يستكشف كتاب "التحولات في عمارة وعمران الأسواق التاريخية: نماذج من الشرق الأوسط وشمال أفريقيا" العلاقة المعقدة بين المجتمعات والعمارة والتخطيط العمراني في الأسواق التقليدية في المنطقة. ويركز على أهمية الأسواق التاريخية ككيانات اجتماعية وثقافية وسياسية، وكيف أنها تشكل جزءًا لا يتجزأ من هوية المدن وتراثها.
عمرو عصام [1]
اختار الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش حاسة الشم محوراً لقصيدة تجعل من الروائح دليلاً على تمايز المدن وثرائها وتنوعها. فيقول: "المدن رائحة: عكا رائحة اليود البحري والبهارات. حيفا رائحة الصنوبر والشراشف المجعلكة. موسكو رائحة الفودكا على الثلج. القاهرة رائحة المانجو والزنجبيل. بيروت رائحة الشمس والبحر والدخان والليمون. باريس رائحة الخبز الطازج والأجبان ومشتقات الفتنة. دمشق رائحة الياسمين والفواكه المجففة. تونس رائحة مسك الليل والملح. الرباط رائحة الحناء والبخور والعسل. وكل مدينة لا تُعْرَفُ من رائحتها لا يُعوَّل على ذكراها. وللمنافي رائحة مشتركة هي رائحة الحنين الى ما عداها.. رائحة تتذكر رائحة أخرى".
هكذا تعرّف درويش على المدن من روائحها. ولكن، هل تُعرف المدن فقط من روائحها؟ وهل من الممكن أن نتعرف على المدن من خلال أسواقها وروائحها؟
الأسواق كمنشآت وكلغة معمارية
يناقش كتاب "التحولات في عمارة وعمران الأسواق التاريخية: نماذج من الشرق الأوسط وشمال أفريقيا"،[2] الأسواق داخل المدن والمناطق الحضرية باعتبارها كيانات ذات وظيفة اجتماعية وثقافية وسياسية. ويركز في فصوله الخمسة عشر على تحليل العلاقات المتبادلة بين المجتمعات والعمارة والعمران داخل الأسواق التقليدية والبازارات التراثية، والسويقات المتخصصة، وأسواق الشوارع.
يعتمد الكتاب على منهجيات بحثية متعددة تشمل مناهج البحث الاجتماعي والأرشيفي وغيرها، وذلك بالاستناد إلى خلفية المؤلفين وخبراتهم المتنوعة في مجالات العمارة والتخطيط الحضري والتراث بشقيه المادي واللامادي، فضلاً عن التاريخ والآثار. كما يسعى إلى تجاوز مفهوم المركزية الأوروبية السائدة في إنتاج المعرفة منذ عقود طويلة، وذلك من خلال اختيار موضوع محدد (الأسواق التاريخية) في سياق جغرافي ومديني معين (الشرق الأوسط وشمال أفريقيا)، ليُكتب بأقلام باحثين من المنطقة. في منطقة بينية بين التنمية الحضرية والتاريخ والهندسة المعمارية والتخطيط الحضري والتراث المعماري، يتقاطع الكتاب مع هذه التخصصات المتعددة، من خلال التركيز على دراسة الأسواق ودورها في تشكيل البيئة العمرانية والثقافة الاجتماعية في إحدى عشرة دولة شرق أوسطية. يحلل الكتاب بشكل نقدي نشأة وصعود وتراجع الأسواق التاريخية، ويحاول استشراف أدوارها المستقبلية وأثرها في تطوير الهوية المحلية الجماعية لدى السكان والزوار بشكل عام. استندت منهجية دراسة السياقات الحضرية والمعمارية للأسواق المحلية في هذا الكتاب إلى مجموعة من الأدوات المختلفة، بما في ذلك المحاكاة الإثنوغرافية والمحاكاة العمرانية، بالإضافة إلى البحوث الاجتماعية والأرشيفية.
لا يكتسب الشرق الأوسط أهميته فقط من كونه مركزاً للعالم وبؤرة متجددة للأحداث، بل باعتباره مهداً للأديان السماوية أو الإبراهيمية جميعها. وبالنظر إلى الأسواق ككيانات تجارية، نجد أن الفتوحات العربية والإسلامية ساهمت بشكل أساسي في توسيع النفوذ الجغرافي للدين الجديد إلى شمال أفريقيا جنباً إلى جنب مع توسيع النفوذ التجاري للدولة الإسلامية. ونظرًا للدور الحيوي الذي يلعبه الدين في الحياة اليومية للمجتمعات الإسلامية، والذي يتجسد في الأشكال الحضرية والعلاقات المكانية والتقارب الجغرافي بين المسجد كمكان للعبادة والسوق كمكان للتجارة، فإن الأسواق التاريخية في المدن العربية والإسلامية بشكل عام تشغل حيزًا اجتماعيًا في حياة سكان المدن، جنبًا إلى جنب مع الحيز المكاني الذي تشغله كأبنية ومنشآت معمارية ذات نشاط ووظيفة وطبيعة محددة.
لقد ساهمت طرق التجارة بين الشرق والغرب (الصين، الهند - أوروبا) في ازدهار الكثير من المدن العربية التي ارتبطت بتلك الطرق، مما أدى إلى ازدهار اقتصاديات تلك المدن وتنوعها. انعكس هذا الازدهار على التجارة الداخلية لكل مدينة، حيث زاد تنوع المنتجات، وتطورت الحرف التقليدية استجابة لزيادة الطلب والتبادل التجاري بين المدن الواقعة على طول الطريق التجاري بين الشرق والغرب. لم يقتصر دور الأسواق التاريخية داخل المدن على كونها منشآت تجارية أو أبنية تحوي مجموعة من السلع والبضائع فحسب، بل تتجاوز ذلك إلى أدوار أكثر تعقيداً. إذ تعد الأسواق التاريخية جزءًا أصيلاً من ذاكرة المدن ومعلماً بارزاً في النسيج الحضري لأي مدينة، كما تسهم في الحفاظ على الأنوية التاريخية للمدن وإعادة تشكيل الأمكنة والمساحات العامة، لتعزيز التراث الثقافي المادي واللامادي. ينعكس هذا الدور إيجابًا على اقتصاد المجتمعات من خلال تشجيع السياحة العالمية والمحلية، مما يحقق عوائد اجتماعية وبيئية وثقافية مستمرة.
الهوية المعمارية والذاكرة المكانية للأسواق
من المنظور التاريخي، وقعت المدن، التي يتناولها هذا الكتاب بالدراسة،[3] تحت وطأة الاستعمار وهيمنة الدول الكبرى لفترات طويلة. لذا ظلت الأسواق التاريخية فيها تعاني من تحديات متفاوتة بسبب صعوبة نقل السلع والبضائع، وعدم استقرار حركة التجارة نتيجة التقلبات المجتمعية والتغيرات السياسية. وعلى الرغم من ذلك، انعكست هذه التحديات بشكل إيجابي على الإرث العمراني والثقافة المعمارية لتلك المدن، مما أدى إلى تكوين شخصية متفردة وهوية بارزة لكل مدينة كنتيجة للانفصال الجغرافي وصعوبة الاتصال المكاني بين المدن والأقاليم المختلفة.
يمتد الكتاب جغرافيًا من القاهرة إلى بورسعيد، ومن الجزائر إلى تونس، ومن سوريا إلى المغرب، ومن العراق إلى عمان، وبين إيران واليمن. ويتكون من ثلاثة أجزاء رئيسية، يناقش الجزء الأول الأسواق كمنشآت وكلغة معمارية من خلال التركيز على التشكيل الفراغي والتكوين البنائي لعمارة السوق التجاري. بينما يتناول الجزء الثاني الهوية المعمارية والذاكرة المكانية للأسواق من خلال التركيز على العلاقات والتفاعلات بين الأسواق كأمكنة أو كحيز وبين المترددين عليها. وأخيراً، الجزء الثالث الذي يتطرق إلى الأسواق كفضاء حضري ومساحة معمارية تسهم في تحقيق الانسجام والتآلف الاجتماعي.
يتجاوز هذا العمل الأدوار التقليدية التي تقدمها الأسواق لسكان المدن، ويركز على دورها التاريخي في بناء وتشكيل هوية المجتمعات. وقد أسهمت الأسواق التاريخية في تطور العديد من الحرف والفنون المحلية، وذلك بفضل موقع المدن الجغرافي المركزي في المنطقة كحلقة وصل بين الشرق والغرب. مما جعل أسواقها بمثابة قنوات لنقل وتبادل المعرفة والحرف والفنون بين القارات الثلاث: آسيا، أفريقيا، وأوروبا.
يرتبط مفهوم السوق ارتباطًا وثيقًا بنشأة وتطور المدينة الإسلامية والدين الإسلامي، سواء من ناحية التعاليم التي تحث على النظافة، والكسب عبر التجارة، أو من خلال ارتباط الشعائر والطقوس الدينية للمسلمين بالتخطيط الحضري والهندسة المعمارية للمدن، والذي ظهر بشكل ملحوظ على الأنماط البنائية للأسواق القديمة حيث تقاليد البناء تتوافق مع تعاليم الدين.
وفقاً لرؤية المستشرق ألبرت ماركيه، الذي حاول ربط موقع السوق بتخطيط وتنظيم المدينة الإسلامية القديمة من خلال تحليل نمط الحياة اليومي للمسلمين في المناطق الحضرية، يرتبط السوق في المدينة الإسلامية ارتباطاً وثيقاً بمسجد الجمعة (أكبر مساجد المدينة) والحمام العام. ورغم أن هذه الرؤية تحمل طابعًا استشراقيًا، إلا أن الارتباط الوثيق بين السوق كمساحة للتجارة وكحيز اجتماعي للقاء وبين المسجد كحيز للعبادة وفراغ للصلاة لا يزال قائمًا حتى اليوم، باعتبار أن الصلاة هي التزام يؤديه المسلم خمس مرات يومياً.
عند النظر في الحالات الدراسية المعاصرة التي قدمها هذا الكتاب، والتي تقع فيها الأسواق بعيداً عن مسجد الجمعة، نجد أن عملية تطوير الأسواق في العصور القديمة في مدن مثل القاهرة والمغرب والجزائر وتونس اعتمدت على التقارب المكاني بين الأسواق والمساجد. وذلك لتوفير حيز مكاني للصلاة لكل من رواد الأسواق والتجار. وفي حين تركز الأمثلة المختارة في هذا الكتاب، والتي تشير إلى هذه الظاهرة، مثل سوق الخيامية في القاهرة، وسوق دانيال في العراق، نجد ارتباطاً مباشراً وصلة وثيقة بين المساجد والأسواق المختارة، مما يشجع على التواصل والتردد الدائم على السوق كمكان للعمل والتجارة، وعلى المسجد كمكان للصلاة والعبادة.
شهدت منطقة الشرق الأوسط تاريخًا طويلا من الصراعات السياسية والعسكرية، مما ترك بصمات عميقة على الثقافة المعمارية والتخطيط الحضري فيها. فخضعت خلال الفترة الممتدة بين القرنين التاسع عشر والعشرين للتغريب وتوطين مستمرين بواسطة قوى الاستعمار وسلطة المحتل. وقد فُرضت الثقافة المعمارية والعمرانية الأوروبية، وخاصة النمط الهوسماني بتخطيطه الهندسي المتعامد والمنتظم، على بعض أنماط الأسواق، مخالفة بذلك النماذج التقليدية للأسواق التاريخية في المدن العربية والإسلامية، والتي تتميز بالتصميم العضوي وتوافقها مع التقاليد البنائية والمناخية لكل منطقة على حدة.
لقد أسهمت تلك النماذج الأوروبية (المستوردة) في تغيير ثقافة التجارة وأنماط البيع داخل المدن العربية، والتي ظلت على مدار قرون طويلة توصم بالتخلف والرجعية كجزء من السردية الغربية عن منطقة الجنوب العالمي. كما تجاهلت هذه السردية الوظيفة الاجتماعية لتلك الأسواق، والتي ظلت على مدار تاريخها نموذجاً للمساحات المشتركة، التي تندمج فيها جميع الثقافات والأديان، متجاوزة بذلك الكراهية والفصل الديني والطبقي وكافة أشكال التمييز العنصري.
الخاتمة
على الرغم من أن هذا الكتاب يقدم مجموعة مختارة من الأسواق بهدف استكشاف الدور التاريخي الذي أدته في الحفاظ على الثقافة التقليدية، والإشارة إلى أهمية الدور البارز الذي يمكن أن تؤديه تلك الكيانات التجارية في تعزيز الاستدامة المستقبلية داخل المدن، إلا أنه يُمثل نواة لمشروعات بحثية ودراسية أوسع تغطي العديد من الأسواق في بلدان الجنوب الأخرى التي لم تدرس بعد، سواء لأسباب مؤسسية أو لأسباب سياسية، وخاصة في الدول التي تواجه تحديات أمنية كبيرة مثل اليمن وليبيا والسودان وغيرها. لذا يُعد هذا العمل بمثابة إشارة إلى أهمية الحفاظ على تلك الأسواق التاريخية باعتبارها حاضنة للتراث المادي واللامادي على السواء، وحمايتها من الإهمال والتداعي المصاحب لقوى السوق ولسيطرة المفاهيم الرأسمالية على عمليات التجديد الحضري التي تركز على تحقيق أقصى عائد مادي بعيداً عن القيم وحتمية الحفاظ على تراث وهوية المدن التاريخية.
تختلف أسواق المدن في الجنوب العالمي عن مثيلاتها في أوروبا، والتي لا تزال تتخذ موقعاً استراتيجياً في قلب المدينة، وعلى مقربة من المباني العامة ومقار الحكم. كما أنها مرتبطة بالساحات والفراغات المفتوحة وارتباطها بشبكة النقل والمواصلات وبالأخص الترام، ما يجعلها باستمرار بؤرة للاهتمام وقبلة للمستخدمين. أما مدن الجنوب عامةً، فتتخذ أسواقها التاريخية مواقع متفاوتة من حيث الأهمية المكانية والجغرافية وفقاً للتغيرات العمرانية والسياسية لكل مدينة على حدة، ولكن كل تلك الأسواق لا تزال تشغل موقعاً مركزياً من الناحية اللامادية؛ نظراً للدور المهم والتاريخي الذي أدته في حيوات سكان تلك المدن. وبذلك يكون الحفاظ على الأسواق التاريخية وإعادة تأهيلها فرصة كبرى للتطوير المستدام والازدهار الاقتصادي لسكان الجنوب العالمي بشكل عام، عبر تحسين الممارسات التجارية ودعم الاقتصادات المحلية المرتبطة بالحرف اليدوية والمنتجات التقليدية، كبديل عن السلع الرخيصة المستوردة عالمياً عبر أنماط إنتاج كمية ذات آثار ضارة على البيئة، وبالأخص أن دول الجنوب تعاني بشكل دائم من تحديات متفاوتة وضغوط اقتصادية مستمرة.
عندما استعان محمود درويش بروائح الزنجبيل والمانجو والليمون والياسمين لتجسيد ذكرياته عن عدة مدن عربية، لم يتصور أن هذه الروائح العبقة والتي عُرفت بها تلك المدن في الماضي استحالت ذكرى، وباتت اليوم مُحالة أمام التغيرات البيئية والعمرانية الهائلة التي تشهدها مدن العالم أجمع ومنطقتنا على وجه التحديد. ولكن، وعلى الرغم من ذلك، لا تزال الأسواق التاريخية بتلك المدن تحتفظ لنا ببعض روائحها القديمة.