القارئات والقراء الأعزاء،
وينتهي العام مخلِّفًا وراءه ترِكة ثقيلة من الأسئلة التي لن نجد لها في القريب ربما إجابات شافية؛ أسئلة حول مستقبل المنطقة العربية، عن الحرب، وعن دور الفرد في مواجهة التحديات الجماعية، وعن كيفية بناء مجتمعات تنشد عدلًا ومساواة، عن كل ما مرت وتمر به منطقتنا. هذه الأسئلة هي التي دفعتنا في "الصالون" إلى الانخراط في حوار مستمر مع الكتب؛ سعيًا إلى فهم أعمق لهذه التساؤلات المعقدة وإن لم نحسم أمر كشف إجابات لها. امتدت محاولاتنا عبر خمسةَ عشر عددًا، وأثمرت عن مراجعة أكثر من خمسين كتابًا، كل منها يعكس جانبًا من جوانب مجتمعاتنا وثقافتنا وتاريخنا المشترك.
قد يكون "طرح السؤال" من أبرز التقنيات المعرفية التي كثيرًا ما نلجأ إليها في مراجعاتِنا، وكأنّ أحد أوجه الأزمات التي تعيشها منطقتنا هي حربٌ على المعرفة، فلا ننشغل بالإجابة عن الأسئلة، بقدر انشغالنا بطرح الأوجه المختلفة والمنطلقات التي تعبر عن الأحداث.
في خضم هذا العام الحافل بالأحداث الجسام التي عصفت بمنطقتنا العربية، من طوفان الأقصى وحرب الإبادة، وأحداث السودان واليمن، إلى الحرب على لبنان ووصولاً إلى عملية "ردع العدوان" التي انتهت بإسقاط نظام الأسد في 11 يومًا، كان الصالون شاهداً على هذه التحولات، يحلل ويقرأ المشهد عبر مراجعات لكتب تتعلق من قريب أو من بعيد بالأحداث. انطلقت المسيرة بعدد افتتاحي تحت عنوان "الصالون يفتح أبوابه" مقدمًا مراجعات متنوعة للروايات والكتب الثقافية، من بينها "مهندس البهجة" التي تناولت دور الفكاهة في إعادة تشكيل المجتمع. وتحولت البوصلة بعد ذلك نحو قضايا الحرب والصراع بوصفها محورًا رئيسيًا في الأعداد اللاحقة، حتى قبل "طوفان الأقصى" في أكتوبر/تشرين الأول 2023، إذ جاء العدد الثاني "الحرب واللجوء" ليطرح سؤالًا جوهريًا: "هل انتصرت إسرائيل في حرب 1967؟" مستكشفًا إشكالية الدولة والدين في المجتمع الإسرائيلي. وتعمق السؤال في العدد الرابع "القراءة في زمن الحرب" باحثًا في واقع الحرب واللجوء المأساوي الذي وثقته آلاف الكتب والروايات العربية والأجنبية، ليقدم مراجعات لصراعات تاريخية في المنطقة، مثل "الشر الذي لا يغتفر: محاكمة الاستعمار في ليبيا."
شهد هذا العام تطورًا ملحوظًا في اهتماماتنا، حيث ساقتنا الأحداث المتسارعة في المنطقة إلى تناول قضايا لم تكن ضمن خططنا الأولية. فقد فرضت هذه الأحداث واقعًا جديدًا لا بد من محاولة قراءة مقتضياته، وتبنّي الموقف منها رغم ما يحفّ هذه المحاولة من حيثيات.
مع بداية عام 2024 صدر العدد "عام جديد من أزمات وحروب مستمرة وصناعة الترفيه "بعد بداية غير مبشرة، وتشبه النهاية المتعثرة والوضع المأساوي الذي شهده العام الذي سبق في مناطق مختلفة من العالم العربي، فجاءت المراجعات متنوعة ما بين مواضيع الحرب والاحتلال والترفيه مثل "السودان: الإرث المبعثر والمأزق التاريخي" و"مخاض الترفيه: التسلية الممنهجة واعتناق الانفتاح."
وفي مسار مواز، حظيت قضايا المرأة والجندر باهتمام خاص، إذ تناول عدد "إلى صاحبات الأثر" إسهامات المرأة العربية في التغيير المجتمعي من خلال مجموعة من الكتب التي كتبتها مؤلفات عربيات بارزات سعين إلى تغيير واقعهن نحو الأفضل، وقدمت مراجعاتها كاتبات وباحثات مميزات، ما جعل هذا العدد نسوياً بامتياز.
وشكلت المدن العربية محورًا رئيسيًا لأربعة أعداد متتالية، بدأت بسؤال وجودي في ذكرى احتلال مدينة بغداد في عدد "أن تمنحك المدينة حزناً": كيف تؤثر المدينة في تشكيل وجداننا؟، الذي ضم مراجعة "من الشام إليزيه إلى ماروتا سيتي، أين حقنا في إعمار مدننا؟"، وصولاً إلى العدد الخاص بمناسبة انعقاد المنتدى الحضري العالمي "وجه المدينة الآخر" الذي تساءل: هل سنتمكن من حماية ملامح مدننا من الاندثار لتروي تاريخًا وذاكرةً نابضة؟ أم ستذوب هوياتها في طموحات الحداثة وتحديات البقاء والصراع؟
وبالرغم من محاولتنا الخروج عن موضوع الحرب وتأثيرها جاء العدد السابع "المسافة بيننا وبين الحداثة"، ليستكشف التفاعل بين التراث والحاضر في الثقافة العربية تحت تأثير الاستعمار الغربي والصراعات التي مزّقت العالم العربي عبر مجموعة من المراجعات المتنوعة منها "أرشيف العقل العربي المعاصر: ما بين التراث والحداثة" و"تونس من الاستعمار إلى الثورة، قصة الدولة الحديثة." برز السؤال هنا عن طبيعة المسافة التي تفصلنا عن الحداثة: هل هي مسافة جغرافية أم معرفية وثقافية؟ وكيف يمكن للعرب أن يجدوا طريقهم الخاص نحو الحداثة مع الحفاظ على تراثهم ووعيهم بذاتهم؟
واستحوذت القضية الفلسطينية على حيز كبير من الاهتمام، فخُصصت لها ثلاثة أعداد وعديد من المراجعات المتفرقة في الأعداد الأخرى: مثل "حتى إشعار آخر" الذي صدر بعد مرور عام على الحرب على غزة، إضافة إلى مراجعة من جزأين بعنوان "عقود من الاغتيالات: إسرائيل وصناعة القتل" التي جاءت بعد تسارع وتيرة الأحداث وامتداد الحرب من غزة إلى لبنان، مسلطة الضوء على سياسة الاغتيالات الإسرائيلية الممنهجة للقيادات السياسية المؤثرة.
ولم نُدِر ظهورنا للتاريخ، فجاء عدد "الطريق بين الأستانة ومكة" بمناسبة مرور مائة عام على إلغاء الخلافة العثمانية، ذلك الحدث الفارق الذي ما زالت آثاره تهيمن على العلاقات العربية التركية. قدم العدد مراجعات متنوعة لكتاب عرب وأتراك مثل "من الإمبراطورية إلى الدولة المحلية: كيف أعاد العرب تدوير البنى السياسية العثمانية" و"كيف اغتيلت الديمقراطية العربية؟"
وفي سياق التحولات السياسية، قدم العدد الخامس عشر "الحرية المؤجلة: من تونس إلى سوريا وما بينهما" تحليلاً للثورات العربية وتأثيرها على المنطقة. وبقي السؤال الأهم فيه معلقًا: هل انتهت الثورات العربية أم نحن بانتظار موجات متجددة؟ مؤكداً حتمية الوصول إلى طريق الحرية.
وهكذا شكلت التساؤلات العميقة والجوهرية، عن المعنى، والجدوى، والوجود، والحكمة مما يحدث، محور مسيرة الصالون خلال عام ونيف، محاولة استكشاف واقع العالم العربي وتحدياته عبر مراجعات متنوعة لكتب بلغات مختلفة، تاركة الباب مفتوحًا أمام المزيد من الأسئلة والبحث عن إجابات تليق بتعقيدات المشهد العربي الراهن.
ونحن نطوي صفحة عام ينقضي، تتزايد الأسئلة أكثر من الإجابات. عام مليء بالجراح والتحولات، لم يترك لنا سوى المزيد من علامات الاستفهام المعلقة في الأفق. لكننا، كما يقول سعدالله ونوس، "محكومون بالأمل" والمقاومة بالكلمة والوعي، محكومون بأن نستمر في طرح السؤال تلو السؤال، حتى وإن لم نجد الإجابات بعد. فالسؤال الذي يؤرقنا هو ذاته سؤالنا الذي نحمله معنا إلى العام الجديد معلنين به موقفنا. وإذا كان هذا العام قد علمنا شيئًا، فهو أن الأسئلة الصعبة قد لا تجد إجاباتها سريعًا، لكنها تبقى شاهدة على وعي لا يمكن تنحيته، ونفس لا يمكن احتلالها، وإرادة تستمد قوتها من صمودها في وجه المجهول وكما قال ناهض الريس:
واعلم يا ولدي أن عدوك ملأ البر وملأ البحر
فاحذر أن يملأ نفسك أنت
انتهت الحرب إذا احتل عدوك روحك
كل عام وأرواحكم حرة وعدوكم منهزم.
دمتم بخير،
فريق تحرير الصالون