يتناول محمد جمال باروت في كتابه "العلاقات العربية- التركية (1918-1923): السيرورة والتاريخ والمصائر"، الصادر أواخر سنة 2023، العلاقات العربيّة التّركية من خلال دراسة المحادثات المباشرة وغير المباشرة ومحاولات الصّلح الرّسمية وغير الرّسمية بين الطّرفين. بالإضافة إلى مدى انعكاس التّنافس البريطاني الفرنسي وطموحهما في اقتسام تركة الدولة العثمانيّة في تعزيز هذه العلاقة أو إضعافها.
هشام الشرفي [1]
تأثّرت منطقة الشرق الأوسط في الفترة بين عامي 1918 و1923 بتنافس شديد بين الحلفاء من أجل تطبيق اتفاقية سايكس بيكو. وانتهى هذا الصّراع بعقد معاهدة لوزان سنة 1923 لحلّ ما تعبّر عنه الأدبيّات الأوروبيّة "بالمسألة الشرقيّة" وتصفية الدّولة العثمانيّة قانونيًا واقتسام تركتها. وبذلك نُقلت الولايات التي كانت تتبعها من نظام الإمبراطوريّة إلى نظام الدّولة، ووضعت تحت سلطتي الانتداب البريطاني والفرنسي. وجرت تسوية المسألة قانونيًّا بعد احتلالها عسكريًا في مرحلة سابقة. أسهم هذا الحدث الفارق في "تغيير النّظام الدّولي برمتّه" حسب تعبير محمد جمال باروت في كتابه "العلاقات العربية- التركية (1918-1923): السيرورة والتاريخ والمصائر"،[2] ونشأ عنه الشّرق الأوسط الحديث، الذي تتوسطه البلاد العربيّة.
تتمثل أهميّة هذا الكتاب في التركيز على مسألة مهمة ليس فقط على مستوى العلاقات العربيّة التّركيّة، بل يتعدى ذلك إلى مستوى العلاقات الدّوليّة، نظرًا لتداخل وتشابك المصالح بين القوى الأوروبية التّوسعيّة ومطامعها الاستعماريّة بالمنطقة. فيتناول الكاتب في هذا البحث الضّخم نسبيًا العلاقات العربيّة التّركيّة خلال الفترة الممتدة على خمس سنوات، أي من نهاية الحرب العالميّة الأولى التي خسرت الدّولة العثمانيّة على إثرها مساحات مهمة من مجالها إلى حدود معاهدة لوزان.
اهتمّت العديد من البحوث بهذه الظّرفية التّاريخيّة المهمة في المنطقة سواء من الجانب العربي أو التّركي. وقد تفطّن الكاتب إلى أنّ جلّ هذه البحوث قد تأثّرت بالسّردية المهيمنة على هذه الدّول الإقليميّة الجديدة، والتي صنّفت العلاقات العربيّة التركيّة في صورة تنميط وتكريس للاستقطاب والعداء. فجاءت الدّراسات التّركيّة متأثّرة بأيديولوجيا القوميّة التركيّة التي انطلقت من أطروحة التاريخ التركي الكمالي، في حين انطلقت البحوث العربيّة من أطروحة التاريخ القومي العربي التي تقوم على أنّ التاريخ العربي العثماني هو "تاريخ نير استعماري".
ومن هذا المنطلق، حاول باروت تتبّع العلاقات العربيّة التّركية خارج هذه الثّنائيّة الأيديولوجيّة من خلال دراسة المحادثات المباشرة وغير المباشرة ومحاولات الصّلح الرّسمية وغير الرّسمية بين الطّرفين، خاصّة بعد أن عرفت العلاقة بين العرب والأتراك توترًا كبيرًا إثر انطلاق الثّورة العربيّة الكبرى سنة 1916، وميل الشريف حسين إلى التّحالف مع البريطانيّين ضدّ الأتراك.
قُسّم الكتاب إلى واحد وأربعين فصلاً موزّعين على سبعة محاور رئيسية. ركز القسم الأوّل على محاولات الصّلح العربي التركي الأولى خلال الحرب العالمية الأولى، بينما خصّص القسم الثاني لدراسة اتفاق الاستبدال (13-15 أيلول/سبتمبر 1919) وآثاره في التّفاعلات بين حركتي الاستقلال الكمالية والسوريّة. أمّا القسم الثّالث، فقد درس فيه الباحث الفترة الممتدّة من اتفاق فيصل - كليمنصو إلى إعلان الاستقلال (6 كانون الثاني/ يناير- 8 آذار/ مارس 1920). وقد خصّص الثلاثة مباحث التّالية لدراسة مرحلة ما بعد الإعلان عن الاستقلال ووصولاً إلى لحظة احتلال المدن السّوريّة الدّاخليّة. وتناول القسم السّابع والأخير المرحلة الممتدّة من إعلان "الثّورة الهنانيّة" وحتى عقد معاهدة لوزان، وهي فترة امتدّت من سنة 1920 إلى سنة 1923.
العلاقات العربية -التركية في مرحلة الحرب
على الرغم من وجود محادثات واتصالات بين الطّرفين، فإنّ فترة الحرب العالميّة الأولى (1914-1918) لم تشهد عقد أي اتفاق صلح عربي تركي، خاصّة مع إعلان الثّورة العربيّة الكبرى في 10 حزيران/يونيو 1916، ووصولاً إلى انسحاب القوّات العثمانيّة من سوريا نهائيّا في أيلول/ سبتمبر 1918، وذلك بعد هزيمتهم في دمشق وتسليم المدينة إلى الأمير فيصل قائد جيش الشّمال في الثّورة العربيّة الكبرى، رغم الإبقاء على تبعيتها للنّفوذ العثماني على المستوى القانوني.
كانت معظم محاولات البحث عن توافق أو صلح بين الطّرفين مدفوعًا بسياقات أشمل تؤثّر بصفة مباشرة على الجانبين. فقد كان نشر اتفاقيّة سايكس بيكو من قبل البلاشفة في روسيا في 8 تشرين الثّاني/ نوفمبر 1917 أحد أهم الأسباب التي دفعت أحمد جمال باشا[3] لعقد صلح مع العرب. فإرسال نسخة من الاتفاق إلى كلّ من الحسين وابنيه الأمير فيصل والأمير عبد الله، إضافة إلى أمير اللواء جعفر العسكري، مقترحًا عقد صلح عربي تركي مع منح الحسين كلّ ما اتفق عليه مع بريطانيا، وذلك من أجل الحرص على إزالة أسباب الخلاف والتّوصل إلى تفاهم أفضل. إلا أن هذا المقترح قوبل بالرّفض من قبل الحسين بعد تفنيد البريطانيّين لنصّ الاتفاق في 8 شباط/ فبراير، وتأكيدهم على إيفائهم بوعودهم السابقة بشأن تحرير الشّعوب العربيّة، واعتبرت الحكومة البريطانية المقترح محاولة دعائيّة تركيّة هدفها بثّ الريبة بين الحلفاء والعرب لإفشال تحالفهم. وإن لم يكن لهذه المبادرة صدى كبير، إلّا أنّها فتحت الباب أمام مبادرات لاحقة تجّلت في الاتصالات التي استمرت قرابة السبعة أشهر[4] بين فيصل وجمال باشا المرسيني (1873-1941) والذي تولّى قيادة الجيش الرابع عوضًا عن أحمد جمال باشا لمحاولة تدارك تأثيرات الإعدامات التي قام بها سابقه وسياسته القمعية ضدّ السّوريين. وقد أطلق الكاتب على هذه الاتصالات اسم "اتفاق فيصل - المرسيني". وتركّزت مضامينها على إزالة مظالم أحمد جمال باشا في سوريا. وعلى إثرها توقفت إحالة المدنيين إلى المحاكم العسكريّة وألغيت لجنة التّهجير مع إعادة المنفييّن إلى سوريا والإفراج عن بعض قادة الحركة العربيّة المعتقلين.
على عكس المبادرة الأولى، لقيت هذه المحادثات تفاعلاً إيجابيًا من ضبّاط الجيش السوري الذين لم يقتنعوا بردّ البريطانيين حول اتفاقية سايكس بيكو، ممّا سمح بالانفتاح على العروض التركيّة. كما لقيت تفاعلاً إيجابيًا من الجانب العثماني، وذلك برعاية وزارة الخارجيّة العثمانية في سنة 1918 لمحادثات الصّلح عبر تنظيم اجتماع عرض فيه الوفد العربي أمام السلطان "الإصلاح والحكم الذاتي تحت الحكم العثماني". ويمكن تلخيص بنود مشروع الاتفاق في قتال الجيش العربي إلى جانب الجيش التركي تحت قيادة منفصلة، وذلك مقابل اعتراف الحكومة العثمانيّة باستقلال تركيا على شاكلة العلاقة التي تربط بروسيا بالنّمسا المجر مع تقديم الضّمانات اللاّزمة. ولكن لم يرَ هذا الاتفاق النّور نتيجة الهجوم الذي قام به البريطانيون بقيادة الجنرال ألنبي في 19 أيلول/ سبتمبر 1918، ممّا سبّب انسحاب العثمانيّين من سوريا وإعلان فيصل في 31 تشرين الأول/ أكتوبر من السنة نفسها تشكيل حكومة دستورية عربيّة في سورية مستقلة استقلالاً تامًّا باسم الشّريف حسين، تشمل جميع البلاد السوريّة، وتمّ تكليف رضا الركابي بقيادتها.
اتفاق فيصل – أتاتورك في حزيران/يونيو 1919
لم تمنع الهزيمة التي تلقاها العثمانيّون ونهاية الحرب العالميّة الأولى إعادة طرح مشروع اتفاق جديد بين مصطفى كمال أتاتورك وفيصل في حزيران/ يونيو 1919. استند هذا الاتفاق في فصوله على الاتفاق السابق الذي لم ير النّور، وتقاطع معه في بنوده، خاصّة في مسألة "رتق الصّدع بين الأتراك والعرب" وتنظيم العلاقة بينهما على أساس منح الحكومة العثمانيّة الولايات العربيّة استقلالا ذاتيّا في إطار الدّولة العثمانيّة.
واجه هذا الاتفاق تشكيكات في مدى صحّته وواقعيّته، إذ شكّك العديد من الباحثين، من مختلف أصولهم الجغرافية ومرجعياتهم الأيديولوجيّة، في حصوله. في حين يرى باروت أن الاتصالات والمفاوضات حول الاتفاق قد تمّت بالفعل، وكان أتاتورك سيوقع باسمه كممثّل للعثمانيين، وفيصل بوصفه قائدا للجيوش العربية في الشمال وممثلا عن الحكومة العربية في الحجاز وسوريا. ولكن، لم تكن الحكومتان العثمانية والعربية مستعدّتين لإقرار مثل هذا النوع من الاتفاقات، نظرًا لما يمثّله من تصعيد قد يضعهم في مواجهة قوية مع الحلفاء.
اتفاق الاستبدال وتعزيز الاتصالات العربية- التركية
لم تبلغ هذه المفاوضات والاتصالات مرحلة التطبيق الفعلي للصّلح بين العرب والأتراك. لكن ومع إقرار اتفاق الاستبدال بين بريطانيا وفرنسا في أواسط أيلول/ سبتمبر 1919[5]، وتقدّم القوات الفرنسيّة باتجاه كلّ من عنتاب وكيليكيا ومرعش وأورفة، وإعلان الهيئة التمثيلية الكمالية مقاومة الاحتلال الفرنسي، تغيّرت طبيعة المفاوضات العربية التركية، وذلك انطلاقًا من وحدة المصالح بين العرب والأتراك، والعمل على توحيد الجهود والتوصل إلى خطّة مشتركة ضدّ العدو الأوروبي. فكلما توترت العلاقات مع الفرنسيين، ازداد التّوجه للتحالف مع الكماليين.
في هذا السّياق، عمل أتاتورك على تعزيز الدعاية التركية لدى العرب والسوريّين على نحو خاص، وذلك عبر توزيع منشورات تدعو للتعاون وحل الخلافات بين العرب والأتراك و"عدم الإصغاء إلى أعداء الدين". وتمحورت هذه الدعاية حول الحجة الدينية من أجل خلق شعور مناهض لأوروبا ومؤيد للجامعة الإسلامية.
وتكلّلت هذه الدعاية الكمالية في سوريا بالنجاح، حيث اتخذت الحكومة العربية في النصف الثاني من كانون الأول/ ديسمبر 1919 قرارًا ببدء الاتصالات الرسمية مع الأتراك، لا سيّما مع المقاومة الأناضولية. ويجدر الإشارة هنا إلى أنّ هذا القرار لم يكن بإجماع أعضاء الحكومة، إذ برز خلال تلك الفترة اتجاهان رئيسان، الأول ذو اتجاه دفاعي/راديكالي بقيادة ياسين الهاشمي، يسعى إلى التصدي للتقدم الفرنسي مهما كلّف الأمر. في المقابل، ترأس رئيس الحكومة رضا الركابي الاتجاه الثاني المعتدل، والذي كان يرى عدم جدوى المقاومة ووجوب التعاون مع الفرنسيّين ضدّ الأتراك.[6] وهو ما أسهم في إسقاط حكومة الأخير وتقديم استقالته في 17 تشرين الثاني/ نوفمبر 1919، لعدم استجابتها للنهج الدفاعي الذي ذهبت فيه أغلبية أعضاء الحكومة.
لقي هذا التطور استحسانًا لدى الأتراك، مما أسهم في مزيد من تقريب وجهات النّظر بين الجانبين. ويعد دعم استقلال البلاد العربيّة من قبل أتاتورك في 27 كانون الأوّل/ ديسمبر 1919 والسّماح لها بتقرير مصيرها تحت مظّلة كونفدرالية تركية عربيّة تعبيرًا عن هذا النّهج الجديد للعلاقة بين الطرفين.
وقع الاختيار على سعيد حيدر، عضو الهيئة المركزية لحزب الفتاة والكاتب العام لحزب الاستقلال، ليكون "مندوبًا فوق العادة" للتفاوض مع الحكومة العثمانيّة وتحديدًا مع حركة أتاتورك، حول خطوط هذا الاتفاق لردع الاستعمار البريطاني والفرنسي. وباستشعار الفرنسيين مخاطر هذا التقارب، قدّم جورج كليمنصو، رئيس مجلس الوزراء الفرنسي، مقترح تسوية شاملة من خلال توقيع اتفاق سريّ بينهما في 6 كانون الثاني/ يناير 1920. ينص الاتفاق على إقرار صيغة انتداب خفيفة عوضًا عن الاحتلال المباشر، مقابل تراجع الحكومة العربية عن النهج الدّفاعي وتمرير النّقليات عبر سكة الحديد التي كانت المقاومة السورية في شمال البلاد قد منعت مرورها. وهو ما جرى تطبيقه إثر عودته إلى دمشق.
مع سقوط كليمنصو في 17 كانون الثاني/ يناير 1920 وصعود ألكسندر ميليران،[7] وإغلاقه باب التّفاوض مع فيصل وقطع جميع السبل لتحقيق تفاهم فرنسي سوري، ومع تصاعد ضغط الدّفاعيين من أجل التحالف مع الأتراك، رضخ فيصل، والذي فقد جزءًا كبيرًا من شعبيته، إلى النّهج الدّفاعي وسار مع الأغلبية المطالبة بإعلان الاستقلال في المؤتمر السوري العام يوم 8 آذار/ مارس 1920 لعدم قدرته على المماطلة لمدّة أطول.
وقد تزامن هذا التصعيد مع انتصار أتاتورك على القوات الفرنسية في مدينة مرعش، وهو ما أسهم في دفع التحالف العربي التركي من خلال فتح جبهة قتال مزدوجة، خاصة مع اعتراف أتاتورك بدور السّوريين في الجبهة السورية الشمالية في مساعدة الكماليين من خلال قطع خطوط الإمداد وحرب العصابات التي يتبعها الثوار بالشّمال. وقد سمح ذلك أن يعمل أتاتورك على تحسين المقاومة من خلال فتح جبهة مزدوجة يقاتل فيها كلّ طرف تحت قيادته الخاصّة.
استمر العمل على الجبهة الموحدّة ضدّ الفرنسيين حتى إعلان الهدنة بين أتاتورك وفرنسا في 27 أيار/ مايو 1920. واتّخذ الأتراك هذا القرار دون تشاور مع السوريين الذين شاركوا بقوة خلال نيسان/ أبريل في مهاجمة القوات الفرنسية على كل خطوط التماس. شكّل ذلك صدمة لدى الفاعلين السوريين، حيث وصفها فيصل "بالهدنة المشؤومة" و"بالمصيبة". وقد سمحت الهدنة للفرنسيين بإعادة التمركز والتّخطيط لاحتلال دمشق، خاصّة مع إرسال جنود إضافيين لساحات القتال. فاحتلت رياق في 11 تمّوز/ يوليو 1920، وثمّ تقدمت القوات نحو حلب، واحتلتها في 23 من الشّهر نفسه. تبع ذلك احتلال دمشق وحماة وحمص بين 24 و26 تمّوز/يوليو، وطرد فيصل من سوريا نحو أوروبا.
نتج عن سيطرة الفرنسيين على المدن السّوريّة استئناف حركة السكة الحديدية وعودة خطّ الإمدادات، مما أسهم في انقلاب الأوضاع في عنتاب من تفوّق للأتراك إلى محاصرتهم من قبل الفرنسيّين وسقوط المدينة في 8 شباط/ فبراير 1921. لم ينته النّزاع بين السّوريين والأتراك من جهة وفرنسا وبريطانيا من جهة أخرى إلّا بتوقيع معاهدة لوزان في 24 تمّوز/يوليو 1923. وبينما نجحت تركيا في استعادة استقلالها وإعلان الجمهورية، وقعت المنطقة العربية (سوريا ولبنان والعراق وفلسطين) التي كانت سابقًا ولايات عثمانية تحت الانتداب والسيطرة الاستعمارية الأوروبية. وبدأت مرحلة جديدة من التاريخ، هدمت فيه جسور الصلح الممكنة بين العرب والأتراك، وتُرِك العرب يواجهون مستقبلا مجهولا تحت سيطرة القوى الاستعمارية.