يقدّم باسل رمسيس في "عين شمس 1995 وهزائم أخرى" مزيجًا سرديًا فريدًا، يروي فيه سيرة جيله من اليساريين في تسعينيات القاهرة من خلال مرآة السينما والتجربة الذاتية. يوثق بأسلوب متدفق الهزائم، متأمّلًا التحولات في المزاج العام، ومستخدِمًا السينما كوسيط لفهم النفس والواقع.
داليا شمس[1]
يمارس باسل رمسيس ببراعة واحدًا من أقدم فنون العالم، وهو فن الحكي. يمزج الأنواع والأجناس الأدبية المختلفة ببساطة ويسر، ويفتح الأبواب على عوالم متباينة يشكّل هو الرابط الأساسي بينها. اختار المخرج السينمائي، المقيم في إسبانيا منذ نهاية التسعينيات، أن يقدّم "حكايات تسجيلية"، على حد وصفه، ترصد تفاصيل الواقع كما عاشه أو من خلال رؤيته الذاتية. قصص متداخلة، تسلّمنا واحدة إلى الأخرى، تدور في معظمها حول عدة محاور أساسية: مسيرة حياته، بورتريه لجيل التسعينيات اليساري الذي ينتمي إليه، أزمات ومحطات سياسية مهمة أفضت إلى هزائم شخصية وعامة، تاريخ المدينة وتحديدًا الأماكن التي يرتادها، مقارنة بين أقرانه وجيل السبعينيات وشباب ثورة يناير2011، إضافة إلى لحظات الرتابة والملل التي سيطرت على المزاج العام في عهد الرئيس حسني مبارك.
يتنقّل كتاب "عين شمس 1995 وهزائم أخرى"[2] بين هذه الأفكار من خلال تحليله لأفلام يراها رمسيس مهمة، سواء كانت مصرية أو أجنبية (ينتمي الكثير منها للثقافة الإسبانية واللاتينية بحكم ذائقة الكاتب الشخصية). يخصّص رمسيس بطاقات نقدية لهذه الأفلام، وقد تظهر عرضًا من خلال الحكي شخصيات قابلها في الواقع أو عرفها عن قرب، وتتقاطع مع هذه الأعمال السينمائية. وأحيانًا يتناول بعض الأعمال الأدبية والموسيقية إذا ما اقتضى السياق، فنحن بصدد حكاية تستدعي أخرى، والشيء بالشيء يذكر. وعليه، فنحن أمام كتاب لا تنطبق عليه التوصيفات التقليدية والتجارية التسويقية، لذا نُشر ضمن سلسلة "بلا ضفاف"، التي يشرف عليها كاتب آخر من جيل التسعينيات، هو ياسر عبد اللطيف، وتصدر عن دار الكتب خان منذ عام 2016. وهي سلسلة تُعنى بالنصوص المغايرة، التي يحار الناشرون عادةً في تصنيفها.
يجمع بين ياسر عبد اللطيف وباسل رمسيس شغفٌ بالتأريخ لأحداث وأماكن عاصراها، ويُدركان أن شيئًا لن يعود كما كان، بحكم انتمائهما إلى جيل شهد العديد من النهايات. باسل، من مواليد عام 1973، قدّم أفلامًا وثائقية مثل "الجانب الآخر" (2002) عن مشاكل المهاجرين في إسبانيا، و"مراجيح" (2007) عن معاناة المرأة الفلسطينية تحت الاحتلال، و"سكر برّه" (2014) عن زواج الفتيات الفقيرات من أثرياء عرب في الحوامدية.[3] درس إدارة الأعمال في جامعة عين شمس، والتحق بعدها بالمعهد العالي للسينما في القاهرة، ثم بمعهد الفن السابع في مدريد. وخلال السنوات الأخيرة، صمّم برنامج حلقات دراسية موسمية حول موضوع "سينما المرجعية الذاتية"، يعقده في مصر وكوبا وعدد من البلدان.
قصص المرجعية الذاتية
نتعرّف على بعض تفاصيل هذه الرحلة الشيقة لأن رمسيس يرويها في كتابه، كما نلمس تأثيرها عليه، بدءًا من اختيار العنوان الذي يشير بوضوح إلى سنوات الدراسة في جامعة عين شمس خلال حقبة التسعينيات، وحتى طريقة السرد المختلفة التي اتبعها المخرج التسجيلي ليروي هزائمه وخسارات جيله وآخرين ممن خالطهم، وصولًا إلى قدرته على التكثيف والتركيز وانحيازه الواضح للسينما كي تكون همزة الوصل بين الحكايات والشخوص. هذا بالإضافة إلى تأكيده على فكرة "المرجعية الذاتية" في السينما والتأليف عمومًا، والتي تسمح لصانع العمل بتقديم قصة شخصية أو رؤية ذاتية لأفراد وأماكن وأشياء من خلال أفلام قد تكون تسجيلية، أو روائية، أو مزيجًا من الإثنين. يقول رمسيس في كتابه: " يعرف العاملون في السينما والكتابة التسجيليتين أهمية تفاصيل الواقع المباشر، ويعرفون أن الحياة والواقع سيمنحونا هدايا على هيئة أشياء تحدث بالصدفة، ولها علاقة بما يعملون عليه، وعليهم أن ينتبهوا لها وأن يلتقطوها". وهو قد نجح بالفعل في التقاط كل الخطوط التي منحتها له الحياة، وفي تربيطها وتوظيفها بذكاء.
يتحدث عن العلاقة المحدودة لجيله من اليساريين الجامعيين بالسينما، فيقول: "لم نكن ممن يذهبون كثيرًا إلى قاعات العرض. نحب مشاهدة الأفلام لكننا كنّا مشغولين بما هو أهم، بتغيير العالم كله، وكنّا نتصوّر أننا سننجز هذه المهمّة، أو على الأقل سنُنجز بعضًا منها". لكنّ الكثير من الأحلام لم تتحقق، وحلّت محلّها الهزائم.
" يبدأ جيلُنا حياته الجامعية اليسارية بالهزيمة الجماعية العامة الصاخبة، التي تفتح الطريق أمام هزائم أخرى أصغر. لكنّ المسار السياسي لأغلب هذا الجيل لم ينتهِ بالصخب نفسه، بل بهزائم شخصية وفردية في تلازم مع لحظة فارقة، خروج بعضنا من المنظمات الشيوعية السرية، ونهاية الحقبة الجامعية، مع ما يتبعها غالبًا لدى نوعيّتنا من اكتئاب مواجهة الحياة الواقعية بعد التحليق في الجو خلال المرحلة الجامعية، حيث الثورة المنتظرة والنضال والسجن والمطاردات. ومع كل هذه الإثارة، هناك الفتيات الجميلات في ممر "جيمي"[4] من قسمي الفرنسي والإنجليزي بكلية الآداب، يتطلعون إلينا، ونحن في مظاهراتنا كأبطال".
قشر البندق وانكسارات جيل
تتضح تدريجيًّا ملامح هذا الجيل الذي يتحدث عنه باسل رمسيس بكل أريحية؛ فهو يقصد، بالأحرى، الشباب والشابات من أبناء الطبقة الوسطى الذين تمكنوا من الوصول إلى الجامعة مع بداية التسعينيات، ودرسوا في جامعة عين شمس، ومعظمهم في كلية الحقوق دون أن يكونوا من الطلبة المتفوقين. وقد انقسموا إلى مجموعتين أساسيتين: الأولى، مجموعته الموزعة على ثلاثة تنظيمات شيوعية سرية: "حزب الشعب الاشتراكي المصري"، و"حزب العمال الموحد"، وهو الحزب الذي انتمى إليه رمسيس، و"الاشتراكيين الثوريين"، الذين كانوا آنذاك مجموعة جديدة تحاول فتح بعض المنافذ لها. أما المجموعة الثانية، فكانت "مجموعة الفنانين"، من طلاب كلية الآداب، خاصة قسمي اللغة العربية والإنجليزية، من المحيطين بالأكاديمية و الكاتبة رضوى عاشور، وتوجهاتهم يسارية عامة، واختفى بعضهم فجأة.
هذه المجموعات التي يتناولها الكاتب لم يكن لديها أبطال في تلك اللحظة. جاء بعض أفرادها إلى اليسار بالصدفة أو على سبيل التمرد، من أحياء بسيطة أو متوسطة مثل شبرا مصر، وشبرا الخيمة، ومدينة نصر، وحدائق القبة، مع وجود تمثيل لمناطق أخرى مثل حلوان، والمطرية، وعزبة النخل. بدأوا حياتهم الجامعية اليسارية بهزيمة العراق بعد غزو صدام حسين للكويت، وانهيار الاتحاد السوفيتي، وتراجع الاهتمام بالقضية الفلسطينية ولبنان، وبيع القطاع العام دون مقاومة تُذكر أو انتفاضة عمالية، وإزالة بيوت الفقراء المتضررين من زلزال 1992 بعد احتجاجات عابرة، ومحاولة اغتيال نجيب محفوظ على يد الإسلاميين، وتلقي صناعة السينما المصرية الضربة الأقوى بإصدار قوانين لبيع الأصول، ومنح الشركات الكبيرة والجديدة التابعة لمليونيرات لا علاقة لهم بالسينما، تسهيلات ضريبية أخرجت أغلب المنتجين الأصليين من السوق. يقول الكاتب: "المزاج الساخن في واقع رتيب (...) هو ما يفسر بدوره تفضيلاتنا السينمائية والغنائية المصرية". ثم يضيف في موضع آخر: "ارتبط تعلُّق أغلب أفراد مجموعتنا بالأفلام، بحجم الضجيج السياسي الذي تثيره. وكان يكفي أن يتحول إحداها إلى مادة للهجوم من قبل السلطة كي نهتم به، وأن يحظى بإعجابنا. وإذا كان هذا الفيلم يتناول القضية الفلسطينية، المحورية لأجيال من الطلاب اليساريين في الجامعات المصرية، فالإعجاب به مؤكد". في هذا السياق يحلّل الكاتب والمخرج ثلاثة أفلام كانت محطّ اهتمامه هو وزملائه، ويشرح تفصيليًّا أسباب إقبالهم عليها، ألا وهي: "البريء" (1986) و"ناجي العلي" (1992)، و"حكايات الغريب" (1992).
تناول هذا الأخير علاقة ثلاثة أصدقاء من خلال قفزات زمنية ومكانية، بداية من هزيمة 1967 وصولاً إلى ما بعد حرب 1973 وحصار السويس. استعانت المخرجة بأغنيات فرقة "أولاد الأرض" المقترنة بالمقاومة وصمود السويس، وبصوت نجمهم المفضل محمد منير، الذي كان يصدح في أرجاء الحارة الشعبية: "مهلباتي في شروة عيش.. ومقلباتي صابون وياميش (...) حدّ الله ما بيننا.. وبينه يفتح الله".
كان هذا المزاج السياسي "في طريقه للوصول إلى مرحلة بدايات النضج الشبابي، في سياق سياسي" أخذ ينزلق نحو العقم والملل. وهو ما ينطبق أيضًا على فيلم "البريء"، بأغنياته التي كتبها عبد الرحمن الأبنودي وغناها عمار الشريعي، بمباشرتها وخطابياتها وارتباطها في الأذهان بانتفاضة جنود الأمن المركزي آنذاك. يستحضر الكاتب أجواء التضامن مع فريق عمل فيلم "ناجي العلي" في مقر حزب التجمع، وعلى رأسهم الفنان نور الشريف، وذلك بعد تعرّض الفيلم لهجوم حاد من قبل السلطة التي استفزها تناوله لشخصية رسام الكاريكاتير الفلسطيني الشهير، وتساؤل السكير، الذي أدّى دوره محمود الجندي، حول تأخّر الجيوش العربية في إنقاذ اللبنانيين والفلسطينيين من بطش إسرائيل. لم يكن هذا السكير يدرك أن انتظاره للجيوش العربية ينتمي لزمن انتهى، "مثلما لم نكن نحن قد أدركنا بعد أن زمن السبعينيات، بدفئه المفترض، قد انتهى، ولأنه متشرّد وسكير، فقد كانت هاتان الصفتان، غالبًا، سببين لانجذابنا لشخصيته وللفيلم، وإن لم نع ذلك".
يواصل باسل تحليلاته للسياسة والأفلام على هذا النحو حتى يصل بنا إلى لحظة اعتزاله السياسة أثناء مشاهدته لفيلم "قشر البندق"، في إحدى قاعات وسط البلد عام 1995: "مع مشهد الختام لفيلم "قشر البندق"، حين يسقط وجه حميد الشاعري في الطبق ميتًا، مع صوته الزاعق: لا.. قشر البندق لا..آه.. قلب البندق آه. ومع تيترات النهاية، حالة من الهدوء وصفاء الذهن، ووعي بأن مرحلتي اليسارية التسعينية قد انتهت الآن وهنا، بالتزامن مع نهاية سباق الأكل في الفيلم وموت الفائز، موت البطل". ثم يستطرد قائلًا: "مثير للدهشة كيف تكتسب بعض التفاصيل الصغيرة طاقة درامية هائلة لتغيير مسارات الأشخاص وحياتهم!". في تلك اللحظة، قرر باسل الانسحاب، مهزومًا، من العمل السياسي والتنظيم الشيوعي السري، والعمل الصحفي الذي مارسه لفترة وجيزة، كما تركته الفتاة التي أحبّها.
اقترحت عليه أروى صالح، صاحبة كتاب "المبتسرون" وأحد أبرز قيادات الحركة الطلابية في السبعينيات، والتي انتحرت لاحقًا، دراسة السينما كطريق محتمل للنجاة. وهي إحدى الشخصيات التي سيقوم بتحليل هزائمها، ومقارنتها بمسارات مهزومين آخرين، مثل الشاعرة السورية دعد حداد، والروائية المصرية عنايات الزيات، والممثلة الإسبانية بيرونيكا فوركي، اللائي انتحرن وأعلنّ عجزهن عن الاحتمال. يتحدّث أيضًا عن هزائم والده، المناضل اليساري والكاتب رمسيس لبيب، الذي كان لايهوى التجمعات وينفر من الكتل والشلل. فيقول: "ربما يكون بعضهم انتسب خلال مرحلة من حياته إلى أحدها، بحكم الانتماء السياسي أو الأيديولوجي، مثل أروى وأبي. لكنهما (...) وصلا لرفض أن تسجن فرديتهما داخل الكتل، والإعلاء من قيمتهما كأفراد مستقلين، حتى لو عبرت الكتلة عن تصوراتهما السياسية أو الفكرية".
عشاء لدى ابنة الجنرال
على الأرجح، ينطبق ذلك على باسل رمسيس نفسه، الذي رغم انخراطه العميق في قضايا سياسية وفكرية كبرى، يحافظ على مسافة نقدية حرة تجاهها، فلا ينصهر داخل أي جماعة أو سردية جاهزة. نتتبعه وهو يتجوّل بين المدن والأفلام، فيصحبنا من شوارع مدينة نصر ووسط القاهرة إلى حواري وأزقّة ومتاحف هافانا، ومقر مدرسة السينما في كوبا، حيث يُلقي محاضراته بشكل دوري. يحلّل إخفاقات الثورة الكوبية، موضحًا أنها لم تفلح في ثلاثة أمور: المساواة بين الجنسين، المسألة العنصرية وتهميش السود، وحرية التوجه الجنسي. ويعقد المقارنات بين أفلام كوبية وأخرى مصرية تتعرض للواقع السياسي والاجتماعي للبلدين. نجد أنفسنا تارة على مأدبة عشاء مع ابنة الجنرال أرنالدو أوتشوا، أهم قادة القوات المسلحة الثورية الكوبية، أو في نزهة نيلية بمركب شراعي تجمع رفاقه القدامى بعد غياب، أو بصحبة "أم كلاوديا" الطاهية الماهرة رفيقة فيدل كاسترو، التي واكبت كل اللحظات المحورية للثورة دون أن تقدّم أي تفسير واضح لهذا الوضع، أو "جوستابو" السائق الذي رافق المخرج الإيراني عباس كيارستمي أثناء تصويره لمشروعه عن التاكسي حول العالم. وهكذا تستمرّ "حواديت" باسل، الذي يثبت في أول كتبه أنه حكّاء مدهش، ومحلّل ماهر.
في الختام، يُقدّم باسل رمسيس في كتابه رؤية نقدية عميقة للواقع السياسي والاجتماعي لجيله، متناولًا الهزائم الشخصية والجماعية من خلال الأفلام كمرآة للزمن والتاريخ. ينغمس في طرح أسئلة مفتوحة حول الأيديولوجيات، الهوية، والأحلام الضائعة، ما يجعل السينما بالنسبة له أداة لا فقط للتوثيق، بل لتحليل التحولات الاجتماعية والسياسية في مصر والعالم.