يتناول كتاب كلثوم بولات "العلاقات التركية-العربية: عندما تتحول الولايات السابقة إلى دول جوار جديدة (1914-1923)"، الصادر عام 2019 باللغة التركية، تاريخ العلاقات السياسية بين العرب والأتراك في الفترة الواقعة ما قبل الحرب العالمية الأولى وحتى تأسيس الجمهورية التركية. ويقدم وجهة نظر أكاديمية تحليلية محايدة لتاريخ العلاقات التركية العربية في العصر الحديث بالاعتماد على مراجع ومصادر أرشيفية.
بلال علمدارأوغلو [1]
تعد كلثوم (جولثوم) بولات إحدى الأكاديميات النادرات المختصات في مجال العلاقات التركية العربية وتاريخها على مستوى الساحة الأكاديمية التركية. يتكون كتابها "تاريخ العلاقات التركية- العربية"[2] من مقدمة وقسمين رئيسيين، ويقع في 362 صفحة. يتناول القسم الأول موضوع "الصراع والتحالف"، بينما يتناول القسم الثاني "الثورة، التعاون والصراع: سوريا والعراق وشبه الجزيرة العربية". يهدف هذا العمل إلى مناقشة النزاعات والتحالفات والتعاون على مستوى العلاقات التركية العربية في الفترة ما بين عامي 1914 و 1923.
إضاءة على مصادر الكتاب
اعتمادًا على مصادر من لغات مختلفة، يروي الكتاب الأحداث بناءً على الأرشيف الرسمي التركي والبريطاني، مما يجعله أحد أهم الأعمال الموثقة. إذ تحافظ بولات على الموضوعية والولاء للأرشيفات الرسمية، منتقدةً الأعمال غير الموضوعية على المستوى الأكاديمي التركي. ويمكن القول بأن هذا الكتاب يعد من أفضل كتب التاريخ الوثائقي، التي تعتمد تسلسلًا زمنيًا وسردًا تاريخيًا شاملًا للأحداث التي وقعت على أراضي الدولة العثمانية وشبه الجزيرة العربية في الفترة الزمنية الخاضعة للدراسة من خلال المصادر الأساسية مثل التقارير الرسمية، والمراسلات الإدارية، والخطابات. وتقدم الكاتبة نقدًا واضحًا في كتابها حول نقص المصادر التركية المكتوبة حول تاريخ العلاقات التركية العربية، وتضيف بأن أغلب المصادر المعتمدة كتبت بلغات غير التركية.
ولا بد من الاعتراف بأن هذا المنهج البحثي ضروري لضمان الدقة والشمولية في تحليل الأحداث التاريخية، إلا أننا نرى نقصًا واضحًا على مستوى هذا النوع، خاصة من ناحية الحيادية في الأبحاث المتعلقة بالعلاقات التركية والعربية. ويظهر هذا النقص كعامل محدد يستحق التفكير الجاد، إذ يمكن أن يؤثر في الفهم الشامل لتطور العلاقات بين الأتراك والعرب وتحديد الملامح الرئيسية لتلك العلاقات في سياق البحث الأكاديمي.
بين قوميتين
تمتلك العلاقات بين الأتراك والعرب، على عكس ما هو متعارف عليه، تاريخًا وجذورًا عميقة. تقرأ الكاتبة بداية التغيير في هذه العلاقات من خلال تحليلها لمفهومي "الدولة القومية" و"القومية العربية". فتوضح أن نقطة تحول العلاقات السياسية بين هذين الشعبين تعود إلى الحرب العالمية الأولى، حيث بدأت ديناميات العالم تتغير جذريًا. فمن نشأة القومية العربية، ومبدأ القومية التركية المستندة للعلمانية، وفكرة الدولة القومية، ومحاولات بناء الهوية الوطنية للأمم، إضافة إلى المشهد العالمي الذي شكلته الأنشطة طويلة الأمد للحكومة البريطانية في شبه الجزيرة العربية، كل ذلك مجتمعًا أثر في علاقات العالم العربي مع بقية العالم، وبالتالي في علاقاته مع الدولة العثمانية. يعكس هذا السياق العلاقات متعددة الجوانب التي ترتبط بين تلك القوميات والعلاقات الدولية في ظل المشهد الجيوسياسي الجديد آنذاك.
لحظة الحرب…لحظة التحول
مع بداية القرن العشرين، شهدت العلاقات السياسية والاقتصادية والثقافية بين الأتراك والعرب تحولات جوهرية تزامنت مع الحرب العالمية الأولى. أدت هذه الحرب إلى تغيير النظام السياسي العالمي، مما أفرز ضرورة إعادة صياغة طبيعة العلاقات بين الأتراك والعرب. على صعيد المنطقة العربية، كان للحرب العالمية الأولى تأثيرات واضحة ومتعددة. فبينما كانت الإمبراطورية العثمانية تسعى لابتكار وسائل متنوعة للحفاظ على السلطة المركزية وتعزيزها في المنطقة، واجهت الشخصيات العربية البارزة في شبه الجزيرة العربية حالة من الحيرة والتردد فيما يخص ولاءهم للأتراك.
في البداية، أظهر الإمام يحيى، الذي عارض الحكم العثماني في جنوب اليمن خاصةً قبل عام 1914، ولاءً للدولة العثمانية عند مشاركتها في الحرب العالمية الأولى. ويعزى ذلك إلى غضبه من بريطانيا؛ بسبب عدم رضاه عن نشاطات البريطانيين على أراضيه، واحتلالهم لعدن، ناهيك عن تأثير فكر الوحدة العربية على إمامته والخلافة. في المقابل، لم يكن من الواضح ما إذا كان حاكم نجد، ابن السعود، سيشارك في الحرب إلى جانب الدولة العثمانية أم إلى جانب الإنجليز.
أما الشريف حسين، إحدى أهم الشخصيات القيادية في المنطقة، فقد استمر في الحفاظ على مكانته بفضل الامتيازات التي منحت من الدولة العثمانية، على الرغم من القيود التي فرضها الحكم المركزي والنزاعات مع الحكام المعينين. إلا أن الثورة العربية الكبرى أثرت في العلاقات التركية-العربية والقومية العربية بشكل مباشر. ففي خضم هذه العملية، توصل البريطانيون إلى اتفاق مع ابن السعود، وبدأت مرحلة مهمة حددت مستقبل شبه الجزيرة العربية بقرار الشريف حسين بالقيام بثورة ضد الأتراك. هذا القرار أثر مباشرةً على مصير الحرب وتاريخ المنطقة ما بعد سقوط الدولة العثمانية.
الخاتمة والتعليق
يقدم الكتاب، في خلاصته، قراءة جديدة للتاريخ تُعيد تقييم العلاقات التركية العربية، مستندًا إلى الوثائق التاريخية بدلًا من الافتراضات الشائعة. يُسلّط الكتاب الضوء على موضوع استقلال العرب عن الأتراك من خلال تشكيل تحالفات مع القوى الغربية، خاصة مع الإنجليز. يُعد هذا السرد مغايرًا للرواية السائدة التي تصوّر العرب كـ "خائنين" للدولة العثمانية. كما يقدم تحليلًا عميقًا لخلفيات التحالفات التي أُبرمت في تلك الفترة، مُراعيًا صعود الحركات القومية، وطموح حكام المنطقة لتأسيس دول مستقلة، وبروباغندات الإنجليز، في ظل الظروف الاستثنائية للحرب العالمية الأولى.