فعلى سبيل المثال، كان المعتاد في مدن الحضارة الإسلامية أن يتم بناء الجامع المركزي أولا، ثم بناء الأسوار لكن الأمر اختلف في جامع القاهرة –والذي عُرف لاحقا الجامع الأزهر – حيث تم بناء سور المدينة أولا ثم بناء الجامع المركزي.
وكما أن فعل الخير هو من أهم المتطلبات الإسلامية، يؤكد عزب في كتابه أن الاهتمام بالعلم لم يكن أقل أهمية – وذلك منذ عهد الرسول الذي حض بصفة خاصة على الاهتمام بقيمة العلوم، خاصة الطب. وفي هذا السياق، يشير عزب إلى حرص الواقفين على إنشاء المكتبات وتزويدها بالكتب والاقلام، وأماكن المبيت، والطعام، وغيرهما. ويضيف إلى أن التوسع في نشاط توفير المياه للسكان خاصة في الأماكن البعيدة زاد من عدد المزملاتية – الذين يوفرون المياه للقادمين إلى الأسبلة – أو السقايين الذين يذهبون بالمياه للسكان في الأماكن البعيدة.
ختاما، يقدم كتاب عزب صورة واضحة عن الحياة في مدن الحضارة الإسلامية وكيف شيدوا مباني مدنهم لخدمة تعاليم الدين وبناء الحضارة الإنسانية.