يقدم كتاب "ما تقدمه فلسطين للعالم" رؤية متعددة الأبعاد للقضية الفلسطينية، متجاوزًا الخطاب الإعلامي التقليدي. بإشراف كريستوف عياد، يجمع الكتاب مقالات قصيرة تستكشف التاريخ، والسياسة، والثقافة، مسلطًا الضوء على فلسطين كقضية حية تتجاوز الصراع السياسي.
ساندرين جامبلن[1]
عندما تلقيت عرضا للكتابة من فريق تحرير "الصالون"، كنت قد علمت لتوي بصدور كتاب "ما تقدمه فلسطين للعالم"، الصادرِ حديثاً باللغة الفرنسية ضمن السلسلة الدورية "عربوراما" عن معهد العالم العربي بباريس بالاشتراك مع دار النشر الفرنسية "سُويْ" (Seuil).
ولكوني أعيش في القاهرة، فقد كان من البديهي أن أفكر في عرض هذا الكتاب لجمهورٍ يتحدث العربية، خاصة مع قلة المهتمين بفلسطين والفلسطينيين في فرنسا، ولكون الكتاب صادرًا عن مؤسسة ثقافية-دبلوماسية كمعهد العالم العربي.[2]
يبدو عنوان الكتاب مثيرًا للاهتمام، إذ يطرح سؤالًا قد يراه البعض ساخرًا أو سافرًا، خاصةً أنه يأتي في وقتٍ اختفت فيه أخبار فلسطين عن عناوين الصحف. فمَن تُراه يخاطب هذا الكتاب إن لم يكن أولئك القلائل الذين يبحثون عن الأخبار، من مصادر عربية في الغالب، الآتيةِ من غزة ومن الأراضي الفلسطينية المحتلة؟ وماذا يمكن أن تقول الأخبار بعد أن قُتلت "القضية الفلسطينية" بحثا؟ تلك هي الأسئلة التي دارت في رأسي وأنا أفكر في عنوان الكتاب بصيغته التي تحتمل التساؤل أو الإقرار. هل اختيار هذا العنوان، لمثل هذا الكتاب المبهر من حيث الحجم والقطع، ينم عن قدر من الشجاعة أو من حسن النية؟
تحت إشراف كريستوف عياد، كبير مراسلي جريدة "لوموند" والخبيرِ بشؤون المنطقة، كتبت مجموعة تضم صحافيين وكُتابًا وشعراء ومؤرخين وفنانين، عربًا وأوروبيين، عن التاريخ (المقسم)، وعن الدولة (أحادية أو ثنائية القومية)، وعن الشعوب (الحقيقية)، وعن الحفريات (الوهمية)، وعن الآفاق (المسلوبة)، وعن الحيوات (الممزقة)، وعن المنفى (بطبيعة الحال)، وعن التضامن (المتعولم)، وعن الضمائر (التائهة)، وعن الأصوليات (المشتركة)، وعن الحراك (المتجمد)، وعن المواطنة (المبتسرة)، وعن الإبداع (المتجدد) ... وعن أشياءٍ أخرى كثيرة.
يأتي الكتاب من منطلق إيجابي، وهو إخراج الفلسطينيين والفلسطينيات من التعتيم المفروض عليهم من قبل الإعلام العالمي، حيث إننا لا نتكلم عن الفلسطينيين إلا عندما يُسمع أزيز الرصاص. وهو هدف غريب على السياق السياسي العام، حيث لم نعد نسمع عن مبادراتٍ للسلام، حتى تلك التي كانت تُطوى بمجرد وضعها على مائدة التفاوض. وهذا لأن محاولات التضامن مع الفلسطينيين[3] من خارج العالم العربي-الإسلامي (أي ما نسميه: الغرب) لا تلبث أن يتم وصمها وفقًا لخطاب سطحي، أناركي. فالبعض يعتبر أن الدفاع عن الحق الفلسطيني في دولة، أو في العودة، أو في حياة كريمة، أو حتى في ارتداء الكوفية في شوارع باريس... هو من قبيل العداء لإسرائيل، والصهيونية، وبالتالي معاداة للسامية.
في فرنسا على وجه الخصوص يشتعل الأمر سريعًا حتى يصل إلى قمة الدولة. فعلى سبيل المثال، في يوليو عام 2017، أثناء إحياء الذكرى الخامسة والسبعين لحملة فال ديف،[4] صرح إيمانويل ماكرون الذي كان قد فاز لتوه على منافسته في الانتخابات الرئاسية مارين لوبن، زعيمةِ حزب اليمين المتطرف العنصري، -صرح لعزيزه "بيبي" (بنيامين نتانياهو) الذي كان بجواره: "إننا لن نستسلم قيد أنملة لمعاداة الصهيونية، فهي الصورة الجديدة لمعاداة السامية."[5] وهو ما يفسر حديثي أعلاه عن "الشجاعة".
يبدو لي الكتاب كتحفة فنية من حيث ورقه الدافئ (300 ورقة) وحجمه اللافت للنظر (طوله 26 سنتيمترًا وعرضه 20 سنتيمترًا) وهو القَطع المخصص عادةً للكتب الفنية المصورة، ومع عنوانه المثير للفضول تبدأ رحلة ممتعة في قراءته. مع ذلك، جاء تبويب الفصول تقليديا. فالقارئ لا يتوه بفضل ذلك الخيط الرفيع والمتين الذي يجمع كُتَّاب العمل. كما يمكننا التَّجوال بين مقالاته القصيرة (التي تتراوح بين 3 و4 صفحات) والمجمعة تحت ثلاثة عناوين عريضة (الوطن/القضية السياسية/ نفحات ثقافية)، بالإضافة إلى مجموعة من الصور الملونة والرسومات الكاريكاتورية المطبوعة على الورق المصقول والتي تفاجيء القارئ بين صفحة وأخرى، كذلك بعضُ القصائد المترجمة عن العربية بحروفها الأنيقة وخطها الآسر.
يقدم الكتاب ما يشبه "كشف الحساب" للقضية الفلسطينية من زوايا ومناهجَ متعددة مما يتيح للقارئ –العاديِّ والمتخصص على السواء- رؤيةً شاملة ومتكاملة مواكبة لأحدث التطورات. وعلى حد قول إلياس صَنبَر[6] فإننا نجد في هذا الكتاب مقدار "الزفت" الذي يحيط بالمجتمع الفلسطيني والمتمثل في الاحتلال، واللجوء أو الانعزال، وفي المؤسسات الفلسطينية نفسها.[7]
لوحة "ثورة"، تعود لسنة 1968، استوحاها الرسام المصري حامد عبد الله (1917-1985) من معارك مخيم الكرامة. استخدم فيها الأكريليك وتقنيات أخرى على القماش. أهدتها كيرستن حامد عبد الله إلى المتحف القومي الفلسطيني للفن الحديث والمعاصر، وتعرض في معهد العالم العربي حتى 1 أكتوبر 2023.
مع ذلك، تظل معتمةً تلك الصورة الدقيقة التي يرسمها الكتاب، مشفوعةً بالحجج والوثائق، غيرَ واعدةٍ بمستقبل أفضل للفلسطينيين والفلسطينيات. وعندما تطوي صفحته الأخيرة، يترك الكتاب في فمك طعمًا من الحلاوة الممزوجة بالمرارة، وهو ما يحيل إلى عنوان مقاله الأخير "الوعد"، حيث يمثل الوعد هنا فخًا يتمنى القارئ لو وقع فيه حتى يتسنى له مواصلة الأمل. وهذا هو التحدي الذي نجح فيه هذا الكتاب.
أخيرًا، ينجح الجزء الثالث والأخير من الكتاب والمخصصُ للإبداع الفني بشتى صوره (من الفن التشكيلي إلى الموسيقى مرورًا بالأدب والشعر) في إثارة فضول القارئ دون أن يصل به إلى درجة الإشباع. ذلك لأن الكتاب يأخذنا إلى ما هو أبعد من ضفتيه. فهناك على الهامش، لمن تسعده فرصة التواجد في باريس، عدة فعاليات ثقافية ينظمها معهد العالم العربي في الفترة ما بين 31 مايو و19 نوفمبر 2023،[8] حيث تفتح باريس ذراعيها لفلسطين اللاجئة ولمناصريها.
مشروع كهذا، متعددُ الأوجه والوسائط، يستدعي حشدا غير مسبوق ومبادراتٍ طويلةَ الأمد. على سبيل المثال، يستضيف معهد العالم العربي مشروع "متحف فلسطين للفن الحديث والمعاصر"،[9] وهي الفكرة التي بدأت بمبادرة من إلياس صنبر والتي تولى الإشراف عليها إرنست بينيون إرنست.[10] هناك حوالي مئةُ عملٍ فنيٍ مهداةٌ من فنانين من مختلِف المشارب تمثل نواةً لهذا المُتحف.
كذلك، في إطار تلك الفعاليات "التضامنية" يتم عرض بعض الأعمال غير المنشورة للكاتب الفرنسي جان جينيه، ومجموعات من الصور القديمة والحديثة ضمن 400 قطعة من المعروضات تمثل ثراء الثقافة الفلسطينية وإبداعات الفلسطينيين والفلسطينيات.
الإجابة على عنوان الكتاب قد يراها البعض كمنظومة فكرية، وقد يراها آخرون كإلهام أو كقضية، أو ربما هناك من يرى مثل جان جينيه أن الفلسطينيين قد ساعدوه على الحياة .[11]
"ما تقدمه فلسطين للعالم"، أو ماذا قدم هذا الكتاب للقارئ، هو في النهاية رؤية إنسانية مفادها أن فلسطين ما زالت حية في تنوعها وفي اختلافها، بما يسمو فوق أي صراع أو أيديولوجية.