يقدم هذا النص سيرة مقتضبة لمدينة القاهرة، مركزًا على المواجهات السياسية التي وقعت بين الأهالي والحكام في القرنين العشرين والحادي والعشرين، وتأثيرها المعماري على المدينة، من خلال قراءة لرواية وكتابين. تجسد رواية "قاهرة اليوم الضائع" روح المدينة المتمردة من خلال سرد يمزج بين التاريخ والواقع والخيال. أما كتاب "حكايات في تاريخ مصر الحديث: من نابليون ومحمد علي إلى حريق القاهرة"، فيقدم سردًا لتاريخ المدينة يبدأ من وصول الحملة الفرنسية إلى مصر وحتى ثورة يوليو 1952. ويُلخص الكتاب الثالث "القاهرة المدينة المتنازع عليها" حقيقة المواجهة بين سكان المدينة والعولمة والسياسات الليبرالية، مُسلطًا الضوء على تأثيرها على التخطيط العمراني للمدينة، وعلى هوية سكانها.
دينا عزت [1]
"حتى جاء اليوم الحادي عشر من الشهر الحادي عشر، وهو اليوم الذي دعا فيه بعض المهاجرين من مصر ممن لا يتوائمون مع النظام القائم إلى الخروج في ثورة. كنت أعرف أن أحدًا لن يلبي النداء. ضحكت وأنا أتذكر المظاهرات كلها التي اشتركت بها في حياتي، وكيف كنت أمشي بين المتظاهرين أضع عيني على بعض العمارات أو البيوت المفتوحة حتى إذا هاجمنا البوليس بالعصا أو القنابل المسيلة للدموع، لا أتراجع ولا أجري، بل أدخل من باب أحد هذه البيوت... الوحيد الذي لبى الدعوة للمظاهرات هو البوليس الذي يملأ الشوارع."
بهذه الفقرة يفتتح الروائي المصري إبراهيم عبد المجيد صفحات روايته القصيرة "قاهرة اليوم الضائع"[2] الصادرة مطلع العام الجاري عن منشورات المتوسط. يجمع في نصه الأدبي التاريخ الواقعي مع قدر مختار من مفردات وعناصر الرواية ليروي بإحكام شديد ارتباط العاصمة المصرية، التي تأسست في القرن العاشر بعد وصول الفاطميين إلى مصر، بأيام التمرد السياسي، ليس فقط في النصف الثاني والربع الأول من القرنين العشرين والواحد والعشرين، السنوات التي اختبر فيها الكاتب السياسة ومارسها فعلاً وأدبًا، بل يعود فيها إلى سنوات سابقة.
مسارات عبد المجيد في وسط المدينة، وخواطره التي تتأرجح في المساحة الغائمة بين الخيال والحلم، لا تُعنى أو تهتم في الأساس بمظاهرات دُعي إليها في عام 2019، بل بثورة يناير 2011 التي كان ميدان التحرير عنوانها وقلب تحركاتها. وفي مسارات رحلته بين التذكر والتهكم، يُلقي عبد المجيد في وجه قارئه بلمحات تاريخ متغير، حول حركات التمرد، سواء تحولت إلى مظاهرات أو اقتصرت على مشاعر الغضب. إلا أنها تركت بصماتها على المدينة؛ فهذا هو شارع سليمان باشا الفرنساوي، مؤسس الجيش المصري في عهد محمد علي، الذي أصبح يحمل اسم طلعت حرب، الاقتصادي المصري صاحب التجربة الملهمة "الذي أسس شركات باعتها الدولة"... ولكن "ما زال الناس يسمونه شارع سليمان باشا، خاصة كبار السن"، إلا أن تمثال طلعت حرب أصبح يحتل مكان تمثال سليمان باشا.
تنبهر أنظار السائرين في شوارع القاهرة بجمال المباني التي تُذكّر بزهو المعمار الذي عرفته المدينة، خاصة في عهد الخديوي إسماعيل، لكنه بالتوازي يُذكّرهم أيضا بقسوة الضرائب التي فرضها إسماعيل والعنف المصاحب لعملية تحصيل هذه الضرائب لبناء هذا الجزء من المدينة، الذي حل مكان الجزء الأقدم من القاهرة، والذي حُكمت منه مصر منذ إنشائها على يد الفاطميين عاصمة لمصر. "العاصمة الخديوية هي العاصمة الجديدة في ذلك الوقت. والله لن أستمر في الكلام، ليسمعني أحدا أو يقرأ أفكاري. الحديث عن العواصم خطر الآن".
حكام ومتمردون في قلب المدينة
ينتقل عبد المجيد بعد ذلك ليصل إلى ميدان التوفيقية – نسبة إلى الخديوي توفيق – والذي أصبح الآن يحمل اسم الضابط الثائر أحمد عرابي الذي واجه توفيق في ساحة قصر الحكم في نهاية القرن التاسع عشر لتقديم مطالب الجيش وبعض مطالب الشعب في واقعة يصفها أستاذ العلوم السياسية أحمد عبد ربه في كتابه "حكايات في تاريخ مصر الحديث: من نابليون ومحمد علي إلى حريق القاهرة"،[3] بأنها "موجة أولى" من موجات المواجهة بين المصريين وحكامهم.
يقع كتاب عبدربه، الصادر مطلع العام الجاري عن دار الشروق، في 193 صفحة. ويحتوي على فصول متصلة-منفصلة تروي حكايات الحكام والشعب والغزاة في مصر منذ وصول الحملة الفرنسية في نهاية القرن الثامن عشر، ووصولاً إلى ثورة 1952. خلال هذين القرنين، أصبح الشعب المصري في قلب معادلة الحكم، وشهدت القاهرة خلالهما مواجهات متوالية، بعضها في قلب قصور الحكام، كما حدث في حالة توفيق – عرابي، والبعض الآخر – وهو الأكثر – ما بين شوارع العاصمة وميادينها.
توالت موجات التظاهر التي اندلعت منذ وصول نابليون بونابرت على رأس الحملة الفرنسية إلى مصر، مرورًا بالثورة العرابية والمد المستمر للحركة الوطنية المصرية على يد مصطفى كامل، ثم ثورة 1919، ووصولاً إلى الإطاحة بحكم الملك فاروق على يد الضباط الأحرار بعد حصارهم لقصره، في ثاني واقعة من نوعها بعد حصار قصر فاروق بالدبابات البريطانية في فبراير 1942 حينما خير الإنجليز آخر ملوك مصر ما بين التنازل عن الحكم أو تشكيل حكومة وفدية، ليضطر فاروق لاختيار الثانية. "كنتم تخرجون في مظاهرات ضدي، وتقولون إلى أنقرة يابن المرة، الآن أنتم لا تستطيعون حتى أن تفكروا في شتيمة الحاكم،" هكذا يفترض عبد المجيد أنه سمع فاروق يحادثه من العالم الآخر في أثناء سيره في "قاهرة اليوم الضائع".
الحرق والهدم والإهدار
يطرح عبدربه تساؤلات حول الأيام الأخيرة لحكم فاروق، خاصة ما يتعلق بأحداث حريق القاهرة الذي اندلع في يناير 1952، قبل أشهر قليلة من انتهاء حكم الأسرة العلوية التي أسسها محمد علي عام 1805، بعد سنوات قليلة من فشل الحملة الفرنسية في السيطرة على مصر، وبعد مواجهات عديدة من المصريين وقع معظمها في قلب القاهرة وما حولها، وفي داخل جامعها الأزهر الذي أسسه الفاطميون ليبقى لأكثر من ألف عام عنوانًا معماريًا-سياسيًا-ثقافيًا للمدينة.
يثير الكاتب الشكوك حول جهات عديدة يشتبه في تورطها في أحداث الحريق، لكنه يشير إلى أمرين في هذا السياق. الأمر الأول هو مراسلات كُشف عنها بين الملك فاروق والإنجليز، تفيد بتورطهما في أحداث الحريق، وهو الافتراض الذي تكرر في العديد من الكتب الصادرة خلال العشرين عامًا الماضية، بما فيها عدد غير قليل من المذكرات. أما الأمر الثاني فهو "موقف الضباط الأحرار" الذي يُظهر أنهم كانوا فاعلين سياسيًا قبل الحريق بفترة كافية، وكان بإمكانهم محاصرة قصر الملك والحيلولة دون وقوعه.
بينما يجول عبدالمجيد في شوارع القاهرة، يسترجع في ذاكرته عناوين معمارية كانت موجودة قبل حريق القاهرة، وينتابه شعورٌ بالأسى على الإهدار العمراني الذي تعرضت له القاهرة مرارًا وتكرارًا منذ تأسيس نظام يوليو على الأنقاض السياسية لحريق القاهرة، والذي آلت معه بعض العقارات الأهم في المدينة، مثل عمارة يعقوبيان، إلى حوزة عدد من الضباط الداعمين للضباط الأحرار والمتعاونين معهم.
ثم يقف عبد المجيد في مسيرة اليوم الواحد عبر شوارع القاهرة، والتي تتراوح بصورة مبهمة بين الخيال والواقعية، أمام سينما ريفولي، ليتملكه شعور بالأسى على ما حل بها من تداعٍ، ويتساءل "هل يُدمّر أحد سينما عالمية كانت تعلق عليها أفيشات صور لأم كلثوم وليلى مراد ... وصولاً إلى ميرفت أمين ومديحة كامل"؟
من أفيشات أم كلثوم وليلى مراد في أربعينات القرن العشرين إلى أفيشات ميرفت أمين ومديحة كامل في السبعينات والثمانينات من القرن نفسه، تجسد "قاهرة اليوم الضائع" مسار التداعي التدريجي الذي لحق بالمدينة. ويرصد كتاب "القاهرة المدينة المتنازع عليها: عن الحوكمة والمكان الحضري والحداثة العالمية"،[4] الصادر في أصله باللغة الإنجليزية عام 2009، والذي ترجم إلى اللغة العربية عن المركز القومي للترجمة في العام 2023، مآلات القاهرة العمرانية-السياسية خلال عقود السبعينات ووصولاً إلى مطلع الألفية الجديدة.
تتناول الفكرة الرئيسية للكتاب الواقع في أكثر من 500 صفحة، والذي يُسهم في فصوله عدد من المؤلفين المتخصصين في قضايا العمران والاقتصاد والاجتماع، موضوعًا مشابهًا لما طرحته كتب أخرى مثل "قاهرة اليوم الضائع" و"حكايات في تاريخ مصر الحديث: من نابليون ومحمد علي إلى حريق القاهرة". هي ذات الفكرة التي يرصدها "القاهرة المدينة المتنازع عليها"، من حيث تحليل مواجهات وتفاعلات السياسة وأثرها المعماري على المدينة، والمواجهة الحتمية بين أهل القاهرة والسياسات المتغيرة للحكام المتوالين.
تطور التمرد
يركز مؤلفو فصول "القاهرة المدينة المتنازع عليها" على تحليل المواجهة بين سكان المدينة والعولمة والسياسات الليبرالية. توضح محررة الكتاب ومؤلفة أحد فصوله، دايان سينجرمان، أن هذه المواجهة لم تكن أمرًا سهلاً، رغم دفع الحكومات نحو العولمة والسياسات الاقتصادية الليبرالية. ووفقًا لما جاء في هذا الكتاب، لم تُسفر هذه المواجهة عن فائز أو خاسر من بين المواطنين بشكل مباشر.
لكن على أرض الواقع، حدث انقسام كبير تجاوز ما جرى تحقيقه في عهد الخديوي إسماعيل. فقد انحاز بعض سكان المدينة إلى الحكومة، واختاروا العيش في تجمعات سكنية محاطة بأسوار تُقصيهم عن محيطهم. أنشأوا عالمهم الخاص المبني على مفاهيم تتماهى مع العولمة والليبرالية، مما أضفى على أماكنهم شرعية "الجديد" و"الحديث" المتوافق مع الطرح الحكومي. وبالتالي، تركوا وراءهم القاهرة، التي أصبحت "قديمة" في مجملها و"عشوائية" في بعض مساحتها.
يشير كتاب "القاهرة المدينة المتنازع عليها" إلى أن التوجه نحو بناء المدن الجديدة، وإن شهد ذروته خلال حكم حسني مبارك، خاصة مع بداية النصف الثاني من التسعينات، إلا أن بداياته تعود إلى النصف الثاني من حكم أنور السادات. وذلك تزامنًا مع تبني مصر السياسات الاقتصادية الليبرالية بعد التقارب المصري الأمريكي في ذلك الحين. فبينما ذهب أصحاب "نزوات الترفيه الفاخر"، مدفوعين بالصور النمطية للحياة المتميزة التي تروّج لها العولمة، إلى التوغل في المدن الجديدة، لم يتوقف سكان ما يمكن تسميتها بـ "المدينة المتروكة" عن التوسع العمراني بدورهم، ولكن هذه المرة على أطراف المدينة، في سياق يحكمه الاحتياج ومحدودية الموارد. فقد نشأت "العشوائيات" التي هي، بتعريف الواقع، تجاوز سياسي- اجتماعي لدور الدولة المفترض في البناء وتوفير الخدمات الأساسية، ولكنها تعد بنظر سكان المدن الجديدة معقل الفقر والتطرف وكل ما هو تعيس وحزين.
يقدم الكتاب شرحًا لخيارات الدولة في التغاضي عن هذه المساحات العمرانية غير المقننة، والتي تتسع لتلبية المزيد من الاحتياجات، مما يشكل تحديًا إضافيًا للتماسك العمراني للمدينة، والذي أصابه الترهل نتيجة سرعة دفقات المدن الجديدة. ويخصص الفصل التاسع من الكتاب لمناقشة "أعمال الهدم والإزالة والجهات المانحة" التي شهدتها القاهرة منذ مطلع الثمانينات بتأثير من مؤسسات العولمة الأهم الداعية، بشكل ما، للدفع نحو نمط محدد من "التطوير الحضري".
يرصد الفصل التاسع بوجه خاص مشاهد متعددة لمواجهات وقعت بين سكان المدينة وبين قوى إنفاذ القانون أثناء تنفيذ جولات متتالية من "الحرب الخاطفة للتطوير الحضري". سعت هذه المواجهات إلى إزالة مساحات ومناطق عشوائية ونقل السكان من الأماكن التي استقروا بها، والتي كانت في الأصل مساحات زراعية، إلى مساحات حديثة في أحياء سكنية جديدة لا توفر لهم الترفيه البذخ وتبعدهم عن التواصل الكافي والمعتاد مع مدينتهم. يتضح ذلك من الفصل الحادي عشر المخصص لاستعراض تجربة نقل من تعرضت منازلهم للتداعي في قلب المدينة إثر زلزال تشرين الأول/ أكتوبر 1992. ورغم الخسائر التي تكبدها السكان، بما في ذلك اضطرار بعضهم لترك أماكن إقامتهم، ودخول البعض الآخر في مواجهات مفتوحة ومكلفة مع الشرطة، إلا أنهم لم يخضعوا بسهولة. فكان على الحكام، سواء في عهد مبارك أو في عهود سابقه، أن يتكيفوا إلى حد ما مع الضغط الشعبي، نظرًا لتبني نظام يوليو 1952 منهجية تفادي توتير الأوضاع في القاهرة، التي "كان حكام مصر يرونها ... باعتبارها مشكلة أمنية ومعرضة لأعمال عنف جماعية".