تتمحور رواية "قناع بلون السماء" للكاتب والأسير الفلسطيني باسم خندقجي حول مقاومة السردية الإسرائيلية المُختلقة، وذلك بتقديم سردية فلسطينية مضادة تُعيد التأكيد على الهوية والتجذر في الأرض. تدور أحداث الرواية حول رحلة "نور"، الدليل السياحي الفلسطيني، في البحث عن تاريخ مريم المجدلية، ساعيًا إلى تفكيك الروايات التاريخية الزائفة. كما تطرح نقداً عميقًا للهوية والصراع الوجودي مع الاحتلال، وتُجسد حالة التهميش والبحث عن الحقيقة من خلال شخصيات تعيش بين الهامش والمركز.
صفاء الحطاب [1]
اعتمدت السردية القومية الإسرائيلية منذ بدء التخطيط لاحتلال فلسطين على إنكار وجود الفلسطيني، والعمل على مسح حضوره زمانيًا ومكانيًا، واعتماد سردية تبني على استمرارية تاريخية ترتبط بالأرض، وتمتد من عصور التوراة حتى تأسيس دولة إسرائيل. فوضعت أسس سرديتها التأسيسية معتمدة على أساطير ورموز تصب في مصلحة إسرائيل، وتبرهن على شرعية وجودها، وتسهم في بناء مخيال الأمة الإسرائيلية المفترضة، بأن فلسطين "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض".
وقدم المحتل سرديته انطلاقًا من المكان باعتباره فضاء دلاليًا له محمولات سياسية وتاريخية متعددة، تنطوي على شبكة معقدة من الرموز والصور التاريخية والثقافية، وحرص على بناء هوية الأفراد، بصفتهم نتاج أمة تاريخية واحدة، قائمة على واقع ديني يهودي وواقع دنيوي حداثي، يجمع السياسي المتدين والمثقف العلماني، ويقصي الآخر ويهمشه، ولا يكاد يراه، بل ويبرر العدوانية والعنف في التعامل معه.
أرضٌ وشعبٌ ورواية
وضعت الخطط منذ البداية للعمل على مماهاة هوية الأرض مع الهوية الدينية بالقوة، والتزييف المتعمد للتاريخ، وكان لا بد من آليات وأدوات لتنفيذ كل تلك المخططات الوجودية للكيان المحتل، فكان أن بدأ مكانيًا بطمس رموز التجذر والهوية الفلسطينية، وذلك بمحو آثار الحياة في القرى الفلسطينية المهجرة بالقوة والقتل والترهيب. إضافة إلى القيام بممارسة ممنهجة لزراعة أشجار حرجية في القرى الفارغة من أهلها لتغيير طبيعة المكان نهائيًا وعلى المدى الطويل، ومحو فلسطين من خلال تغيير المناظر الطبيعية، والاستيلاء على المكان وإقرار تفوق القوة، وتوظيف رمزية الشجرة لدعم الذاكرة القومية الإسرائيلية الاستيطانية.
استثمر المحتل في بناء سرديته على الحفريات الأثرية لأهداف أيديولوجية، وقام بالتنقيب والحفر في الأرض، لتقديم نفسه كمالك شرعي لها منذ آلاف السنين، وبهدف إثبات استمرارية تاريخية بين الماضي الذي تتحدث عنه التوراة وتأسيس الدولة الحديثة على الأرض الموعودة، دون أن يظهر كمحتل لأرض غيره، ولإثبات حقه في الدفاع عن النفس عالميًا عند تهميش الفلسطيني أو طرده من بيته أو قتله.
كان من المهم إنتاج خطاب أدبي لتقديم سرديته بإطار قومي أيديولوجي سياسي في بنى من الصور والأفكار والأساطير والأبطال والحبكات. وكما قال الكاتب الإسرائيلي عاموس عوز عن هذا الموضوع تحديدًا في مقابلة تلفزيونية: "إن العرب يهتمون بالصراع أكثر من اهتمامهم بالأرض".[2] لذلك ركزت مئات الأعمال الروائية الإسرائيلية على تقديم سردية مرتبطة بالأرض، تسمي كل مدن وقرى وشوارع فلسطين بأسماء جديدة، وتصور الشخصية العربية والفلسطينية بشكل خاص منفية داخل ذاتها، غائبة الملامح، وغائبة عن المكان، بلا اسم ولا صورة، بل هي شخصية وهمية أكثر من كونها حقيقية ومحسوسة.
من هنا كان لا بد من ظهور سردية عربية فلسطينية مضادة لتلك السردية أو مقاومة لها، ومفككة لأساطيرها وأبطالها وحبكاتها. فجاءت الرواية العربية معتمدة على تصوير النكبة، وعلى قصص اللاجئين والمطرودين والمنفيين والمهمشين، كوسيط شفاف يمكنه أن ينقل كينونة الفلسطيني، ويتجاوز ما هو شخصي وفردي إلى ما هو إرث وجذور مادية وإنسانية وثقافية، ليتمكن من رواية حكاية فلسطينية، نامية متطورة تعيش في أماكنها بأسمائها العربية، وتروي تفاصيل حياتها اليومية أو تاريخ وجودها. وهو ما نراه في روايات غسان كنفاني وإميل حبيبي وغيرهم.
أبدع الكاتب الفلسطيني نموذجًا جديدًا من الرواية المنطلقة من الواقع المؤلم الممتد من النكبة واحتلال فلسطين بقوة السلاح وإجرام العصابات الصهيونية، وما ترتب على ذلك من ظلم متجدد عانى منه الفلسطيني على جميع المستويات في فلسطين وفي الشتات. كما طُرحت قضية الهوية التي يعمل الاحتلال على تذويبها بمنهجية منظمة، وصراع السرديات على مستوى الأرض والإنسان، وهو ما تتناوله رواية "قناع بلون السماء."[3]
طرح باسم خندقجي السردية الأصلية المهمشة للرد على السردية الإسرائيلية المُختلقة، من منطلق فلسفي وجودي عميق وبقلم فلسطيني يقبع حاليًا في السجون الإسرائيلية محكومًا بثلاثة مؤبدات. وبنى عالمًا متكاملاً خارج أسوار السجن، ليقاوم الزمن والعزلة وليقدم هواجسه الوطنية، ببناء حبكة محكمة للرد على سرديتهم، وكتابة رواية داخل رواية، وكأنها سردية داخل سردية.
في هذه الرواية كان البطل هو "نور الفلسطيني"، وكان الرمز الذي اعتمد عليه الكاتب هو شخصية "مريم المجدلية"، والتي قدمها الكاتب الإيطالي دان بروان في روايته شيفرة دافنشي من قبل، وكأنها جزء من الثقافة الغربية فقط. أراد خندقجي أن يعيد المجدلية إلى أرضها، وأن يفند الروايات التاريخية من جديد، وأن يبحث عن أثرها في فلسطين، في رمزية إلى تصويب السردية. وانطلق للقيام بذلك من شخصية نور الدليل السياحي الذي ينطلق بحيرته وتهميشه من عمق الأرض، ليحاكم كل ما هو واقع حال من حوله من زيف وتلفيق.
يقول خندقجي،" لن أسمح لدان بروان وكل الكؤوس المقدسة التي شربت بصحة رواية "شيفرة دافنشي" أن يتطاولوا على المجدلية بترهاتهم، ويسرقوا سيرتها مني، لهذا، فإنني سأحاول إعادة قراءة قاعدة البيانات والمعلومات التي أعددتها في سبيل بحث علمي تاريخي، أثبت فشله بسبب العديد من العراقيل والتحديات، ومن أهمها: الحضور الباهت وشبه المعدوم للمجدلية في متون التاريخ الرسمي، والتاريخ المسكوت عنه أيضًا."[4]
رحلة البحث عن الهوية
تذهب بنا الرواية إلى أبعد مما هو حكائي، إلى دلالة ورؤية أدبية إبداعية وفكرية وذهنية عميقة، وتصور هواجس وطنية في أبعاد وجودية فلسفية. كما تثير سؤال الهوية، وتنبش في أعماق التاريخ، محاولة الإجابة عن أسئلة وجودية مصيرية؛ من الأصل؟ ومن الانعكاس؟ كيف يمكن أن يولد ويعيش ويموت شخص في فضاء الهامش، وآخر في فضاء المركز، من يقرر ذلك؟ وعلى ماذا يعتمد كل ذلك؟ وما الحلول التي يمكن أن تساعد في حل المعضلة؟ وما هي الفوارق والحدود بين صاحب الأرض والمحتل؟
يأخذ الكاتب والأسير خندقجي القارئ بعيدًا بعنوانه المختلف. يحمل "قناع" دلالة الاختباء والتخفي لوجه حقيقي من أمر ما لا يمكنه مواجهته لسبب ما، انعكاسًا لحالة التهميش وضعف الحضور الذي يعيشه الفلسطيني على الأرض، ثم تأتي التتمة "بلون السماء" ويأتي التحديد باللونين الأبيض والأزرق في ثنايا السرد، وكأنها رمزية لعلم دولة الاحتلال. ويوضح خندقجي خطته لبناء رواية داخل الرواية في بطاقات صوتية، يقول في واحدة منها: "يخوض الروائي سلسلة من المغامرات والأحداث، سيكون الروائي، أيضًا، فلسطينيًا من حيفا أو يافا أو الناصرة، أي من الفلسطينيين الذين صمدوا في أرضهم خلال النكبة، وبالتالي، سأجعله يستفيد من مزايا هويته الزرقاء الإسرائيلية فيما يتعلق بسهولة التجول والحركة في المواقع الأثرية المتناثرة في البلاد".
ويتكشف لنا أثناء عبور البوابة الأولى للرواية، أننا ندخل عالمًا معقدًا يعيشه الشاب نور الذي يولد من رحم المخيم لأم تموت بعد الوضع مباشرة، وأب مناضل مهاب الجانب يقبع في الأسر، لينشأ نور في كنف جدته، إلى أن يخرج والده من السجن بعد اتفاقية أوسلو، في حال آخر من الخواء والشعور بالخيبة والالتباس. ويصور لنا الكاتب هذه الحالة بإجابة الأب المختصرة والمزلزلة لمن سأله عن خطته بعد خروجه من المعتقل، بقوله متهكما بأنه "سيعمل قهوة وشاي"!
أراد الكاتب من خلال شخصية نور وصديقه المعتقل مراد، والمراسلات بينهما، والحبكة التي أحكمها حول رغبة نور بتأليف رواية يرد بها على رواية دان براون "شيفرة دافنشي" عن قصة مريم المجدلية، أن يقدم المسوغ لبحث نور المعمق عن تاريخ مريم المجدلية، والتي أرى بأنها تصور هنا عمق الهوية الفلسطينية والتجذر بالمكان بشكل ما من ناحية، ومن ناحية أخرى كانت مدخلاً لتفنيد الروايات الدينية عن المكان، وكيف أنها تختلف من نص لآخر، ولا يمكن القطع بصحة أي منها وتفضيله على النصوص الأخرى كوثيقة تاريخية. ومن جانب آخر أراد نور أن يتبع خطى المجدلية طلبًا للتحرر والتطهر، كما فعلت هي بسكب عطر الناردين المستخرج من المكان على قدمي المسيح ومسحته بشعرها.
يسعى نور "الوسيم والمهتم بالآثار" لتحقيق هدفه بالوصول إلى المواقع الأثرية المرتبطة بما يبحث عنه خدمة لروايته، مستعينًا بالهوية الزرقاء، في إشارة للسردية الإسرائيلية التي تجعل من يتبناها يعيش تحت حماية السلاح والسياسة العالمية مرتاح البال، والتي وجدها صدفة في جيب معطف اشتراه من سوق لبيع الملابس المستعملة، والتي تحمل اسم "أور شابير"، والتي ستكون قناعه وشكل من أشكال الصراع بين الحقيقي والظل حتى آخر الرواية. وقد اختار الكاتب أن يكون عمل نور "دليل سياحي" أي من يقدم السردية التاريخية عن المكان، ليتحقق الصراع بصورة جلية، ويتمكن من تقديم السردية الحقيقية وضدها للقارئ، مشيرًا إلى أهمية من يروي الحكاية، وما النتائج المترتبة على ذلك.
يعكس الكاتب علاقته بالمكان في ظل هذا الضياع والبحث عن الحقيقة من خلال تصنيفه للأمكنة، القدس عنده هي الحقيقة المتجددة، والقادرة على تشييد بيوتها بعد كل خراب، رام الله هي القناع والمدينة المصطنعة وليست الحقيقة، المخيم على ما فيه من ظلم وتعب وظروف قاهرة إلا أنه الرحم الذي يوفر الحماية عند اللزوم.
في رحلة البحث التي يخوضها نور يربط الكاتب بشكل ما بين فكرة "الغنوصية" في المسيحية وفكرة "الصوفية" في الإسلام، وبحثه عن اللمسة الإلهية النورانية، التي تلامس الحقيقة، والتي تقدر الروح، ويمكنها معالجة النقص البشري والتعامل معه، وكأنها مقترح لراحة الروح المتعبة في مرحلة ما، وأنه يريد أن يتجلى إلى إنسان من نور، يمكنه أن يولد من جديد، وقد نجح في مطابقة اسمه "نور" مع ترجمة "أور شابير" بمعنى النور، والنور المتحقق لأتباع الصوفية الروحية والغنوصية المسيحية.
خاتمة
في نهاية الرواية يشير الكاتب إلى المقاومة المسلحة على الأرض، ودورها في إيقاف المخططات الاستعمارية للمكان، وتسليط الضوء على إمكانية محاكمة كل ما هو واقع على الأرض من تزييف، إذ توقفت بعثة الآثار التي يشارك فيها إلى جانب الباحثة سما إسماعيل بسبب سقوط صواريخ المقاومة الفلسطينية على مدينة القدس، لتمنع مسيرة الأعلام الإسرائيلية والتي سينفذها مجموعة من المستوطنين، قائلاً:
"أعضاء بعثتنا الأعزاء...
يؤسفنا إعلامكم بتلقينا إخطارًا من الجبهة الداخلية الإسرائيلية، تم إبلاغنا فيه بوقف العمل في موقع حفرية الفيلق السادس... وذلك بسبب الأوضاع الأمنية المتوترة، وإمكانية إطلاق المزيد من الصواريخ التي قد يصل مداها إلى محيط "كيبوتسات مجلس يزراعيل الإقليمي، وبناء عليه، قررت إدارة ومعهد أولبرايت وسلطة الآثار الإسرائيلية تعليق العمل بموسم التنقيب حتى إشعار آخر". [5]
عبر خندقجي عن قلق الفلسطيني من الضياع والتيه في دوائر الصراع الممتدة منذ عام 1948، قائلاً "شعرت أن هذه الهوية ذات غواية تدفعني نحو الاتحاد بها وعدم التنازل عنها، كنت أشعر بتشبثها بي"،[6] ليعود ويستمد نور القوة من صديقه مراد القابع في السجن والذي يحاول إصلاح ومعالجة الواقع بمواجهته، بالانطلاق من الواقع نفسه، بعكس نور الذي يريد أن ينطلق من التاريخ ليحاكم الماضي وصولاً إلى الواقع، ويلتقي الاثنان في نقطة واحدة لمواجهة المحتل. ويتعرف نور إلى الشخصية العملية المتحققة على الأرض دون قناع الباحثة سما إسماعيل، الفلسطينية التي تحمل هوية الاحتلال بالولادة في الأرض المحتلة عام 1948، والتي تضع هذا التاريخ كوشم على ذراعها وتقاوم بكل طاقتها لتقديم السردية التاريخية الحقيقية، ليجد أنها هي مريم المجدلية بشكل ما، التي يتحقق فيها كل ما كان يبحث عنه، المعرفة والإيمان بالحق، والجرأة والوضوح، ومجابهة السرديات الكاذبة بسردية قائمة على الأدلة التاريخية والأثرية بحكم عملها كباحثة آثار، والتي يمكنه معها أن ينزع قناعه، ويتحرر من قيوده، ويتحقق كصاحب أرض يسعى لتحريرها.
وقد يكون لما كتبه خندقجي وسبره لأغوار الفرد الفلسطيني، الواقع تحت الاحتلال، أهمية بالغة في هذه المرحلة التاريخية المهمة والفاصلة في ظل ما يجري حاليًا في غزة منذ "طوفان الأقصى" والمقاومة الفلسطينية المؤمنة بحقها والمضحية من أجل استعادة فلسطين، وما يقابله من إبادة للفلسطيني على يد الصهاينة، استكمالاً لما جرى من إجرام عام 1948. هي لحظة تاريخية وجهت أنظار العالم كله نحو فلسطين، وطرحت كل السرديات الإسرائيلية لمحاكمة الأحرار في العالم، وأعادت قضية فلسطين إلى الواجهة، وباتت شعوب الدول الغربية وطلاب جامعاتها يهتفون باسم "تحرير فلسطين من النهر إلى البحر"، ويضعون سردية إسرائيل بعد كل هذه السنوات العجاف على فلسطين وأهلها تحت مطرقة الحق والعدالة.