تقدم رواية "استسلام" للكاتب الفرنسي ميشيل ويلبيك رؤية ديستوبية لفرنسا عام 2022، إذ يصل حزب إسلامي إلى الحكم بدعم القوى السياسية لمنع اليمين المتطرف. يراقب البطل، أستاذ الأدب فرانسوا، هذا التحول دون اكتراث، حتى يجد نفسه أمام خيار مصيري: الانضمام إلى النظام الجديد أو البقاء خارجه. بأسلوب ساخر وكوميديا سوداء، تعكس الرواية قلق المجتمع الفرنسي حول الهوية والتغيير، أكثر من كونها نقدًا مباشرًا للإسلام.
شريف ألبير[1]
مر عام 2022 بسلام دون أن تصبح فرنسا دولة إسلامية، كما تنبأ لها قبل ثمان سنوات الكاتب الفرنسي ميشيل ويلبيك في روايته المثيرة للجدل "استسلام" (Soumission). لكن "كابوس التحول" لم ينزاح تماما وبقي عالقا كسيف ديموقليس في سماء باريس، وربما لعقود قادمة؛ مما يزيد من أهمية الرواية كمرآة للمجتمع الفرنسي المعاصر الذي يبحث عن هويته.
دعونا نتعرف أولاً على تلك الرواية التي –شأنها ِشأن كتب كثيرة- صنفت في الأوساط العربية في خانة معاداة الإسلام وأدانها كثيرون دون محاولة قراءتها. تدور أحداث الرواية في فرنسا عام 2022 في ذروة موسم الانتخابات الرئاسية. وكما هو الحال منذ قرابة العشرين عاما تتكتل القوى السياسية "المعتدلة" من اليمين واليسار لمنع اليمين المتطرف من الوصول للحكم.
هذه المرة، كان هناك لاعب جديد في السباق غيَر من شكل الخريطة الانتخابية المعتادة. إنه حزب "الأخوية الإسلامية" بقيادة السياسي الذكي والطموح محمد بن عباس، الذي ولد في فرنسا لأبوين من المهاجرين العرب. تمكن بن عباس من طرح نفسه كبديل مقبول وحظي بدعم القوى السياسية لقطع الطريق على مارين لوبن (نعم ففي الرواية تتعايش الشخصيات السياسية الحقيقي منها والخيالي في عالم ساخر بامتياز). وبمجرد أن يتولى بن عباس الحكم، يتم استعادة النظام، وتنخفض معدلات البطالة بعد إخراج النساء من سوق العمل وإعادتهن إلى المنزل، ويقبل الفرنسيون بكل أريحية على تعدد الزوجات وترتدي الفرنسيات الحجاب وتأخذ بعض القوانين صبغتها الإسلامية.
هذا هو الإطار العام الذي يعيشه بطل الرواية "فرانسوا"، أستاذ الأدب في جامعة السوربون، رجل أعزب في منتصف العمر فقد صلته بوالديه منذ سنوات، يقضي حياته بين وظيفة روتينية وحياة رتيبة مملة تتخللها علاقات جنسية متعددة وفاترة. يعيش البطل مراقبا لما يحدث حوله من تغيرات وتحولات وكأنها لا تعنيه. أما زهرة شبابه فقد قضاها في تحضير رسالة دكتوراه عن كاتب من القرن التاسع عشر (جوريس كارل هويسمانس)، عنوانها: "الخروج من النفق".
إمكانية الخروج
في الثلث الأول من الرواية نقرأ تحليلاً لما تعيشه المجتمعات الغربية اليوم، يشبه إلى حد بعيد ما ينعكس في كتابات ج. ك. هويسمانس قبل أكثر من قرن، حيث لم يعد للحياة البشرية معنى أو هدف أو مشروع حضاري، بل فردية سخيفة، ووحدة بائسة وملذات لا تُشبع. في عالم كهذا تعيد الطبيعة إنشاء نظام جديد ويعاد إطلاق التاريخ وفقًا لديناميكية جديدة، وسط استسلام وخضوع مجتمع منهك.
أما ما يفتقده عالم هويسمانس وما يبحث عنه ويلبيك، فهو البعد المتسامي (transcendantal)، الذي يتجاوز أسطورة الذاتية والحرية، حيث يعيش الفرد بلا مرجع أو جذور، إلى قيمة أو حالة تعطي للوجود معنى ما. وإذا كان البطل في رواية هويسمانس قد وجد ضالته في العودة إلى المسيحية، فهذا البديل لم يعد مطروحا في القرن الحادي والعشرين. كان يمكن أن يكون الإنتحار بديلا مقبولا لو كان "فرانسوا"، بطل رواية ويلبيك، يمتلك الشجاعة الكافية للإقدام عليه، لكن الإسلام كان أكثر بريقا وأكثر اتساقا مع الواقع.
من هنا يتضح أن المستهدف من الرواية ليس الإسلام - الذي هو في الحقيقة مجرد أداة أدبية تسمح بمعالجة الموضوع الرئيسي- وإنما المجتمع التائه الذي يبحث عن نفسه. لكن ما زاد من الالتباس، ليس فقط ما عرف عن الكاتب من تصريحات اعتبرت معادية للإسلام، بل تزامن صدور الرواية مع العملية الارهابية التي استهدفت جريدة شارلي إبدو، والتي جرت الكاتب وكتابه إلى قلب الأحداث.
ومن سخرية القدر أن يحمل غلاف الجريدة المنكوبة الصادر يوم الاعتداء عليها رسما كاريكاتوريا للكاتب، الذي تم تصويره بمنظار فلكي وتحته عبارة "تنبؤات الساحرة ويلبيك: في عام 2015 سأفقد أسناني، وفي عام 2022 سأصوم رمضان!" في تندر على روايته "بلاتفورم" والتي لوحت بـ "الإرهاب الإسلامي كشبح يطارد القرن الحادي والعشرين" وذلك قبل أسبوعين فقط من الهجوم على مركز التجارة العالمي في نيويورك سنة 2001.
ظهرت "استسلام" في ذروة تصاعد التوتر في فرنسا، حيث اتهم البعض الكاتب بتبني خطاب اليمين المتطرف أو على الأقل باستفزاز المسلمين الفرنسيين، وربما كان ذلك مرتبطا بالقلق الفرنسي بشأن مسألة الهوية الوطنية أكثر من بالرواية في حد ذاتها. قدمت الرواية في تبسيط مخل صورة للإسلام كما رسمها الكاتب بإسلوب كاريكاتوري غلب عليه الكوميديا السوداء، والتي تلخصت في منع الاختلاط، وتعدد الزوجات، وفرض الحجاب، واقتصار عمل المرأة على تربية الأولاد وخدمة زوجها و"خضوعها لرجلها كخضوع الرجل لله". لكنها خلت من أجواء العنف والتعصب، فلم تصور مشاهد لحرب أهلية أو صراعات دموية أو اعتداءات من الأقلية المسلمة أو عليها اللهم إلا في إشارات عابرة.
والحقيقة أن هذه الصورة المتخيلة يقابلها "واقع" آخر لا يقل سذاجة يظهر فيه المجتمع الفرنسي، ولا سيما المرأة الفرنسية، متقبلا كل تلك الأوضاع الجديدة بلا تململ أو اعتراض. إن هذا العالم الافتراضي، هو في حقيقته، جزء لا يتجزأ من الرسالة التي أراد الكاتب أن يؤكدها وهي أن كل ذلك حدث وكأنه حلم مزعج وقف منه - هو وغيره – موقف المشاهد، أو الميت-الحي، الذي يتحرك بالقصور الذاتي ولا يملك ولا يريد أن يملك من أمره شيئا. وهو ما يجسد معنى "الاستسلام" في مجتمع مريض ينتظر من يقوده إلى الخروج من النفق المظلم.
قراءة شرق-أوسطية
أخذت الرواية في فرنسا صبغة سياسية للأسباب السابق ذكرها، لكن محاولة قراءتها برؤية شرق-أوسطية تعكس أصداء مختلفة خاصة مع تجارب أطياف الإسلام السياسي في المنطقة. فعند الشروع في "تكييف" الرواية على مجتمعاتنا المعاصرة تجد نفسك كمن يحاول ترجمة نصا فرنسيا منقولا عن العربية ليرده مرة أخرى إلى لغته الأصلية. بل تكتشف أن من شرع في هذا التكييف (في الإتجاه المعاكس) هو الكاتب نفسه بعدما استلهم تفاصيل وتطور روايته من أحداث بدأت عندنا وحولنا قبل سنوات قليلة من صدور الرواية في سنة 2015. إذ سيجد القارئ بلا عناء وجوها وأسماء تطل عليه بين السطور، فسيرى أشباه أردوغان وحزبي النهضة والحرية والعدالة، وسيتعرف على مخاوف مجتمع الصفوة وقلق الأقباط والأقليات، وموقف الأغلبية الصامتة في مجتمعات منهكة تتوق إلى التغيير.
لكن الكاتب استغل تناقض واقع الإسلام السياسي في الشرق الأوسط واستحالة نقل تجربته –على الأقل بتلك السرعة والانسيابية- وتطبيقها على أحد معاقل العلمانية، لإضفاء أجواء ديستوبية على الرواية وإبراز مدى يأس المجتمع وبؤسه المعنوي والأدبي الذي يجعله يقبل بالبديل أيا ما كان هذا البديل.
بالقراءة من هذا المنطلق، يبدو أن الكاتب قد درس جيدا هذه التجارب بنجاحاتها وإخفاقاتها حتى أنه يكاد يقدم وصفة علاجية ناجعة لتمكين التيارات الإسلامية من خوض حلبة السياسة. فنرى الرئيس الجديد يراهن على الطبقات المحافظة في المجتمع باعتماد خطاب يؤكد على التقاليد والقيم الدينية، فالعديد من المواطنين -وان كانوا لا يصرحون بذلك- لديهم عداء مكبوت مع المجتمع المادي الاستهلاكي ما بعد الحداثي ورغبة دفينة في استعادة النمط الأبوي للأسرة والعودة إلى زمن ربات البيوت. وهنا يقول الكاتب محدثا نفسه بلسان حال الكثيرين "في الواقع، لم أقتنع يوما أنه من الجيد أن تتمكن النساء من التصويت في الانتخابات، ومتابعة نفس الدراسات مثل الرجال، وممارسة نفس المهن...".
لا يهتم الرئيس الجديد بالسياسة ولا بالاقتصاد، ما يشغله هو السيطرة على المجتمع عن طريق مناهج التعليم ومعسكرات الشباب ومؤسسات العمل الخيري في بلد يزداد فيه الفقر. فبالنسبة للتعليم أبقى بن عباس على مؤسسات التعليم العام مع استحداث نظام تعليم إسلامي مواز ممول خليجيا، وبالمثل فيما يخص قوانين الأحوال الشخصية فقد تعايش القانون المدني مع الزواج الإسلامي بدون تغييرات جذرية.
فيما يخص العلاقات مع اسرائيل ومناصرة القضية الفلسطينية، فقد لخصها الكاتب في شخصية السيد روجيه رديجير والذي أصبح رئيسا لجامعة السوربون بعد أن أشهر إسلامه: "اشتهر ريديجر بمواقفه المؤيدة للفلسطينيين، فقد كان أحد المهندسين الرئيسيين لحملة مقاطعة الأكاديميين الإسرائيليين ... "على أية حال، ما يمكنني أن أؤكده أنه لا ينوي المساومة على طموحاته الشخصية - وهي هائلة – من أجل عيون الشعب الفلسطيني". أما حزب الأخوية الإسلامية الذي تولى السلطة فقد تعلم أن "يدعم القضية الفلسطينية باعتدال ويحافظ على علاقات ودية مع السلطات الدينية اليهودية". كما أخذت "الأخوية" مسافة من الحركة السلفية التي تطالب بتطبيق "حقيقي" للشريعة الإسلامية وأدانت بطريقة روتينية محاولاتهم "الإجرامية" لاستخدام العنف.
أما فيما يخص الأقليات المسيحية (واليهودية) فقد كان منهم من يتوقع عودة النظام القديم كالمسيح المخلص، ومنهم من حاول التأقلم وبعضهم اختار الهجرة. إلا أن الوضع لم يكن بذلك السوء، فقد أتاحت لهم السلطة ممارسة شعائرهم وترميم كنائسهم والاحتكام إلى شرائعهم...
أما مجتمع رأس المال ورجال الأعمال، فقد اطمئن إلى السياسات الاقتصادية الجديدة التي وإن أقرت بالتكافل الاجتماعي إلا أنها استمرت على النهج الرأسمالي وشجعت القطاع الخاص. تخلص الرواية إلى أنه ليس في الحكم الاسلامي ما يخيف أو يقلق اللهم الا بعض الضوابط في المجال العام يتم تعويضها في المجال الخاص وبعض التعديل في قوانين الأحوال الشخصية يستفيد منها الرجال وتستكين إليها النساء. وفيما عدا تلك الرتوش الظاهرية تسير الحياة كالمعتاد.
لم يفت الكاتب أن يشير إلى علاقة الحب المشوبة بالكراهية بين النظام الجديد ومموليه من دول الخليج، لاسيما السعودية، ومغازلته لقطر دون أن ينسى مشروعه القومي للطاقة النووية للاستغناء عن النفط؛ كما لم يفته أيضا الإشارة إلى أحلام استعادة الأمة والخلافة التي تراود الرئيس الجديد وإن كانت هذه المرة تنطلق من فرنسا إلى دول حوض البحر المتوسط.
في تلك الأثناء، يفقد "فرانسوا" وظيفته كمدرس في الجامعة ويعكف على إعداد طباعة الأعمال الكاملة لكاتبه المفضل "هويسمانس". لكنه يتلقى عرضا من رئيس الجامعة لاستعادة وظيفته براتب مغر نظير "استسلامه" أي اعتناقه للإسلام. لتنتهي الرواية بأحداثها القليلة وحواراتها الطويلة على عتبة اتخاذ هذا القرار المصيري.
ويبقى العمل الأدبي
في أحاديثه الصحفية حول روايته قال ويلبيك إن ما من رواية قد غيرت مسار التاريخ، فمهمة الأديب كما يراها هو أن ينقل الواقع وربما أن يسبقه ببضع خطوات. أو كما يراها مارسيل بروست هي أقرب إلى مهنة طبيب العيون، حيث يساعد القارئ على رؤية أوضح دون أن يفرض عليه ما يجب أن يراه. فهل كان ويلبيك يبشر فعلا بالرجوع إلى الدين كحل لمشاكل المجتمع؟ هل قدم برنامجا سياسيا للتعامل مع الأقلية المسلمة في فرنسا أو في أوروبا؟ هل كانت روايته الساخرة دعوة أم تحذير؟ وكما انتهت الرواية دون أن نعرف هل اتخذ "فرانسوا" تلك الخطوة أم لا، هكذا أيضا امتنع الكاتب عن الإجابة على تلك الأسئلة التي لا تعنيه كأديب.