تقدم دينا عزت قراءة لثلاثة أعمال تتناول حقبة الخمسينيات في مصر من زوايا مختلفة. يستعرض كتاب "ألبير آريِّه: مذكرات يهودي مصري،" تجربة شخصية مليئة بالتفاصيل والآراء حول التحولات السياسية والاجتماعية في مصر. بينما يقدم "ما خفي: مصر بين فاروق وناصر في الصحافة الأمريكية،" لأسامة حمدي تحليلاً معتمداً على تغطيات الصحافة الأمريكية لتلك الفترة. أما رواية "1952" لجميل عطية إبراهيم، فتقدم معالجة أدبية تعكس مشاعر المصريين تجاه الثورة والتحولات الاجتماعية المصاحبة لها، مايمنح القارئ رؤية متعددة الأبعاد لتلك المرحلة المفصلية في تاريخ مصر.
دينا عزت[1]
"واسودت سماء القاهرة قبل أن يحل الليل بساعات"، هكذا يتذكر آلبير آريه لحظة حريق القاهرة في 26 من يناير 1952 والذي شاهده في شبابه من شرفة منزل أسرته مع استهداف كل المحال التجارية المملوكة من قبل الأجانب بما في ذلك تلك المملوكة ليهود مصريين كمحل والده المتخصص في بيع الملابس.
تأتي مشاهدات الحريق كجزء من شهادة كاملة عن حقبة الخمسينات – مع ما سبقها وما تلاها – لهذا الرجل المصري المولود في قلب القاهرة لأسرة يهودية، والذي رفض مغادرة مصر التي ولد فيها في العقود الأولى من القرن العشرين وحتى وفاته في أبريل 2021 عن عمر 92 عاما. الشهادة مدونة في كتاب يقارب ال400 صفحة – مع احتساب ملحق صغير للصور الشخصية – صدرت عن دار الشروق في معرض كتاب القاهرة الدولي نهاية يناير من العام الحالي تحت عنوان "ألبير آريه – مذكرات يهودي مصري" – بتحرير الكاتبة والصحفية منى عبد العظيم أنيس.
رواية ذاتية مختلفة
في تقديمه يقول آريه، الذي رحل قبل صدور الطبعة الأولى من مذكراته، إن ما يطرحه ليس المقصود به تقديم شهادة تاريخية وإنما مشاركة مشاهدات وآراء سياسية ترتبط بحياته في مصر التي أحبها ولم يرحل عنها حتى ضمه ثراها. كما أن هذه المذكرات هي كلمته للأجيال الجديدة لمعرفة جوانب من تاريخ بلده. يطرح آريه في شهادته الموثقة سرديات تبدو مختلفة في الكثير من تفاصيلها عن المتداول إزاء الكثير من "المفترض" تاريخيا، وتقدم قراءة مغايرة لما أصبح معروفاً خلال الجزء الأكبر من حكم جمهورية يوليو الذي بدأ مع حركة الضباط الأحرار في يوليو 1952 وما زالت فصولها تتوالى شكل أو أخر.
علي سبيل المثال، يخالف آريه المقولة التي شاع ترديدها حول تورط جماعة الإخوان المسلمين في حريق القاهرة. ويقول الرجل القادم من قلب الحركة الشيوعية التي كانت تتمتع بنشاط كبير في القاهرة "في اعتقادي أن الحزب الاشتراكي كان مشتركا في الأحداث هو وإخوان الحرية الذي كان تنظيما مشبوها"، مضيفا أن هناك من شارك من خارج هذين التكوينين الشيوعيين في أعمال الحرق بما في ذلك ربما أفراد كان لهم انتماء للإخوان المسلمين، ولكن مشاركتهم وغيرهم من الشباب اللا تنظيمي كانت بصفة فردية. موضحا أن عمليات القبض التي تلت الحريق شملت شيوعيين ولم تشمل أعضاء جماعة الإخوان المسلمين. وبحسب رواية آريه عما شاهده بنفسه وهو يسير في شوارع وسط القاهرة في ذلك اليوم " قيل وقتها أن محال اليهود كانت مستهدفة لكن هذا غير صحيح فلقد استهدفوا كل الأماكن التي كانت ملكا لليهود أو غيرهم ولم يتركوا شيئا من المحال المملوكة للأجانب".
اللافت في رواية آريه عن اليوم الأسود في تاريخ القاهرة أنه "لم يكن هناك مطافي أو إسعاف وكان فؤاد سراج الدين (وزير الداخلية في الحكومة الوفدية في ذلك الوقت) يتصل بالقصر ليطلب من الجيش التدخل لكن ما من مجيب". لا يخفي آريه في مذكراته، التي تتسم بصراحة وسلاسة وتدفق المعلومات، التساؤلات التي دارت في ذهنه حول موقف القصر من الحريق والرابط المحتمل بين هذا التشكك وواقع أن القصر كان راغبا في أن تذهب حكومة الوفد المدعومة من الاحتلال البريطاني.
موقف آريه من الملك لم يكن حافلا بالتقدير، بحسب الصفحات الخاصة بالنصف الثاني من أربعينات القرن العشرين في هذه المذكرات، وأسئلته حول موقف القصر من الحريق دفعت به لأن يرفض وبحزم المشاركة في عمليات إعادة افتتاح الممر الذي تعرض للتلف في حريق القاهرة في حال التزام والده بمطالب محافظة القاهرة بتعليق صورة للملك فاروق في قلب المحل عند إعادة افتتاحه في مايو من ذات العام.
يقول آريه إن لحظة حريق القاهرة كانت لحظة مفصلية بالنسبة لمصر بمعاني اجتماعية ولست فقط سياسية، لافتا إلى أن الاستهداف المقصود وشبه الحصري لممتلكات الأجانب واليهود دفع بالكثيرين للرغبة في الرحيل عن مصر وسط أجواء مشوبة بالقلق عما هو قادم، خاصة اليهود الذين كان قد بدأ رحيل بعض منهم مع عام 1948 – ليتحول الأمر إلى ترحيل البعض بما في ذلك هنري كوريل الذي أُبعد نهاية عام 1950 وتمت مصادرة جواز سفره. لكن آريه يقول إنه لم يكن يفكر إطلاقا في الرحيل عن مصر ولم يكن يشعر باستهداف محدد لليهود – خاصة أن محلات والده كانت مورد الملابس الرياضية للجيش دون أدني تحفظ على أن يكون يهودي هو القائم على هذه التوريدات.
كانت حياة آريه التي عاشها في القاهرة سهلة وميسرة تتقاطع فيها السبل ببساطة بين المساحات المختلفة، فهو اليهودي ابن الطبقة المتوسطة والذي ينتمي للحركة الشيوعية. تنشأ صداقة بسيطة بينه وبين أحد مدرسي التربية الرياضية في واحدة من مدارس القاهرة – والذي كان يتردد على محل والده – ليعرف أن هذا المدرس، مهدي عاكف هو عضو في جماعة الإخوان المسلمين وهو الذي سيصبح لاحقا المرشد العام للجماعة.
مشاهدات شخصية
بعد ذلك بشهور، وبينما كانت الحياة السياسية في مصر مرتبكة والمفاوضات مع البريطانيين متعثرة والمعتقلات تفتح كل يوم لمزيد من الشباب السياسيين "فوجئنا باستيلاء الجيش على السلطة". لا يبدي آريه موقفا رافضا بالمطلق لحركة الضباط الأحرار التي حولت مصر من ملكية إلى جمهورية أولا برئاسة محمد نجيب ثم برئاسة جمال عبد الناصر. لكنه يقول أنه لم يكن متقبلا "للديباجة العسكرية" التي استقر على أساسها الحكم أولا لنجيب ثم لناصر، حيث انتابه التوجس بعد أحداث كفر الدوار بعد شهور قليلة من قيام الثورة عندما اصطدم الحكم مع عمال متظاهرين وانتهى بإعدام اثنين من القيادات العمالية – خميس والبقري. لكنه يقر أن التأييد الشعبي بدأ مع الإصلاح الزراعي.
ويضيف آريه في مذكراته أنه وفقا للمبادئ الست لثورة يوليو كان يفرض عودة الأحزاب التي تم إلغائها مع بداية الثورة وهو ما لم يحدث بل بالعكس تم تعقب الفاعلين السياسيين وخاصة الشيوعيين وزجهم في السجون، وهو ما انتهى به إلى السجن في شهر نوفمبر من عام 1953 ليتنقل بين السجن الحربي وسجن الواحات- الخيام ثم سجن مصر.
تقدم المذكرات وصفا دقيقا لأحوال المعتقلين السياسيين في سنوات يوليو الأولى – ما بين الشيوعين والاخوان – وما حدث من تزامل وتعارض وتقارب واختلاف بين أتباع المجموعتين في سجون حكم يوليو – بما في ذلك لقائه مع عاكف واشتراكهما في بعض المهام داخل السجن. ويقول إنه رغم كل ما حدث في السجن لم يتم التطرق إلى يهوديتي، بل إنه يقر أن حكم يوليو لم يظهر أي كراهية مباشرة لليهود، بل إن محمد نجيب زار معبد يهودي للاحتفال برأس السنة اليهودية في ترضية لليهود في مصر بعد أن تعرضوا لانتقادات من الشيخ حسن الباقوري، الذي اعتذر لاحقا عما بدر منه.
مقاربة صحفية
ما جاءت به مذكرات آريه تستدعي كتابا صدر عن دار العين في عام 2021 تحت عنوان "ما خفي – مصر بين فاروق وناصر في الصحافة الأمريكية"، يستعرض فيه الكاتب أسامة حمدي تغطية الصحف الأمريكية وصول الضباط الأحرار للحكم بعد مشاهد من ارتباك السياسة، خاصة بعد حرب 1948 التي كانت لطمة مهينة للجيش، بعد تفجير قضية الأسلحة الفاسدة في عام 1950 مما زاد من الحنق العام، إلى أن "أذهل محمد نجيب العالم بإعلان أن فاروق لم يعد ملكا لمصر" في يوليو 1952.
ينقل الكتاب عن مراسل إحدى الصحف الأمريكية أن الدبلوماسيون الأجانب في القاهرة كانت ينظرون إلى نجيب بوصفه الشخصية الواعدة التي ظهرت في الشرق الأوسط منذ كمال أتاتورك، في رواية غير متداولة عن الرجل الذي تصدر المشهد مع ثورة يوليو. كما تنقل الصحف الأمريكية في تغطيات مختلفة ينقلها الكتاب ما هو متواتر تاريخيا من أن نجيب أراد أن يترك السياسة لأهلها وتضيف مما هو غير متواتر أنه أصر أن يعامل أخيه علي نجيب، الضابط الرفيع بالجيش يوم ثورة يوليو، نفس المعاملة التي تلقاها غيره من كبار الضباط الذين تم توقيفهم توطئة لإزاحة فاروق. كانت شعبية نجيب، حسب ما كتبته الصحف الأمريكية التي ينقل عنها حمدي، واسعة بما كان يجعل الناس تهتف له أينما حل بوصفه وجه الحركة المباركة.
لكن الصحف التي ينقل عنها حمدي تذهب بالقارئ في سياقات تلي لحظة الثورة وسنوات الأمل الأولى بعد أيام نجيب القصيرة وبعد أن انتهى "عصر مسرح العرائس في مصر" ليظهر علي خشبة المسرح جمال عبدالناصر "الذي كان يجذب الخيوط من وراء المسرح" والذي سرعان ما حقق شعبية قائمة على الحياة البسيطة التي كان يعيشها وعلي تحركه نحو إلغاء الألقاب وتوزيع الأراضي الزراعية ورفع الحد الأدنى للأجور وانشاء مؤسسات طموحة لزيادة الإنتاج، بينما كان يسعي للسيطرة علي كل شيء حتى أنه قال لأحد الصحفيين الأجانب – بحسب ذات الكتاب –" أنا أعرف كل ما يجري في البلاد ".
وتبقي اللحظة الفيصل في حكم يوليو في الخمسينات من القرن العشرين بحسب "ما خفي" هي لحظة اعلان ناصر لتأميم قناة السويس وما حل بالبلاد من زخم تلتقطه تغطيات مراسلي الصحف الأمريكية في مصر في ذلك التوقيت.
مقاربة أدبية
الاحتفاء "بالحركة المباركة" يطل بوضوح أيضا في رواية "1952" الصادرة عام 1990 والمصنفة ضمن أهم 100 رواية عربية – لكاتبها جميل عطية إبراهيم ضمن مشروع ثلاثي يشمل أيضا "أوراق 1954" و"1981". في الرواية تأتي الثورة تماهيا مع رغبة شعب سئم مؤامرات ونميمة القصر والتشاحن بين أفراد العائلة المالكة بينما الغالبية العظمي من الشعب لا تجد ما يسد قوت يومها – وهو ذات التباين الذي يشير اليه آريه في مذكراته عندما يلفت إلى أن الحديث عن الكوزموبوليتانية التي كانت في مساحات من القاهرة لا تنكر أن كان هناك فقر وأحياء مهملة.
تبرز الرواية احتفاء المصريين بكل فخر وفي كل مكان بالعمليات الفدائية التي كانت تنال من الجنود البريطانيين. كما تظهر السنوات السابقة للثورة حيث تتوالى الحيوات في مصر وترتفع حدة التوتر ويلقي الظلم بظلاله على الفلاحين ويحتار الجميع في المستقبل، إلى أن تقع الثورة فيبدو كأن الكثير من المشكلات في طريقها للحل حيث سيشفى المريض وينصف المظلوم ولو بعد حين.
ولأن لحظة إعلان جمال عبد الناصر عن تأميم قناة السويس وما تلاها من عدوان ثلاثي على مصر تعد اللحظة الأكثر درامية في تاريخ مصر في الخمسينات، فإنها تبرز بشكل كبير في غالبية المؤلفات التي تتناول تلك الحقبة الزمنية سواء كانت مؤلفات أدبية كراوية "لا تطفئ الشمس" لإحسان عبد القدوس أو رواية "الباب المفتوح" للطيفة الزيات. لكن يبقى التعبير الأكثر ملحمية عن هذه اللحظة هو ما يذكره اريه في مذكراته، حيث يتذكر لحظة الاستماع لجهاز راديو كان قد تم تهريبه إلى داخل السجن في قفص خضروات أحضره والده. يقول " وفجأة ونحن نسمع الراديو سمعنا خطبة عبد الناصر في المنشية وكانت سعادة لا توصف. وحدث نوع من أنواع الانفجار من فرط السعادة تبعه إرسال خطابات تأييد من مسجوني عبد الناصر لقراره تأميم قناة السويس."
لكن فرط السعادة لم يدم طويلا حيث جاءت نهاية الخمسينات بمزيد من القمع، كما يوضح آريه في المذكرات وصولا إلى مزيد من الديكتاتورية في الستينات وصولا الي لحظة الهزيمة في 1967 لتكون مشاهدات أريه الشخصية وثيقة جديدة ضرورية لقراءة موضوعية لحقبة الخمسينات في مصر.