في زمن غابت فيه أرشيفات المدن الفلسطينية بفعل الاحتلال، تُعيد منار حسن في كتابها "المغيبات: النساء والمدن الفلسطينية حتى سنة 1948" بناء ذاكرة هذه المدن من خلال قصص نساء عشن فيها قبل عام 1948. تقدم حسن في فصول الكتاب الأربعة تحليلاً للمدينة كفضاء تحرري للنساء، وتُناقش موضوعات مثلَ الخطاب الجندري، والحضور النسائيِ في مجالات الثقافة والترفيه والاقتصاد.
ياسمين قعدان [1]
يكمن الطرح المركزي للكتاب في أن فلسطين وتاريخها عانى اندثار الأرشيفات المنظمة كجزء من الخراب والمحو الذي اعتمده الاحتلال الصهيوني لفلسطين، ومن ثم تحاول الكاتبة هنا إيجاد منهجيةٍ جديدة لاستحضار المدينة الفلسطينية، التي ستتجول عبرها بين مكونات عدة كالقصص المأثورة، والسير الذاتية، والأغراض الشخصية، واللقاءات البحثية لأشخاصٍ عاشوا قبل العام 1948، وذلك لتحدي عدم وجود أرشيف عن المدينة الفلسطينية، ومكانة وحضور النساء وفاعليتها فيها.
صدر هذا الكتاب باللغة العبرية عام 2017، ونشرته مؤسسة الدراسات الفلسطينية عام 2022 بترجمةٍ من علاء حليحل، في مجموع 264 صفحة، تضم بين طيّاتها مستهلاً ومدخلاً، وأربعة فصول مع الخلاصة والمراجع.[2]
في مدخل الكتاب تقدم منار حسن حواراً شيّقاً حول النساء والمدينة والرجال والقرية، من خلال الفن التشكيلي الفلسطيني، عندما تستحضر لنا لوحتان لإسماعيل شموط وتمام الأكحل. يأتي الحوار من خلال ما تصوره اللوحات وما تنقله من مشاهد طبيعية وذكريات، تعتبر فيها حسن أنها تمايزت جندرياً بين شموط الذي علق في تصوير الريف الفلسطيني وذاكرة القرية، وبين تمام الأكحل التي حاولت أن تبرز نساء المدينة وشوارعها والحركة فيها. وعلى الرغم من أن كلاً من شموط والأكحل هما أبناء المدينة، تحاول حسن أن تفسر لماذا حمل كلاً منهما ذاكرة متمايزة بين القرية والمدينة. وتفسر ذلك تبعاً للسياق التاريخي الخاص بالمنصب السياسي الذي شغله إسماعيل شموط في منظمة التحرير الفلسطينية، والتي قامت خلال فترة تشكيلها على محاولة "ترييف فلسطين"، وخلق نوع من الذاكرة المنظمة والتمثيل القائم على التجانس الما قبل قومي (القومية البدئية) للفلسطينيين الأصليين على أن فلسطين هي (قرية وفلاح). وعبر مأسسة ذاكرة جمعية للفلسطينيين من خلال ذلك، فقد أُقصِيت العلامات الحضرية المدينية عن الذاكرة الجمعية. وبذلك، يبدو أن تمام الأكحل قد نجت وتحررت من سلطة وعبء "المنصب" لتحاول ذاكرتها استعادة تفاصيل مدينتها في لوحة "يافا عروس البحر"، وتحقق عبر ذلك "إنصافاً تاريخياً" مع "المغيبات"، المدن الفلسطينية من جهة، والنساء الحضريات من جهة أخرى. تنتقد الكاتبة عبر ذلك الحوار المدونة التاريخية الفلسطينية التي غيبت المدينة وروح المدينة من خلال التركيز على أن الأرض والقرية هي محور المعركة مع الاستعمار الصهيوني، مما أدى إلى ترك التطورات الحضرية التي كانت تحدث في فلسطين.
بالإضافة لما سبق، تناقش الكاتبة في المدخل فكرة التغيرات الحضرية على المدن والقرى من منتصف القرن التاسع عشر وحتى عام 1948. وتشير إلى أن هذه التغيرات تظهر في أن المدينة هي محفز للتحولات ضمن منظومات العلاقات والمصالح الطبقية والجندرية والمهنية والتجارية والحزبية، ومساحةً لفحص ترهل البطريركية، مما يفسح المجال للنساء لتحسين مكانتهن وتحقيق الاستقلالية والتنظيم، وبذات الوقت قد تكون المدينة أيضاً مكاناً قامعاً للنساء كما ستطرح الفصول القادمة.
حول ما تقدمه فصول الكتاب
يقدم الفصل الأول وتحت عنوان "الخطاب الجندري في المدينة الفلسطينية"، إضاءات على المنهجية عبر طرح الكاتبة لبعض المواد التي ستستخدمها في هذا البحث، وأبرزها المواد الصحفية للجرائد التي كانت تصدر في فلسطين في نهايات الفترة العثمانية وفترة الاستعمار البريطاني مثل جريدة "الكرمل"، و"الدفاع"، و"الصراط المستقيم"، و"مرآة الشرق"، بالإضافة إلى الجرائد العربية مثل "المقطم"، و"صوت القاهرة". ومن خلالها تجوب حسن بين النساء اللواتي كتبن عن النساء، وبين الرجال الذين كتبوا عن النساء. وتشير مثلاً إلى ما كانت فكرية صدقي من مدينة يافا تكتبه حول انتقاد التقسيمة التقليدية بين العام والخاص، ودوائر الحياة الزوجية والعائلية، كما قدمت نقدها لمجمل ما تعرضه الصحف الفلسطينية بكونها صحافة محافظة "غير متطورة"، بحيث أنها لا تتطرق إلى المسائل النسوية المهمة كما يحدث في صحف العالم العربي.
أما الفصل الثاني الذي تتناول فيه النهضة النسائية في الحيز الحضري، فيعطينا مساحةً للإشارات المتعددة للمرحلة التي تطلق عليها الكاتبة اسم "النهضة"، والتي تظهر مع أواخر الفترة العثمانية وفترة الاستعمار البريطاني، حيث يبرز فيها تخلخل الفصل بين الرجال والنساء في المدينة مثل ما حدث في العرض الذي أجري في يافا لتأسيس المنتدى الرياضي. ومع ذلك، فهي تقول إن نشاط النساء السياسي المناهض للكولونيالية قد برز بشكل أساسي في أواخر العشرينات، ولكن، كانت هناك بعض الأمثلة على المنظمات التي أنشأتها النساء قبل ذلك، كمثل "جمعية إغاثة المسكين" في عكا عام 1903. لقد كان أغلب نشاط النساء في فترة الاستعمار البريطاني يقوم على إرسال الرسائل الاحتجاجية لسلطة الاستعمار حول إقامة المستعمرات "اليهودية" على سبيل المثال. أما العامل الآخر الذي تطرحه حسن في مسار النهضة هو أفول العائلة كوحدة اقتصادية بعد ارتفاع شأن الرأسمالية وتعاظم مسار "التحضر".
وفي الفصل الثالث تأخذنا الكاتبة إلى الحضور النسائي في حيزي الثقافة والترفيه، وتظهر فيه العديد من القصص حول النساء وعلاقتها مع الحدائق العامة في المدينة، أو مع ساحات الرقص، وشاطئ البحر، والمسرح، ودور السينما، والنوادي، وكذلك في الفن التشكيلي الفلسطيني كمثل اللوحات التي عرضت في ثلاثينيات القرن الماضي، لزلفة السعدي وايمي الصايغ وإيلينور حداد، وغيرهن الكثير. وتشير الكاتبة بملاحظة ضبابية إلى أن إحدى نشاطات النساء وهي "الاستقبالات"، التي كانت (ظاهرة حضرية طبقية خاصة) قد تكون النواة التي خرجت منها الحركة النسائية، والتي تصفها وتحللها الكاتبة على أنها فضاءات هتروتوبية بالاستحضار الفوكوديالي[3]- على أنها فضاءات حصرية نسائية لا تشبه غيرها من الأماكن في المدينة، وغير متاحةٍ للجميع، شملت أحاديث مختلفة سياسية وثقافية واجتماعية، وحصرت ببعض البيوت المختارة للنساء اللواتي يلتقين فيها، ومنع منها الرجال والفتيان والفتيات اللواتي لم يبلغن.
وأخيراً في الفصل الرابع، تنتقل بنا منار حسن إلى ظواهر من الحيز الاقتصادي، الذي تقدم فيه بعضاً من المهن التي حركت قدرة النساء على التحرر والاستقلال الاقتصادي مثل مهنة الخياطة والتصميم، التي تربطها بالسوق العالمية ومسار الموضة، وكذلك كانت المهنة التي انتقلت من المدينة إلى الضواحي، وخدمت الجمعيات النسائية في فلسطين. أما المهنة الأخرى التي احتضنها الحيز المديني تحديداً، فقد كانت مهنة الجناكي، النساء اللواتي يعزفن ويغنين ويرقصن، والتي تشير الكاتبة إلى أنها كانت ترمز إلى تمرد النساء على المنظومة المجتمعية المحافظة. أما الجانب المظلم للحيز الاقتصادي في المدينة فقد كان تابعاً لاستغلال النساء العديدات اللواتي كن يهاجرن للمدينة، لأسباب مختلفة، واللواتي كن يتعرضن إلى الاستغلال، والاتجار الجنسي. وإن كان هذا الجانب المظلم هو أكثر الجوانب اقتضاباً في هذا الكتاب، بالرغم من أن الكاتبة تشير إليه مرات عديدة ولكن دون التوسع فيه.
أما الخلاصة، والتي سيشعر القارئ أنها مقدمة لسياق تاريخي اجتماعي قادم لما بعد عام 1948، تشرح فيها الكاتبة عن الشرخ الاستعماري الصهيوني الذي سرق المدن الفلسطينية منّا، وسرق معها كل التغيرات الحضرية التي كانت قد تشكلت في هذه المدن حتى عام 1948، وترافق ذلك مع سرقة فكرة أن يكون هناك أرشيف للمدينة الفلسطينية، وفقدان للذاكرة الجمعية تمكننا من استحضار مكانة النساء في الفضاءات الحضرية. ما شكلته النكبة بالنسبة لما تقدمه الكاتبة كان بمثابة "مفترق التحضر"؛ حيث أنها ترى أن القضاء على المدن الفلسطينية سنة 1948، وتحت نطاق "دولة إسرائيل"، أصبح المجتمع الفلسطيني يعيش مسارات مناهضة للتحضر أدت إلى تراجع مكانة النساء، وأثرت في تفكيك العلاقات الجندرية من بعدها السياسي، خاصةً في الفضاءات العامة، والذي برأيها ما زال مستمراً حتى الآن. بالإضافة لذلك فهي تشير إلى أن هناك نمواً لطبقاتٍ وشرائح فلسطينية حضرية ضمن مسارٍ جدلي مركب، وخصوصاً على هامش المدن "اليهودية"، إلى جانب تطور موتيفات حضرية في النسيج الفلسطيني الريفي في "إسرائيل"، وهو ما قدم في مطلع تسعينات القرن الماضي مفترقاً ثالثاً على محور التحضر – مناهضة التحرر وهو "الحضريون من دون مدينة والمدن المتخيلة".[4]
أزمة الفقدان وثنائية المدينة -القرية
بدايةً لنقل أن هذا الكتاب هو احتفاء بقصص عديدة لنساء كثيرات عشن في المدينة الفلسطينية قبل عام 1948، وأن هذا الاحتفاء مهم جداً ومغذي لنا، ولكل الفاعلية والحراك الذي نراه في مختلف المجالات السياسية والثقافية والاجتماعية. وهذه المحاولة البحثية هي محاولة مهمة في سياق معين استثمرت فيه الكاتبة جهداً كبيراً لمحاولة تخطي عدم وجود "أرشيف" للمدينة والنساء الفلسطينيات المتحركات داخلها، إلا أن هذا الكتاب يقدم لنا أيضاً أسئلة عديدة، سواء كان على "المدينة" نفسها، أو على التحليل الطبقي الغائب لنساء المدينة وغيرهن، أو حتى على ما نعنيه بـ "الأرشيف"، والأهم على العدسة التي نرى النساء من خلالها.
هنا، نقول إن هناك أزمة فقدان تعانيها الدراسات التي تتناول التاريخ الفلسطيني، ومن خلال الأزمة تتجلى لنا محاولات عديدة علقت في ثنائية المدينة[5] والقرية[6] الفلسطينية، وكلا طرفي الثنائية جرى الاستثمار فيه واستغلاله أحياناً بطرق مختلفة، وأن محاولات الاستعادة للأجزاء المختلفة التي شرذمت المجتمع الفلسطيني تضيء على أن أزمة الفقدان نفسها هي أزمة استعمارية، لا نرى من خلالها الكل الفلسطيني. وبالرغم من أن فترة انطلاق منظمة التحرير الفلسطينية شكلت الأزمة الأولى لتشويه الكل الفلسطيني تمثيلياً عبر "ترييف فلسطين"، وتحييد البدو والمدن، إلا أن التيارات المعرفية الفلسطينية الجديدة مارست أزمة مختلفة في محاولة استعادة المدينة الفلسطينية أو ما تبقى منها.
كلاً من المسارين يمتلك إشكاليات محددة علينا أن نكون واعين لها، المسار الأول بالطبع يظهر كما تشير الكاتبة إلى أن هناك خلقاً لذاكرة جمعية موحدة تحت "الفلاحين" وإقصاء غيرهم كتمثيل "قوميٍ" لما تعنيه فلسطين. أما المسار الثاني وهو أيضاً إشكالي، لأنه ينحى دائماً لرثاء "مسار التحضر"، الذي لا نعلم من وكيف يُحَدَّد. ومسار التحديث نفسه الذي يستخدم مقولات التطور والتقدم، ويستخدم الزمن بشكل كرونولوجي خطي تقدمي، هو نفسه أساس الاستعمار/الحداثة/الرأسمالية الغربية وبالذات الأوروبية، التي وقعت على مجتمعاتنا وفكرنا وأرواحنا.
وما سبق يعيدني إلى ضبابية ذكر الكاتبة وتحليلها لعلاقة الاستعمار والرأسمالية والحداثة في تملك الاستعمار الصهيوني في فلسطين، والذي تشير إليه بطريقة تبدو أحياناً كأنها احتفاء، كمثل إشارتها إلى مهنة الخياطة والتصميم عبر مسارات "الموضة العالمية" والأسواق العالمية الرأسمالية، التي ترى أنه بدأ في الربع الأول من القرن العشرين، وهذا أمر مقلق، يدل إما على قفز الكاتبة عن مسار نشأة الرأسمالية وتحولاتها وعلاقتها بالاستعمار، أو على عدم وضوح موقعيتها السياسية اتجاه ذلك، بالذات وأن مهنة الخياطة وارتباطها بالنساء تحديداً تمثل السوق الأكبر والأكثر استغلالاً لأجساد النساء وقوٌتهن.
ومن هذه الجملة الأخيرة أستطيع أن أقول، أن الكتاب يقدم نوعاً ما "عنفاً طبقياً" عبر تجاوز أي محاولات للتحليل الطبقي الواضحة، وإبقاء إشارات ضبابية ونازعة للسياقات الاجتماعية حول طبقات النساء التي تتناول قصصهن، والأهم والإشكالي برأيي وهي أنها طوال فترة مناقشتها للمدينة كفضاء تحرري للنساء أغلب القصص كانت لنساء الطبقة البرجوازية التي تظهر في أسماء العائلات التي ينتسبن إليها، بينما في الجزء الخاص بالمدينة كمكان قامع،[7] يظهر أن المدينة هي مكان قامع للنساء الفقيرات وغير المحظوظات طبقياً للتعامل مع فضاء المدينة، إذن، كيف نقرأ الحركات النسائية التي تحدثت عنها الكاتبة كثيراً في سياق التحليل الطبقي؟ وكيف نرى نساء الجبال بحركة وفاعليةٍ نسائية مختلفة مع المقاومين في ثورات عام 1929، وعام 1936، وهن خارج المدن؟
أخيراً، لا أعلم كيف تتعامل الكاتبة مع مفهوم الذاكرة الجمعية، الذي تشير فيه إلى أن فقدان المدن يجعلنا ننسى الحياة في المدينة، ولا أعلم أين برأيها تذهب المدن الفلسطينية في "الضفة الغربية"، التي لا تشير إليها في خاتمتها التي تقدم فيها لسياق ما بعد عام 1948، وحتى قبل عام 1948، الذي لا نجد توضيحاً فيه حول الفاعلية والحياة في هذه المدن والتغيرات التي حدثت عليها، والتي ما تزال حيّة ومستمرة حتى اللحظة، وهذا يعيدني إلى أزمة الفقدان التي بدأت فيها، والتي تؤدي إلى عدم رؤية الحياة تحت الاستعمار، والتركيز على ما سرق منّا فقط، والذي برأيها شرخ "مسار التحضر"!
أما بما يخص الأرشيف الذي جرده الاستعمار من الفلسطينيين، فإذا كان هناك مجموعة من الجرائد والصور الفوتوغرافية وبعض الناس الذين عاشوا في فترة ما قبل نكبة عام 1948، واُختِيرُوا للإضاءة على قصص محددة وسياقات معينة، فماذا نقول أو نفعل حول الأماكن الأخرى والناس "الآخرين" الذين لم يجري أصلاً توثيق وأرشفة حياتهم، أو اعتبار حركتهم وفعاليتهم مهمة لحد تفعيل الأرشفة والوثائق أو زمن الكاميرا من أجلهم، وأكبر إشارة على ذلك هو الاقتضاب الذي يظهر في فصل الاتجار الجنسي للنساء في نفس هذه "المدينة"!