تستعرض دينا عزت ثلاثة كتب تسلط الضوء على تجارب اللجوء والهروب من مناطق الصراع والحروب، وهي "الأختان" للصحافية آسني سييرستاد، و"مترو حلب" للكاتبة مها حسن، و"عراقي في باريس" لصموئيل شمعون. تتقاطع هذه الأعمال في تناولها معاناة الأفراد بين النزوح القسري والسعي للاندماج في مجتمعات جديدة.
دينا عزت[1]
مساء الثلاثاء 30 يونيو / حزيران الماضي، قام شرطي مرور في أحد ضواحي العاصمة باريس بإطلاق النار على سيارة يقودها شاب فرنسي من أصول جزائرية، فأرداه قتيلا. رواية الشرطي بررت الحادثة بأن الشاب رفض التوقف لتدقيق رخصة القيادة رغم أن القوانين الفرنسية لا تبيح للشرطي إطلاق النار. لكن رواية أخرى، نالت رواجا أكبر، تقول إن تجاوز درك المرور لقواعد إطلاق النار يعود للعنصرية التي تنسب كثيرا إلى الشرطة الفرنسية، خاصة في تعاملها مع أبناء ضواحي باريس، حيث يقطن أبناء الأجيال الأولى إلى الرابعة من الفرنسيين من ذوي الأصول الأفريقية.
فجر مقتل نائل غضبًا واسعًا في الشوارع الفرنسية، تمثل في مظاهرات ضخمة لم تخلُ من أعمال العنف والسلب والنهب. خلال أسبوع كامل، اتسع نطاق التظاهرات، وعجزت كل المحاولات الرسمية عن احتوائها، بينما تصدر "ملف الفرنسيين من أبناء المهاجرين" النقاش في الإعلام الفرنسي، مع تساؤل مستمر حول مفاهيم الاندماج والعدالة في المعاملة.
قبل مقتل نائل بيومين، قام سلوان موميكا، عراقي إيزيدي، بحرق صفحات من القرآن، ما أثار أيضًا غضبًا واسعًا في العديد من الدول ذات الغالبية المسلمة، بما في ذلك الدول العربية. نتيجة لذلك، تعرضت السويد لانتقادات واسعة لم تلتفت كثيراً لهوية من قام بحرق المصحف. هاجر موميكا من العراق في سنوات سيطرت فيها داعش على مناطق واسعة من شمال العراق، وتعرضت فيها الأقليات العرقية والدينية، بما في ذلك الإيزيديين، لجرائم بشعة شملت التهجير القسري وسبي النساء وإجبار الفتيان على اعتناق الإسلام، وتنفيذ تعليمات داعش الجهادية.
قبل هاتين الحادثتين، وفي منتصف شهر يونيو / حزيران، غرق مركب يحمل مئات المهاجرين الشباب من مصر وسوريا وفلسطين وباكستان قبالة سواحل اليونان، لتغرق معهم أحلامهم بحياة أفضل تحترم إنسانيتهم في دول فارقت الدكتاتورية وإن مازال بها بعض العنصرية.
تثير الحوادث الثلاث المتلاحقة الكثير من الشجون حول واقع المنطقة الغارق في الصراعات منذ منتصف القرن الماضي، كما تتزامن هذه الحوادث مع ذكرى حروب وغزو عاشها مواطنو المنطقة على مدى عقود، ودفعت بالكثير من أبنائها للفرار منها؛ بحثا عن ملاذ آمن يخلو من أزيز الرصاص. كما أعادت هذه الحوادث لذاكرتي مجموعة كبيرة من الكتب والروايات التي رصدت ووثقت رحلات الهروب واللجوء لشخصيات عاشت أهوال الحرب في بلادها، وعانت من مخاض عسير للوصول إلى أرض الأحلام. اخترت لكم منها اليوم ثلاثة عناوين؛ كتابًا توثيقيًا وروايتين.
الأختان: هل الوطن البديل ممكن؟
في التاسع والعشرين من يونيو / حزيران ٢٠١٤، أعلن مسلحو تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) في تسجيل مصور عن إطلاق الخلافة الإسلامية مجددًا فيما قالوا إنه يمثل بداية النهاية لاتفاقية سايكس بيكو، التي قسمت بلاد الخلافة الإسلامية قبل نحو 90 عامًا من تاريخه (في مايو 1916).
في اليوم ذاته، وبينما يتابع العالم في صدمة تفاصيل التسجيل، كان "صديق"، الرجل الصومالي الذي وصل إلى النرويج هاربًا مع عائلته من أتون حرب أهلية تمزق بلاده، يستعد لمغادرة أوسلو إلى تركيا، ومنها إلى الحدود مع سوريا للقاء عثمان؛ في محاولة ثانية لاستعادة ابنتيه المراهقتين الفارّتين. فقبل نحو عام، من ذلك اليوم، استفاقت أسرة صْديق على خبر فرار ابنتيهما آيان وليلى من أوسلو في أكتوبر / تشرين الأول 2013، وانضمامهن للجهاد مع تنظيم داعش في سوريا "لنصرة المسلمين المستضعفين".
رحلة الشقيقتين إلى "الدولة الإسلامية" ومحاولات والدهما إعادتهما إلى النرويج، توثقها آسني سييرستاد، صحافية التحقيقات النرويجية الشهيرة، في كتابها «الأختان» بناء على مقابلات أجرتها مع أسرة الفتاتين، ورفاقهما والمعنيين من السلطات النرويجية.
تنقسم صفحات الكتاب، الصادر أولا بالنرويجية في 2016، ثم بالإنجليزية في 2018، وأخيرًا بالعربية في 2019 عن الدار العربية للعلوم ناشرون، إلى خمسة أجزاء، تواكب الأزمة السورية وانتشار قوات داعش، وتقدم قراءة واقعية لقصة الوطن والانتماء والهجرة سواء كانت مرغوبة أم مفروضة، أو حتى غير مكتملة.
تظهر إلى الواجهة دولتان عربيتان، الصومال وسوريا، ودولة شمال اوروبية - النرويج – كمسرح أساسي لموضوع الهجرة من الوطن بحثا عن الأمل وملاذ بعيدًا عن اليأس الكامن في النفوس.
إذ يغادر " صْديق " الصومال بعد دخولها حرباً أهلية لم يكن يتوقعها، ليصل النرويج محملا بألم فقد الأب وفراق الأم وتهتك الوطن، ليبدأ حياة جديدة شديدة البرودة، وممتلئة بعدم اليقين في انتظار لمّ شمله مع زوجته سارة وأبنائهما. في أوسلو، وبينما يسعى صديق لتجاوز آلام مغادرته الصومال والعمل على بناء حياة جديدة لا يغيب عنها اليأس ولا تخلو من الأمل، تفضل زوجته سارة التشبث الذهني والروحي بالوطن البعيد متخلية عن أي محاولة للاندماج أو الاختلاط بالمجتمع الجديد أو تعلم لغة مواطنيه. بينما يبدو أولادهما أكثر حرية في الانطلاق نحو حياة تبدو أكثر استقرارا رغم بقائهم في دائرة تستجلب سياقات من الوطن المتروك عبر تواصلهم المستمر مع القادمين إلى أوسلو من الصومال واريتريا وباكستان، والمنتمين الجدد للإسلام القادمين من مساحات جغرافية متباينة. وهكذا، بشكل أو بآخر، تبدو الأسرة بأكملها في حالة من عدم اكتمال الرحلة، بدرجة أو بأخرى.
تسلط حكاية "الأختان" الضوء على إمكانية تحقيق الاندماج في الأوطان الجديدة، خاصة وأنهما تجدان في الدين بابا للانتماء في تجاوز كامل لفكرة الوطن، سواء كان الصومال أو النرويج. إذ اندمجت الفتاتان في تجمعات تحمل عناوين إسلامية ترفض الواقع الغربي، الذي يعيش فيه أبناء المهاجرين ويصفونه دوما بالواقع المتعنت والعنصري والرافض للإسلام. لاحقا تقرر الفتاتان ارتداء النقاب والسفر إلى سوريا، حيث تقام دولة الخلافة الإسلامية، تاركتان وراءهما خطاباً مليء بالحب للأبوين، والعزيمة على الهجرة من "أرض الكفر إلى أرض الإسلام الحق" في السعي للحصول على الرضا الإلهي.
هروب الأختين المفاجئ يدفع الأم سارة إلى العودة لبلادها "المسلمة"؛ لتفادي انزلاق أبنائها الثلاث المتبقيين، إسماعيل وإسحاق وجبريل، إلى مسار مماثل لما اختارته الفتاتان. أما صْديق فينطلق بقلب ملتاع إلى تركيا، ومنها إلى سوريا في رحلة بحث مضنية عن ابنتيه؛ لإقناعهما بالعودة.
هروب معاكس
بينما كانت آيان وليلى تمضيان في حياتهما في ظلال "الدولة"، وتشاركان في رفع راية الحق عبر إنجاب المزيد من الأبناء "المقاتلين"، كانت سارة المهندسة المعمارية الثلاثينية ترحل عن سوريا إلى فرنسا.
ترصد رواية "مترو حلب"، الصادرة في 2016 للكاتبة السورية مها حسن، رحلة سارة تحت عنوانين مضادين لرحلة آيان وليلى. فعلى نحو مغاير لما فعلته الأختان اللتان تركتا وراءهما أمًا ملتاعة، وقررتا الذهاب لساحة المعركة، تغادر سارة مدينة طفولتها وشبابها نحو باريس، حيث تستقر والدتها التي اعتقدت لسنين طويلة أنها خالتها.
وبين هجرة عن وطن محبوب ومدمر إلى وطن واعد باقتسام اليأس مع الأمل، تتحرك سارة ذهابا وإيابا، في داخلها، بين حلب وباريس، بين الكابوس والحلم، بين الخالة-الأم، والأم-الخالة وهي في مترو باريس الذي كثيرًا ما تظنه مترو حلب، ليتحول المترو فعليًا إلى نقطة الالتقاء بين وطنها الكامن ووطنها المعاش.
لم تجد آيان ولا ليلى نقطة الالتقاء تلك، وكذلك لم يجدها أخوهم إسماعيل الذي رفض تصرف شقيقتيه، واختار النرويج وطنا وحيدا له. يقرر إسماعيل أن لا نقطة التقاء بين ما كان وما هو كائن، فيقرر أن يعيش طالبا نرويجيا نابها في وطن يمنح الفرص حتى وإن جاءت أحيانا محفوفة بالعراقيل، ويقطع صلته بالإسلام، ويرفض استمرار التواصل مع أختيه "الداعشيتين".
مسارات الرحيل
تبدو المساحة بين حتمية مغادرة الوطن واختيار بديل مساحة شديدة التعقيد، ليس فقط في قصة صديق وابنتيه وغيرهما من أبناء المهجر في النرويج في كتاب "الأختان"، ولكن أيضًا في قصة أمينة، الوالدة الحقيقية لسارة، في رواية مترو حلب. فبينما تغادر آيان وليلى النرويج بعيدا عن سطوة مفترضة لمجتمع "كافر"، تغادر أمينة سوريا ليس خوفا من قمع الدكتاتورية السياسية للنظام البعثي السوري، ولكن هربا من قمع دكتاتورية المجتمع حيث تتشح الذكورية بعباءة تدين إسلامي مفترض.
بدوره، يرحل شموئيل، في رواية صموئيل شمعون "عراقي في باريس" الصادرة في طبعتها الأولى عام 2005، أي بعد عامين على الغزو الأمريكي، عن العراق خوفًا من قمع السياسة والمجتمع بعد اتحاد الاثنين في سنوات ما بعد إنهاء الحكم الملكي، وإقامة الحكم البعثي العراقي.
في كانون الثاني / يناير 1979 – قبل شهور من وصول صدام حسين للحكم في يوليو / تموز من العام ذاته – يقرر شموئيل، الذي يحمل على كتفيه اسما يهوديا، ويحمل في قلبه ميراثا ثقيلا لما يعانيه الآشوريين في العراق في العقود التي تلت وصول الضباط "الأشرار" إلى الحكم، مغادرة العراق في ثاني رحيل بعد أن أُجبرت أسرته مع غيرها من الأسر الآشورية على ترك الحبانية عقب شهور من وصول نظام "يوليو العراقي" إلى الحكم.
في باريس، جلس شموئيل مع صديق عربي مقيم في المدينة من ثمانينات القرن العشرين ليقول له: "العالم العربي غارق في الفقر والجهل ...الانحطاط العربي بدأ منذ أن استولى جمال عبد الناصر على السلطة في مصر، ثم بدأ آل سعود في إنشاء الجماعات الإسلامية المتطرفة لتدمير كل إنجازات الليبرالية والحداثة في العالم العربي".
يتشارك شموئيل وصديق وسارة في معاناة تبدو واحدة، ويبدو عنوانها العريض الاستبداد الذي حل بدولهم الثلاث في سنوات ما بعد التحرر من الاحتلال الكولونيالي. في الوقت نفسه، فإن حلم شموئيل هو حلم آيان وليلى، بالوصول إلى البلد الحلم، وإن اختلفت طبيعة "الحلم".
وبينما تغادر الأختان إلى سوريا ثم إلى العراق مع زوجين من داعش، يحلم شموئيل بالسفر من العراق إلى هوليوود لصناعة فيلم عن أبيه الخباز الأبكم، لكنه لم يذهب طويلا أبعد من باريس. كما أن رحلته لباريس كانت أشبه بمخاض عسير. فبعد رحلة برية طويلة إلى سوريا، وبسبب اسمه تم اعتقاله من قبل رجال مخابرات حافظ الأسد الذين اعتقدوا أنه جاسوس إسرائيلي؛ بسبب اسمه. تعرض شموئيل للتعذيب قبل أن يطلق سراحه بعد ثبوت براءته من تهمة الانتماء اليهودي-الإسرائيلي كونه غير مختون كما أبناء اليهود.
التعذيب في سوريا قصة متكررة عبر العقود، وهي تتقاطع مع مسارات عديدة. إذ يتعرض صديق للتعذيب في سوريا على يد داعش للاشتباه بكونه جاسوسا لـ "شبيحة" رجال مخابرات بشار الأسد، قبل أن يتم إطلاق سراحه. حتى سارة، في باريس، تلتقي بمن يحدثها عن جحيم التعذيب في سجون الأسد. التعذيب هو جزء من مسار الرحلة دوما في كثير من البلاد العربية، فشموئيل يتعرض للضرب في كل بلد عربي يمر به قبل أن يستقر في باريس في بداية ثمانينات القرن الماضي. وكما صديق الصومالي المهاجر إلى النرويج، فإن شموئيل العراقي – الآشوري لا يجد عملاً بسهولة في باريس. مع ذلك، تختلف رحلة صديق، الحاصل على اللجوء، عن رحلة العابر شموئيل، كما أن أوروبا في الثمانينات ليست أوروبا اليوم.
بين رحلة شموئيل في رواية "عراقي في باريس" وقصة صْديق في الكتاب الوثائقي "الأختان" ثلاثة عقود. واحدة بدأت وقائعها في العراق بالتوازي مع الحرب العراقية-الايرانية، والثانية بدأت في الصومال بالتزامن مع الحرب الأهلية. كما تتقاطع رحلات الهروب في العناوين الثلاثة في سوريا، وكأن رحلات الهجرة والبحث عن مدن الأمل وملاذ الهروب من اليأس القائم في النفوس لابد وأن تمر عبرها.
بالرغم من رحلاتهم المختلفة زمانيا ومكانيا لخلق حياة جديدة، لا يعرف شموئيل ولا صْديق ولا سارة نهاية لعذابات بلادهم التي يحملونها في نفوسهم.