يبحث محمد أبو القاسم حاج حمد في كتابه "السودان: المأزق التاريخي وآفاق المستقبل" في الهوية السودانية وتأثير الأزمات السياسية المتتالية على مستقبل البلاد وأبنائها.
حسان الناصر[1]
يعد محمد أبو القاسم حاج حمد (1942- 2004) من أهم المفكرين السودانيين خلال القرن العشرين، ليس فقط بسبب سيرته السياسية التي تمتاز بالعمل السياسي في إريتريا ولبنان، ودول القرن الأفريقي، ولكن أيضًا بتأثيره الأكاديمي. فأبو القاسم، صاحب الأكثر من 50 مؤلفًا في العلوم الاجتماعية والسياسية، لم يدرس المرحلة الجامعية. وكل ما أنتجه من إسهامات وإدارة لمراكز بحثية جاء نتيجة لعمله العصامي طوال مسيرته، ولذلك اعتبره البعض فيلسوف السودان. يركز أبو القاسم في معظم أعماله على التاريخ والمجتمع السوداني، ولكن الذي يميز إنتاجه الفكري هو اهتمامه بالإسلام ومحاولته الإجابة عن مسألة عالميته، وظلت هذه الثيمة الأهم في حضوره السوداني حتى فترة قريبة. ويأتي كتابه "منهجية القرآن المعرفية" ومن ثم "منهجية القرآن المعرفية: أسلمة فلسفة العلوم الطبيعية والإنسانية" كمثال على ذلك. وأيضاً يناقش حاج حمد المسألة الإسلامية على مستوياتها السياسية، كما في كتابه "الحاكمية".
لحاج حمد مجموعة من الأوراق البحثية المرتبطة بالقرن الأفريقي نتيجة لمشاركته في الثورة الأريترية (1961-1991) حيث كان يقوم بتهريب السلاح إلى قوات الجبهة الشعبية، ومن ثم عبر علاقته بالرئيس الإريتري أسياس أفورقي أصبح مستشارًا دبلوماسيًا. لم يستقر أبو القاسم في السودان بل انتقل إلى دمشق، ومن ثم إلى لبنان حيث أمضى فيها سنوات الحرب الأهلية دون أن يغادرها.
كان لأبو قاسم دور حيوي في أزمة الجنوب، حيث عمل على وضع استراتيجيات والكتابة حول منهجيات الأزمة وضرورة إنهائها عبر مسارات تفاوضية تمنع مسألة الانفصال. وقد تنبأ أبو القاسم أيضًا بأزمة دارفور التي تورط فيها النظام وكانت سببًا في دمار الإقليم. ووجه أبو القاسم نقده للنظام حينها. توفي أبو القاسم في عام 2004، تاركاً خلفه أهم المدونات التاريخية حول السياق السوداني والتي لا تزال راهنة في التحليل السياسي والاجتماعي.
في راهنية حاج حمد
أولاً، قبل أن أطرح بين يدي القارئ مراجعة المجلد الأول من مخطوطة أبو القاسم حاج حمد "السودان والمأزق التاريخي وآفاق المستقبل"، أود أن أرسم مسرحًا في راهنية الكتاب. والسبب يعود إلى إعادة تعريف الحرب الحالية التي انطلقت في الرابع عشر من أبريل 2023. وتكمن الراهنية في مزج أبو القاسم بين التاريخ الاجتماعي للمجموعات وبين التفاعل السياسي بينها، ومن ثم محاولة تفسير علاقة الحروب مع وضعية الدولة. لم يكتف أبو القاسم بهذا التمرين المعرفي، بل حاول أن يقوم بوضع أطر للحل من خلال التفكير في الخروج من المأزق، وهو ما جعله يعيد طباعة الكتاب ويقوم بإصداره في مجلدين. الأول يقدم مفاكرة للتاريخ السياسي للسودان قبل الاستقلال (1956)، والمجلد الثاني يطرح فيه أبو القاسم رؤيته حول سُبل الخروج من المأزق التاريخي.
يعزى السبب الثاني إلى وجود تعريف سياسي للحرب الحالية من خلال علاقات القوى وصراعها حول السلطة، وهو ما كان دائمًا عائقًا أمام إيجاد حلول وقد عالجه أبو القاسم من خلال تحليل التركيب السياسي للأزمات وعلاقتها مع موقع السوداني الجيوسياسي، وفحص تاريخ الدولة وذاكرتها الاجتماعية.
السودان: المأزق التاريخي
صدرت الطبعة الأولى في عام 1980، إلا أنه بعد مرور 16 عامًا من صدورها (أي في عام 1996)، قام أبو القاسم بإعادة طباعتها. وفي مقدمة الطبعة الثانية، يقول أبو القاسم إنه قرر تنقيح المخطوطة وإضافة الأحداث التي جرت خلال هذه الفترة (1980 – 1995)، خصوصًا وأن هذه المدة شهدت انهيار نظام الرئيس جعفر نميري جراء نشوب انتفاضة (أبريل 1985)، وتبعها مرحلة الديمقراطية الثانية (1985-1989)، وسرعان ما حدث انقلاب الإنقاذ في 30 يونيو 1989. وجاءت الطبعة الثانية في مجلدين يكمل أحدهما الآخر، ويعد المؤلف الأكثر قراءة في إنتاج أبو القاسم نسبة لوضعه إطارًا عامًا لفكرة المنهجية التاريخية في تناول الأحداث السياسية بعيدًا عن المنهجية الأكاديمية في السودان والتي تستند إلى وضعية استعمارية في وعيها بتاريخ السودان.
وقد نجح أبو القاسم في تركيب منهجية تاريخية نقدية لا تجعل من التاريخ مجرد "جرح"، بل إلى تاريخ نقدي وتركيب فلسفي، حسب مفهوم نيتشه للتاريخ. الميزة التي اختص بها مؤلف أبو القاسم أيضًا هي كثرة الوثائق التاريخية التي استخدمها في نقاشه لتاريخ السودان، إلى جانب قيامه بتقديم الاقتباسات والاستعانة بها في مراجعته، بحيث يحول الوثيقة إلى سياق يقوم فيه بإعادة إنتاجها ضمن القراءة المعرفية للتاريخ. قد يجد القارئ أن اقتباسات أبو القاسم طويلة بعض الشيء، مقارنة ببقية الكتّاب، على الرغم من أنه يتميز بالقدرة على دمج أفكار الكتاب الآخرين ضمن سياق النص.
يقدم أبو القاسم مفهوم التاريخ ضمن سياق مأزقه في محاولة لبناء فكرة التاريخ من موقع الفاعل الذي يحاول أن يبني شرط الفعل، ومن ثم مناقشة النظرية السياسية الكلية للأحزاب السياسية وللمجتمع. لذلك، بدأ أبو القاسم بفكرة "جدلية التركيب"؛ فهو يقوم بتركيب التاريخ من بنائه الاجتماعي، وهذه الميزة ظهرت في المجلد الأول بشكل أوضح من الثاني. السبب في ذلك أن المجلد الأول ما هو إلا محاولة لدراسة التاريخ من الراهن الذي عاشه ويعيشه. وهو ما يجعل المأزق التاريخي كأنه عملية جرد حساب بينه وبين النخبة السياسية والاجتماعية في السودان.
ينقسم مؤلف أبو القاسم "السودان: المأزق التاريخي وآفاق المستقبل" إلى مجلدين. المجلد الأول، يناقش أبو القاسم في تسعة فصول سياق السودان وطبيعة التركيب الاجتماعي العام للسودان من ناحية اجتماعية، بالإضافة إلى علاقاته التاريخية والاقتصادية مع جواره. يتجه أبو القاسم في هذا المجلد إلى توضيح العناوين وفقًا لقراءته، دون وضع تاريخ معين للفترات التي يقوم بدراستها، إلا في مناسبات معينة. ما يدل على أن أبو القاسم لا يدرس التاريخ كفترات وحقب، بل وفقًا للظواهر والأحداث الاجتماعية. ينتهي أبو القاسم في مجلده الأول في لحظة الاستقلال، ويعلل أبو القاسم لحظة الاستقلال أنها اللحظة الوطنية التي يبدأ منها التفاعل الوطني بين الدولة والمجتمع، وممارسة النخبة الوطنية مع الحكم. وربما تكون هذه اللحظة، عند أبو القاسم، قد تكشفت قبل ذلك بسبب صعود النخبة الوطنية لإدارة الدولة والتي جاءت في الأدبيات السياسية تحت اسم "سودنة الوظائف".
آفاق المستقبل
ينفي أبو القاسم أن يكون مؤلفه هذا لغرض أكاديمي أو تأريخي، وإنما هو محاولة للخروج من المأزق التاريخي. لذلك جاءت "جدلية التركيب"، كما يشير في المقدمة، كمنهجية لفهم الحالة التي نشأ فيها المأزق وكيفية التخلص منه. وفي ذلك يقول أبو القاسم: "إن أي معرفة لا تقود إلى التطلع إلى المستقبل والخروج من المأزق هي معرفة كبيرة بلا عقل".[2] ويظهر هذا أيضًا في أن أبو القاسم يركز على السودان بجانب أسئلة فلسفية أخرى، حيث يشير إلى أن الكتاب صدر في أثناء صدور مؤلفاته (العالمية الإسلامية الثانية – جدلية الغيب و الإنسان و الطبيعة). قدر لأبو القاسم أن تكون "آفاق المستقبل" هي محاولة لأن تتحول إلى موسوعة للباحث حول سياق السودان من أجل أن يشمل جُل ما أنتج عن السودان سواء داخله أو خارجه. كما يهدف أبو القاسم من مجلده إلى بناء قاعدة وثائق للباحثين من أجل الاستفادة من إنتاجه في مشاريعهم البحثية عن السودان.
تعكس هذه المنهجية في التفكير قراءة أبو القاسم لتاريخ السودان، باعتباره فاعلاً ضمن سياقه. فهو ليس باحثًا منفصلاً أو قارئًا يتخذ موقفًا مجردًا عن السياق الاجتماعي والواقع السياسي والاقتصادي. لذلك يمكن القول بأن أبو القاسم يكتب من منطلق نحت المفهوم ومن ثم قياسه على الفاعلية السياسية ومدى جدوى المفاهيم في تركيب السياق وجدليته.
جدلية التركيب
في الفصل الأول من الكتاب وحتى الفصل الثالث، يضع أبو القاسم تأسيسه للتاريخ. يشرح فيه خصائص الجغرافيا للسودان، ويبين الارتباط بين الجغرافيا المكانية وخصائصها والطبيعة الاجتماعية. هنا يحاول أن يضع القارئ، وبالتحديد القارئ السوداني، كفاعل في شروطه الاجتماعية، حيث تبنى الفاعلية على شروط واقعية يحاول أبو القاسم أن يلقيها على بصر القارئ. كما يؤرخ لممالك السودان في عصره القديم والوسيط، ومن ثم يتناول الهجرات العربية وشكل التفاعل بين الجغرافيا والهجرات.
ينتقل أبو القاسم بعد ذلك إلى مسألة الحداثة، أو ما يعرفه المؤرخين السودانيين بـ"السودان الحديث"، والذي تم تأريخه مع دخول محمد علي باشا للسودان عبر حملة الغزو الخديوية (1821). ومن ثم يحاول أبو القاسم أن ينتقل من فكرة الحداثة إلى مسألة المركزية باعتبارها سمة مرادفة للحداثة. ومن ثم يتجه إلى فهم السودان ضمن السياق المتوسطي، وهو ما يمكن اعتباره نزعة لدى أبو القاسم. فهو لا يضع السودان ضمن سياق شرق أو وسط أفريقي، بل ضمن سياق المتوسط.
لا يبتعد أبو القاسم عن الأحداث الداخلية بين المجموعات القبلية وعلاقتها مع حكم الدولة المهدية التي جاءت بعد هزيمة الخديوية (1885-1898). يتعرض في طرحه إلى هذه الأحداث ولكنه لم يكن مشغولاً بها في بحثه. فمن الملاحظ أنه قد خصص الفصلين الأول والثاني والثالث، والتي تقع في 150 صفحة فقط، لتاريخ السودان ما قبل الاستعمار البريطاني، وهي الفترة التي بدأت منذ الممالك الكوشية وحتى دخول اللورد كتشنر عبر حملة الغزو. ثم يخصص الستة فصول المتبقية لتاريخ السودان الحديث (1898- 1956). يرى أبو القاسم في هذا التاريخ، الذي بدأ مع بريطانيا، تشكيل مختلف للسودان في أبعاده السياسية والاجتماعية، وأن وحدة كلية جديدة قد تشكلت آنذاك. وهذه أطروحة مفارقة عند أبو القاسم يتميز بها عن رواد جيله. فيرى البعض أن العودة إلى الممالك الإسلامية لفهم التاريخ هي ضرورة، فيما يرى الآخرين أن الحضارات المسيحية أيضًا هي لحظة فارقة، والاتجاه الأبعد هو مسألة الممالك الكوشية القديمة. لذلك، تُعتبر أطروحة أبو القاسم، التي خرجت لأول مرة في عام 1980 بالغة الأهمية.
الدولة والمجتمع
ينعكس مصطلح الدولة عند أبو القاسم حاج حمد في أشكال التعاقد الاجتماعي بين المكونات الاجتماعية وعلاقاتها التي تندرج ضمن المكونات الاجتماعية. لذا، يرى أن هذا التمثيل يكتنف بعض الإشكاليات المتعلقة بالطائفة كوسيط للمجتمع وكعنصر متداخل مع التركة الاستعمارية. حيث يشير أبو القاسم إلى أن الطائفة قد استفادت من الاستعمار حيث عملت كوسيط ينوب عن المجتمع ومصالحه، ولذلك نراه يتفق مع معاوية نور في نقده للقوة الطائفية، بل كان هذا الأمر دافعًا له نحو التنظيم السياسي، الذي يرى فيه أنه خرج عن إطار الطائفة.
يتعامل أبو القاسم مع المجتمع وفقًا للواقع الاجتماعي الذي عاشه، والذي قد لا يجد القارئ السياسي للسودان أي اختلاف بين ماضيه وحاضره في المشاكل الأساسية. فالحروب والنزوح والفقر والأمية والأمراض ظلت هي المساحة التي يعيش فيها المجتمع. كما ينتقد أبو القاسم ركون نخبته إلى الخيارات السلطوية بعيداً عن الديمقراطية، ويشدد على ضرورة أن يكون لها دور اجتماعي في نهضته، ولكنه لا يحملها، أي النخبة، مأساة الواقع كما يفعل رصفاءه حينها من المفكرين من أبناء جيله.
يرى أبو القاسم، وفقًا لهذه الجدلية، أن السودان ككيان لم يساهم السودانيون في تشكيله. فيقول: "فالسودانيون لم يسهموا في صناعة (الوطن) أو (الكيان الجغرافي- السياسي) للسودان المعاصر، وإنما صُنع في مصر وفقًا لتوجهاتها الجيوبوليتيكية. فوجد (وسط) السودان نفسه، تحت الإدارة المركزية الخديوية، في دائرة التفاعل مع الشرق (البجاوي) والغرب (الفوراوي) والجنوب (النيلي). وقد استمر هذا التفاعل إيجابيًا حين تُفعّل القواسم المشتركة، دينًا وصوفية، مع الفور والبجا، وحين تُفعّل سلبيًا مع الجنوب. ولا ينفي ذلك نسبية التفاعلات التاريخية والثقافية، ولكنها لم تشكل إطارًا وحدويًا جامعًا.
مثلما أسست مصر الكيان والوطن السوداني المعاصر، أسست بريطانيا مشاريع الري الحديثة والاقتصاد الحديث بالكيفية التي أشرنا إليها. فالشماليون لم يصنعوا جغرافية السودان السياسية بهذا الاتساع البالغ مليون ميل مربع، وبما يتجاوز جغرافيتهم المحدودة في الوسط والشمال، وإنما صنعتها مصر وحافظت عليها بقوة تتكافأ مع إمكانياتها العسكرية والإدارية القهرية. ثم ورث الشماليون ذلك وهم أضعف من قدرات مصر. وكذلك لم يصنعوا اقتصاد السودان الحديث الذي صنعته بريطانيا، وإنما ورثوه وهم أضعف من بريطانيا تقنيًا وإداريًا. فإذا كان الشماليون قد صعدوا إلى سدة السلطة والمراكز العليا بحكم الأمر الواقع بوصفهم قاعدة القوى الاجتماعية الحديثة التي تأهلت بحكم المصالح الاستثمارية الاستعمارية، فإنهم لا يملكون قدرات بريطانيا وقدرات مصر". لذلك، نجد أن للفاعل الخارجي "الاستعمار" دورًا في سياق السودان وتشكيل الدولة وفهم المجتمع للدولة أيضًا.
الفاعل الخارجي "الاستعمار"
لا يشير أبو القاسم، ضمن مفاهيميه السياسية، إلى مصطلح "الفاعل الخارجي"، ولكنه يحاول أن يقدم من خلال شرحه عن سياقات الاستعمار والأوضاع الداخلية أثر الفاعل الخارجي على السياق السودان. فهو يرى الاستعمار ضمن هذا النطاق، إذ تختلف التركيبة الاستعمارية البريطانية في السودان عن بقية المستعمرات التي احتلتها بريطانيا. يرجع السبب في ذلك إلى الدور الذي حاولت بريطانيا أن تؤديه تجاه السودان. فكان حكم السودان عبر النظام البريطاني في النظم الإدارية والقانونية، إلا أنها أشركت مصر كوسيط في دعائم هذا النظام. لذلك، يحاول أبو القاسم أن يدرك الدور البريطاني باعتباره فاعلاً أساسيًا، ومن ثم يقوم بتفسير العلاقة بين مصر وبريطانيا، وكيف ينظر السودانيون إلى تأثير مصر على سياقهم. من هنا لا يفصل أبو القاسم السودان عن وضعيته السياسية ويفسر في ذات اللحظة الوضعية الاجتماعية للنخبة الحديثة.
لا يسقط حاج حمد في الثنائيات التي أرست الأدبيات الاستعمارية الحديثة مفاهيمها ضمن المدونة السياسية والاجتماعية، وإنما يقوم بتفكيك العلاقات في مستوياتها المختلفة. فهو أولا يقوم بتفسير الوحدة التي يقوم بالتحليل من خلالها، ومن ثم يفهم مستويات السلطة والعلاقات التي تقوم على أساسها المصالح السياسية والاجتماعية.
جدل المثقف والسلطة
فسر أبو القاسم حاج حمد نشأة النخبة الحديثة في السودان بين جدليات مختلفة على أساسها قدم إشكالية/ محنة المثقف الحداثي في السودان. يرى أبو القاسم أن المثقف في السودان مرتبط مع البنية التعليمية الحديثة، إلا أن هناك مثقفين قد نشأ تأثيرهم خارج هذه المؤسسات، وهم الذين نتجوا من الوعي السياسي بالشروط التي مرت بها النخبة الوطنية. والتي لها علاقة مع الفكرة "القومية" المؤسسة للحركة الوطنية. إلا أن أبو القاسم أيضًا ينتقد المثقف السوداني من خلال تمظهرات للممارسة السياسية ومن ثم علاقته مع المجتمع. وفي ظل توجهات المجتمع نحو شروط السلطة، من خلال التحالف الطائفي وتمليك الأراضي من قبل سلطة الاستعمار ما قدم لهذه التحالفات نفوذًا واسعًا، إضافة إلى تقريب الزعامات الطائفية والعمل على إبعاد المثقفين. أدى ذلك إلى انعكاس هذه الظاهرة بشكل متناقض على تقارب المثقفين من الفئات العمالية والفلاحين.
شكلت هذه الوضعية مأزقًا ساهم في ظهور ثلاث إشكاليات، الأولى: انقطاع التواصل الفكري والانفتاح على العالم، ما أدى إلى إجهاض دور النظرية في الممارسة. الثانية: الانقطاع ما بين المثقف والقوى الاجتماعية الحديثة من الفئات الشعبية الصاعدة، ما أجهض التحالف الجنيني بين القوى الاجتماعية ذات التوجه الديمقراطي والمثقف، واستُبدل بتحالف السلطة والمثقف. الثالثة: العناصر السلبية التي نمت في تكوين المثقف السوداني، فمن خلال الابتعاد عن النظرية وإجهاض التحالفات الشعبية تحولت هذه الحركة إلى بناء طائفي في زي غربي حديث فاقد القدرة والتحدي.[3]
خاتمة مفتوحة
يعد الجزء الأول من كتاب محمد أبو القاسم حاج حمد تأسيسيًا، من ناحية المدونة السياسية فيما يتعلق بالسودان، ومن ناحية المفاهيم السياسية الاجتماعية، وأيضًا نظرته تجاه الممارسة السياسية التاريخية ونقدها عند النخبة. بجانب ذلك، يبحث أبو القاسم في تأثير السودان، بين حاضره وتاريخه، وكيف يتراوح بين هذا الإرث المبعثر والمأزق التاريخي، وكيف يمكن تجاوزه في سبيل العبور إلى المستقبل. من الضرورة أن يفهم القارئ رؤية أبو القاسم من خلال المجلدين مكتملين، فأحيانًا لا يكمل أبو القاسم توضيح المفهوم إلا في الجزء الثاني، كما هو الحال في مفهوم الجيل على سبيل المثال، الذي أسس له من خلال مفهوم المثقف، ومن ثم أكمله في أول فصول المجلد الثاني، والذي جاء تحت مفهوم "الجيل المنهك".
_________________