يكشف الكتاب الصادر باللغة الإنجليزية في عام 2022 كيف اعتمدت المملكة العربية السعودية على صناعة الترفيه كأداة سياسية للتحول إلى دولة حداثية نيوليبرالية، بهدف جذب الاستثمارات الأجنبية وتحسين صورتها على الصعيد الدولي. كما يتناول الكتاب دور سياسة الترفيه في التحولات التي شهدتها المملكة في السنوات الأخيرة، والتي تسعى إلى دفع البلاد نحو النموذج الرأسمالي النيوليبرالي.
عبد الله سامي أبولوز
شهدت المملكة العربية السعودية، منذ ما يقرب من سبعة أعوام، حالة مميزة استقطبت انتباه وإلهام الباحث أنس الأحمد، المهتم بالإعلام النقدي ودراسات ما بعد الاستعمار. فأصدر في عام 2022 كتابًا يتناول فيه هذه الحالة بعنوان "مخاض الترفيه وسياسات الرأسمالية النيوليبرالية ما بعد الكولونيالية في السعودية الجديدة: الإنتاج الثقافي للحداثة في الجنوب العالمي".[1]
يضم الكتاب سبعة فصول في زهاء مئتي صفحة من القطع المتوسط، يحكي فيه المؤلف عن آثار رأسمالية النيوليبرالية في سياق العالم ما بعد الكولونيالي على المملكة العربية السعودية، إذ يحلل هذه الآثار المتمثلة بالتطورات الحديثة من خلال عدسة نقد ما بعد كولونيالية، ويدرس كيفية تأثير السياسات النيوليبرالية والعولمة على البلاد ومجتمعها.
يركز الكتاب على التحولات الاجتماعية والثقافية، وخصوصًا ما يتعلق بالترفيه، والتي تسعى إلى دفع البلاد نحو النموذج الرأسمالي النيوليبرالي من أجل تحصيل الاعتراف الدولي. يجادل الأحمد بأن المنظومة الحاكمة في المملكة، باعتبارها جزءًا من عالم ما بعد كولونيالي، وضمن إطار الجنوب العالمي، متأثرة بشدة بالرأسمالية النيوليبرالية. ويرى أن الحداثة الناشئة في المملكة في عصر الرؤية هي أداة سياسية تستخدمها نخبة رأسمالية ذات توجهات نيوليبرالية تسعى لتنمية علاقات قوية مع جهات نافذة غربية بغرض حشد نفوذ سياسي محلي. كما يربط الكتاب بين النضالات المحلية في المملكة العربية السعودية والنضالات العالمية الأوسع في فترة ما بعد الكولونيالية ضد الإمبريالية والنيوليبرالية. فيرى أن التناقضات المحلية في السياق السعودي مجرد انعكاسات لرأسمالية عالمية، فكل التغيرات التي تحدث على المستوى الدول المحلي شكلية وغير مؤثرة بسبب هيمنة النظام العالمي الذي يعمل على حفظ هياكل توازن القوى عالميًا.
يستهل الكاتب حديثه بتناوله الدوافع خلف تأليف الكتاب، فيتحدث عن الدوافع الشخصية، ويعدّها منظارًا مُفسرًا مساعدًا لا محددًا تحليًا، وتتمثل في رغبته بإكمال بحثه بعدما أنهى أطروحته في الدكتوراة، والحاجة لفهم ماذا يحدث، وما أهمية هذه التغيرات المفصلية. ينتقل الأحمد بعد ذلك للحديث عن الغاية الأساسية من الكتاب التي يصف فيها ما أحدثته التغيرات الطارئة في المملكة من تحديات اجتماعية لإعادة تشكيل الدولة. يحاجج الأحمد أن المملكة دخلت طورَ تحولٍ جديد على الأصعدة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ينتهي في سياقه العقد الاجتماعي الريعي القديم بين الدولة والمجتمع. يشمل ذلك تغيرات عديدة تمثلت في زيادة الانفتاح وتخفيف المعايير التقليدية المحافظة فيما يتعلق بالتفاعلات العامة بين الجنسين، بالسماح بحرية اللباس وقيادة المرأة، وحظر أنشطة هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والاستثمار بكثافة في الأنشطة الترفيهية. ينظر الأحمد إلى كل هذه التغيرات الجذرية باعتبارها محاولات من الدولة لتحرير الناس ثقافيًا واجتماعيًا من القيود المحافظة بغرض تجهيزهم للبنية الاقتصادية النيوليبرالية الجديدة.
إن التغيرات الاقتصادية التي تهدف الرؤية إلى تفعيلها بغرض تنويع الدخل السعودي عبر الاستثمار في قطاعات غير نفطية مثل السياحة والترفيه، لا يمكن أن تحدث دون مخاضٍ اجتماعي. ويحاجج الكاتب بأن الغاية الأساسية من خلف كل هذه التحولات كانت التقديم السياسي لولي العهد باعتباره الحاكم المستقبلي الذي سيقود المملكة نحو سعودية جديدة، الأمر الذي يستتبع تغيرًا هوياتيًا جذريًا في الدولة وأدوات حكمها، بما يفرض على المجتمع واقعًا جديدًا عليه أن يبدأ باستكشافه والتأقلم معه. يشير الكتاب إلى أن التحولات الكبيرة التي تجتاح المملكة تنحصر في السياقات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية، ولا تطال السياق السياسي، باعتباره فضاءًا غير قابل للتفكير، فالمملكة محكومة بعقيدة هوبزية مطلقة من خلال "نظام استبدادي ذو شكل مركزي للسلطة".
الاقتصاد السياسي منظارًا للتحليل
يرى الكاتب أن الحالة السعودية لا يمكن تحليلها دون فهم الاقتصاد السياسي للمنطقة، فلا ينبغي لنا الانخراط في أي نقاش حول التغيرات السياسية على المستوى المحلي دون إدراك لموضع المملكة على الخريطة الجيوسياسية في العالم. لذلك تجده يعود للتأسيس تاريخيًا لمنطقه في التفسير عبر الإشارة إلى الانقسام الذي أحدثته الحرب العالمية الثانية في بنية النظام العالمي، فجعل العالم ينقسم إلى جزئين شمال وجنوب، يتحكم فيه الأول بالثاني، ويبقيه خاضعًا بكل الوسائل. ضمن هذا الترتيب الذي يخضع له العالم تقع المملكة العربية السعودية، وبواسطته تحافظ الأنظمة الأوتقراطية العربية على السلطة. فتجري عرقلة أي محاولات نحو الاستقلال وتحقيق السيادة التامة للشعوب، فتجد مجتمعات دول الجنوب تعاني على المستوى السياسي عندما تحاول اللحاق بشكلٍ مستمر بالتطورات الاقتصادية والاجتماعية التي يفرضها الشمال، باعتبار ما يقدمه الشمال مثالًا يجب اتباعه دومًا. وفقًا لهذا السياق الاقتصادي سياسي، يضع الأحمد التغيرات التي تحدث في السعودية باعتبار المملكة (ودول الخليج عمومًا) جزءًا من دول الجنوب، مع الاعتراف باختلافاتها الضمنية من ناحية وفرة الموارد النفطية التي تضعها في موقع مميز عن غيرها من دول المنطقة.
يوضح الكتاب العلاقة بين الإطار النظري السياسي الدولي وطارئة صناعة الترفيه وخصوصيات الإنتاج الثقافي في المملكة، فيقول إن النيوليبرالية تعمل تحت مظلة الترفيه لتحقيق أغراض سياسية دولية للمملكة، وخصوصًا بعد العزلة الدولية التي تعرضت لها بسبب مقتل الصحفي جمال خاشقجي في تاريخ 2 أكتوبر 2018 في إسطنبول. ينظر الكاتب إلى العولمة باعتبارها تجليًا للقدرة على تطويع الدولة الوطنية عبر التحديث والتمدن الذي يعمل على حفظ المصالح الرأسمالية المتمثلة في المنظومة الاقتصادية والأيديولوجية التي تساعد على تثبيت هيمنة المنظومة العالمية. لقد قامت المملكة بتسييس الترفيه وجعله بديلاً عن هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كجهاز ضابط للمجتمع وحامل للسياسات الرأسمالية النيوليبرالية. فإن كانت هيئة الأمر بالمعروف تفرض التقليد والمحافظة على الناس، حتى لقّبها البعض بـ "شرطة الدين"، فهيئة الترفيه في تصور الكاتب أصبحت "المقلوب المقابل"، فغدا أي نقد يُوجه إلى سياسات الترفيه وأنشطته يعرّض قائله إلى الاعتقال، حتى لو كانت بعض هذه الانتقادات تطالب بتوجيه الاستثمارات نحو تطوير البنية التحتية سيذهب الناقد إلى السجن.
الترفيه والمجتمع والصحوة
يرى الكاتب أن المجتمع السعودي ينظر إلى هذه التغيرات باعتبارها تحولات في البِنْية الفوقية. وبناءً على ذلك، يعد المجتمع هذه التحولات على أنها تحديث اقتصادي لازم يهدف إلى تغيير الركود الاجتماعي الذي حلّ بالمجتمع بسبب تغول الصحوة الإسلامية نحو إقامة دولة جديدة مبنية على الشفافية ومحاربة الفساد. وعلى الرغم من صحة انتشار هذا التصور بين الناس، يغفل الكاتب حقيقة الإشارة إلى دور الدولة في إنتاج هذا الخطاب وتبنيه وإشاعته بين الناس. ربما يحاول الكاتب الابتعاد عن الصدامية المباشرة بتحميل المجتمع عبء هذا الخطاب لينأى بنفسه عن اتهامات الذاتية في التحليل، لكنه يعود للإشارة إلى دور الدولة منذ البدء في دعم وتبني الحراك الإسلامي، بما يعيد تسليط الضوء على دور الجهاز الحكومي للعائلة المالكة في إدارة شؤون البلاد الاجتماعية والسياسية على حدٍ سواء.
لقد بات الترفيه أداة لاقتلاع إرث الصحوة الإسلامية الذي لطالما عدَّ بمثابة مرادف للمملكة، أو للسعودية القديمة، حيث قامت الدولة السعودية الأولى تاريخيًا على التحالف بين آل سعود والشيخ محمد بن عبد الوهاب. لذلك يرى الكاتب أن خطاب الصراع بين الجديد والقديم، بين الترفيه والصحوة، بين الانغلاق والانفتاح، ليس سوى صناعة سياسية بغرض خلق شقاق طبقي اجتماعي لخدمة أجندات الدولة. يرى الأحمد أن الترفيه ليس مجرد نشاط للترويح عن النفس، بل أداة غرضها الأساسي الإعلان عن الرغبة بقلب المجتمع بكل مكوناته. لقد سمح موسم الرياض الذي انطلق في خريف 2019 للسياح بالدخول من دول معينة، غالبها دول غربية دون تأشيرة دخول، ما مهّد الطريق للنساء في المجتمع بتقبل فكرة خلع العباءة، لباس المرأة السعودية المعروف. كما انتشرت، بحسب الكاتب، بعض الإشاعات عن تداول الكحول بأسعار مرتفعة في إشارة للتفاوت والصراع الطبقي الذي ينعكس في إطار الرؤية وترفيهها.
صممت الهيئة العامة للترفيه أنشطتها بهدف جذب السياحة الأجنبية والمستثمرين الدوليين. والرسالة التي ترغب الدولة، متمثلة بهيئة الترفيه، في إيصالها للعالم مفادها أن البلاد وضعت التقاليد والمحافظة خلف ظهرها لتعتنق قيم الحداثة والانفتاح. في المقابل تترادف هذه الرسائل مع تجاهل كامل للمواطنين، حيث أبرمت الهيئة العديد من الصفقات مع شركات غربية لإدخال الترفيه إلى المملكة بدلًا من الاعتماد على الخبرات المحلية. يكشف الأحمد بذلك عن أثر إعادة تقديم أنماط الإنتاج العالمية لصناعة الترفيه في خنق ومحو أنماط الإنتاج المحلية الثقافية الأصلية. ويشير إلى أن الدولة السعودية قامت بإخضاع واحتكار أنماط الإنتاج الثقافي لسلطتها بعدما كانت تترك جزءًا كبيرًا منها لسلطة أجهزة أخرى تتحالف معها، مثل هيئة الأمر بالمعروف، بينما تسمح بمساحات ضيقة للتمثلات الثقافية الشعبية.
خاتمة وتعليق
رغم وجاهة تحليل الأحمد، بيد أنّه يواجه قصورًا نظريًا في تقديم المملكة كدولة ما بعد كولونيالية، ولا أجد اعترافه بخصوصية الدولة الخليجية كافيًا. فأجد أن الكتاب ينقصه فصل يوضح فيه التاريخ السياسي الذي ساهمت فيه بريطانيا ومن بعدها أمريكا في تشكل الدولة. كما أنه يبالغ في بعض الأحيان في التأكيد على دور الدولة، ويهمل دور الجهات الفاعلة الأخرى، مثل المنتجين والمستهلكين الثقافيين المحليين. وأعتقد أن الكتاب كان ليستفيد من مناقشة أكثر تفصيلًا تتبع تأثير السياسات الثقافية الجديدة على الحياة اليومية بشكل أكبر. وربما ستكون المقابلات المعمقة مع سعوديين من أجيال مختلفة لفحص هذه الآثار اليومية دراسة اجتماعية حقيقية تسمح بتحليل أكثر عمقًا وواقعيةً في قراءة الحالة السائدة في المملكة.