يروي كتاب "دموع الصحراء" مذكرات الطبيبة الدارفورية حليمة بشير، التي توثق تجارب النساء قبل وأثناء الحرب في دارفور، خاصة عنف وقسوة ميليشيا الجنجاويد خلال حرب التطهير العرقي في مطلع الألفية. يعد الكتاب شهادة مؤلمة على الجرائم ضد الإنسانية، ويعكس صمود النساء في مواجهة العنف.
دينا عزت[1]
"وبعد أن وضعوني في السيارة أحضر أحدهم خرقة بالية وقذرة ليضعها في فمي.. بعدها وجدت نفسي في غرفة مظلمة محملة بتهديد الخاطفين وأصوات الفئران التي لم أكن أستطيع رؤيتها لشدة الظلام الحالك.... كنت أسمع أصوات الفئران وتحركت قدر ما استطعت حتى تعلم الفئران أنني حية وأن جسدي غير مستباح لهم... كنت أعلم ما أنا بصدده، كنت بصدد الاغتصاب والموت. لم أكن أمانع الموت، بل إنني تمنيت أن يأتي ليعفيني من الاغتصاب... فكرت أنه ربما يجب على أن أذهب للموت عوضا عن انتظاره... سعيت لأفك قيد معصمي حتى أتمكن من استخدم الحبال في شنق نفسي... لم أتمكن رغم الجهد الحثيث... وبعد وقت جاؤوا وبدى في أعينهم ما كانوا ينون القيام به."
هكذا تذكرت طبيبة دارفورية من قبيلة الزغاوة الإفريقية تفاصيل تعرضها لعملية اغتصاب جماعي من مجموعة من الجنجاويد في إطار الحرب التي شنتها حكومة السودان، على يد ميليشيا منظمة، للقيام بحملة تطهير عرقي لأهالي دارفور من الإثنية غير العربية لقمع ثورتهم المسلحة ضد الاضطهاد في بدايات عام ٢٠٠٣. نشرت الطبيبة مذكراتها بالإنجليزية في كتاب صدر بعنوان "دموع الصحراء" عام 2008 بالتعاون مع الصحفي الإنجليزي دميان لويس. وجاء النشر باسم حركي هو حليمة بشير "خشية على سمعة أسرتها".
وصف النقاد الكتاب أنه شهادة حية على الجرائم ضد الإنسانية، التي ارتكبت بحق السودانيين من إثنية إفريقية في دارفور. كما وُصفت حليمة بأنها آن فرانك "دارفور" أشهر ضحايا الهولوكوست.
عنف متسلسل
لم يكن اغتصاب حليمة على يد الجنجاويد هو بداية تعارفها على عنفهم، إذ سبق لها وأن قامت بمداواة قرابة ٤٠ فتاة من إحدى القبائل المقيمة في قرية جنوب دارفور بعد هجوم الجنجاويد على القرية، واستباحتهم الأرض والنساء اغتصابا وقتلا. كما أن حليمة كانت قد تعرضت للعنف منذ طفولتها، بدءا بالختان ومن ثم التمييز والتنمر والضرب من قبل طالبات ومدرسات وأساتذة الجامعة "من عرب السودان"، لكنها كانت دائما تقاوم بطرق مختلفة لإيمانها أن الوقوف في وجه الغبن هو مصيرها وقرارها.
تدرك حليمة أن ما مرت به هو بعض مما يحل بالفتيات والنساء في السودان تحديداً في قسمه "الأسود"، لكن المرأة في مذكراتها ليست فقط كائن يتعرض للعنف، بل هي أيضا وفي معظم الأحيان كائن يرفض العنف ويتمرد عليه. في سيرتها، تحكي عن جدتها التي طالما رفضت تعرض أحفادها للعنف، ووالدتها التي لم تتحمل مشاهدتها تتألم عند ختانها وتشجيعها لأخويها للانضمام إلى مجموعات المقاومة المسلحة.
حليمة نفسها تقاوم وتجتهد لتدرس الطب وتتخرج وسط مجتمع شديد الذكورية، ومن ثم تعالج متمردي دارفور رغم علمها بطبيعة المخاطرة، وتتحدث للصحافة الأجنبية عما يحدث في بلدها من انتهاكات رغم معرفتها أن ذلك سيغضب السلطات. لكن حلم الانتصار يتلاشى تحت أقدام وبنادق الجنجاويد، لتبدأ رحلة الهروب ومن ثم الوصول إلى بريطانيا حيث يقيم ابن عمها وزوجها. هناك، تبدأ رحلة أخرى طلبا للجوء وبحثا عن أفراد أسرتها الذين فرقتهم الحرب.
ورغم مضي أكثر من ١٥ عاما على إصدار "دموع الصحراء" فإن تفاصيله تعود هذه الأيام لتطل بوجهها القاسي على نساء دارفور في إطار الصراع المسلح بين اثنين من رجال العسكر في السودان اللذين كانا ضالعين بالفعل والإقرار على جرائم دارفور.
قوننة العنف ضد النساء
تقول فهيمة هاشم، النسوية السودانية الرائدة، إن بشاعة ما تتعرض له النساء في كتاب "دموع الصحراء" لا يضاهي – رغم قسوته - بشاعة قوانين كانت سائدة في البلاد تساوي بين الاغتصاب وبين الزنا. من كندا، تتابع اليوم ويلات ما يتعرض له وطنها وما تتعرض له النساء على وجه الخصوص. ورغم ثقتها بالحركة النسوية السودانية، التي تنتمي إليها، تبدي خشيتها على نساء بلدها المعرضات لأنواع مختلفة من العنف مع استمرار المعارك، حيث تقول "إن مقاومة العنف الجسدي وغيره من أنماط العنف الجندري هي واحدة من أبرز مقومات الحركة النسوية في السودان منذ نشأتها وحتى اليوم."
تتواصل فهيمة هاشم مع الحركة النسوية التي كانت في واجهة ثورة 2019 في مسعى لتقديم المشورة حول دور المقاومة النسوية أثناء الثورة، سواء من خلال تقديم الدعم للنساء أو التدريب على التعامل مع مختلف أشكال العنف بما في ذلك توثيق أدلة العنف لضمان عدم إفلات المجرمين من العقاب.
بدأت هاشم نشاطها النسوي في السودان قبل أكثر من اربع عقود، وفي نهاية التسعينات أسست حركة "سلامة" لمناصرة حقوق النساء، مستفيدة في ذلك من مشاركة السودان الرسمية في مؤتمر المرأة ببكين عام 1995. وتتذكر قائلة "أرادت الحكومة تحسين صورتها قليلا أمام المجتمع الدولي، بينما رأت الحركة النسوية التي تعمل على الأرض في ذلك فرصة للقيام بنشاطات توعوية ضد كافة أشكال العنف الذي يمكن أن تتعرض له النساء". ورغم توليها عدداً من المناصب الدولية، فإن اهتمامها الأساسي كان بالواقع على الأرض في السودان. وتؤكد أن "العنف الجسدي ضد النساء لا يقتصر إطلاقا على أوقات النزاعات المسلحة أو على عمليات بتر الأعضاء التناسلية فهناك أشكال من العنف الجسدي والجنسي ضد النساء حتى في نطاق الأسرة".
تنتمي هاشم إلى جيل الوسط في الحركة النسوية السودانية، التي بدأت في أواخر الأربعينات من القرن الماضي، لمواجهة واقع النساء القاسي. في عام 1952 تأسس الاتحاد النسائي السوداني في إشارة إلى استقرار الحركة النسوية. وكان تركيز الاتحاد على حق المرأة في العمل والانتخاب، إضافة إلى تقديم مختلف أشكال الدعم الاجتماعي فيما يتعلق بالحق في التعليم على سبيل المثال. ورغم ذلك تؤكد هاشم أن الحركة النسوية كانت جزءاً أساسيا من حركة الاستقلال الذي تحقق للسودان في الخمسينات – "ذلك رغم الذكورية الواضحة التي طغت على الحركة السياسية في ذلك الوقت"، مؤكدة أن مسار الحركة النسوية في السودان لم يكن سهلا منذ خمسينات القرن الماضي.
مع ذلك، تعتقد أن واحدة من أسوأ مراحل العنف التي تعرضت لها النساء في السودان كانت أثناء حكم جبهة الإنقاذ، التي شرعت قوانين اضطهاد النساء بما في ذلك قانون يساوي في عقوبته بين الزنا والاغتصاب وهو القانون الذي ناضلت هاشم مع غيرها من النسويات لسنوات قبل تغييره. هذا إلى جانب ما كان يقع بحق النساء من عنف بدني ممنهج خاصة في جنوب السودان ودارفور.
اختتمت فهيمة هاشم الحوار بالتأكيد على انه "تحت عنوان الجهاد كان يتم اغتصاب النساء، خاصة غير المسلمات، في جنوب السودان، من ميليشيات تابعة للنظام في مسعى لإنجاب المزيد من الأطفال المسلمين." هذا بالإضافة إلى تعرض الكثير من نساء دارفور المسلمات للاغتصاب على يد ميليشيات الجنجاويد والذي تم توثيق بعضا من وحشيته في "دموع الصحراء".
===
ترشيحات الكاتبة لقراءات ذات صلة:
الفتاة الأخيرة: تأليف : نادية مراد – دار التنوير للطباعة والنشر.
سوق السبايا: تأليف: دنيا ميخائيل - النشر: منشورات المتوسط.