يُقدم كتاب "الدّولة والثّورة والحداثة: من الاستثناء العربيّ إلى الخصوصيّة التّونسيّة"1 للباحث عادل اللّطيفي تحليلاً معمقًا لمسار تشكّل الدولة الحديثة في تونس وعلاقتها بالثورة والحداثة ووضعيات ما بعد الثورة، ويربط ذلك بسياق الثورات العربية.
هشام الشّرفي2
اهتمّت العديد من الدّراسات والبحوث بمختلف اختصاصاتها ومقارباتها بمسألة الدّولة، سواء كانت التّقليديّة منها أو الحديثة، وبمسار تشكّلها وتطوّرها عبر التّاريخ وفي فضاءات جغرافيّة متنوعّة ومتباينة. كتاب الباحث التّونسي وأستاذ التاريخ المعاصر بجامعة باريس الثالثة، عادل اللّطيفي، هو إحدى هذه الدراسات والتي حدّد الباحث منذ البداية محوره الرّئيسي، ألا وهو الدّولة في علاقة بالثّورة والحداثة مع التّركيز على الحالة التّونسيّة ومقارنتها مع بقيّة الدّول العربيّة الأخرى. نُشر الكتاب في طبعته الأولى سنة 2020، عن دار مسكيلياني في تونس، وصدر في 412 صفحة، إذ تضّمن مقدّمة وخاتمة وثلاثة أقسام كبرى. وسم الأوّل منها "من أوروبا إلى تونس: الدّولة- الأمّة والحداثة" وجاء في 137 صفحة، في حين ورد القسم الثاني في 119 صفحة وعنونه بـ "من الدّولة الوطنيّة إلى الثّورة". واهتمّ في القسم الثالث والأخير منه بـ "جدليّة الثّورة والدّولة: بين الانتقال الدّيمقراطي وانتشار الفوضى" وخصّص لهذا المبحث 114 صفحة.
في دوافع التأليف
يؤكّد اللّطيفي على أنّ دافعه في التّأليف لم يكن البحث في أسباب اللحظة الثّورية ولا الفاعلين فيها، رغم أهميّة هذا الحدث. بل كانت منطلقات البحث مستخلصة من خلال التساؤل حول "اختلاف وضعيات ما بعد الثّورة في البلدان العربيّة التي شملت هذا الحراك المجتمعي والسياسي العميق"،[3] خاصّة مع انتشار العنف المصاحب للعديد من هذه التّجارب، رغم الاختلافات بين هذه التّجارب وخصوصيّة كلّ منها.
ويشير الكاتب إلى أهميّة دراسة وضعيات ما بعد الثّورة من زاوية إشكالية الدّولة باعتبارها الفضاء الذي نشهد فيه التغيرات السياسيّة الحديثة، والتي تسمح بدورها لا بالخوض في فهم مسارات هذه الثّورات فحسب، بل تمكّننا أيضًا من العودة إلى لحظة اندلاع الثّورة في تونس وانتشارها بدول عربيّة أخرى. وبالتالي يبيّن اللّطيفي أنّ الإطار الأنسب لفهم هذه السياقات ومعالجتها هي الدّولة الحديثة، وتحديدًا الدّولة الوطنيّة أو الدّولة-الأمّة.
مفهوم الدّولة الحديثة ومسار تشكّلها
يعدّ الباحث أن فهم التّغيرات التي حدثت في الواقع العربي منذ سنة 2011 يتطلب وضع إشكالية بناء الدّولة الوطنية في سياقها التّاريخي الحديث والمعاصر. فكان الانطلاق من مسار تشكّل الدّولة الحديثة في العالم الغربي، مع التّركيز أساسًا على القرنين التّاسع عشر والعشرين، وهي الفترة التي عرفت تعميمًا لأنموذج الدّولة-الأمّة.
ومن أبرز أسس الدّولة الحديثة وجود رقعة ترابيّة مُحدّدة وواضحة المعالم تعيش ضمنها مجموعة بشريّة متجانسة إلى حدّ كبير. ويستند الكاتب هنا على تعريف كلّ من إيريك هوبسباوم4 وتشارلز تيلي،5 فقد عدّ الأوّل أنّ مفهوم الرّقعة الترابية أساسي في تعريف الدّولة الحديثة باعتبارها "رقعة متواصلة يخضع كلّ سكّانها إلى نفس السّلطة، وهي منفصلة عن الوحدات التي تشبهها بحدود واضحة وثابتة، وتسيّر شؤون سكّانها مباشرة دون تدخّل أطراف أخرى وسيطة، كما تفرض نفس القانون على كامل الفضاء الترابي".6
أمّا بالنّسبة لتيلي، فهو يعتمد في تعريفه للدّولة على مسألة "الإكراه"، فالدّولة هي تنظيم داخل فضاء محدّد تراقب ضمنه كلّ وسائل الإكراه وتتمتّع بالأسبقيّة على كلّ التّنظيمات الأخرى الموجودة في الفضاء نفسه. إذن، نلاحظ ممّا سبق أنّ الانتماء يكون محدّدًا ومقتصرًا على رقعة جغرافيّة معيّنة يعبّر عنها بالدّولة-الأمّة أو الدّولة الوطنيّة تضمّ أفرادًا يُقرّون بانتمائهم إلى الأمّة، وبالتالي يُحدّد الفرد بانتمائه إليها لا إلى مجموعة إثنيّة أو دينيّة أو عشائريّة فيكون هذا الانتساب من أبرز مظاهر القطع مع الدّولة التّقليديّة. وبالتالي نشهد هنا تكوّن ثقافة عليا جديدة على حساب الثّقافات القديمة تسمّى "الوطنيّة".
الدّولة الأمّة في العالم العربي
يقدّم اللّطيفي ثلاث مسارات مختلفة لتشكّل الدّولة الوطنيّة في العالم العربي. أولاً: مسار الصّدمة الاستعماريّة. ويشمل الدّول التي تشكّلت هوّيتها الترابيّة في سياق الاستعمار الأوروبّي بعد فشل محاولات إصلاح الدّولة العثمانيّة خلال القرن التّاسع عشر. عدّ الكاتب هذا المسار مسارًا قهريًا خارجيًا يراعي مصالح القوى الاستعماريّة على حساب التّقسيمات الأصليّة للمجتمع التّقليدي. ويضمّ كلّاً من ليبيا والجزائر وموريتانيا وسوريا واليمن والعراق والسّودان والصّومال.
ثانيًا: مسار الحلّ الأخير أو القبول الطّوعي. ارتبط هذا المسار بالحماية البريطانيّة لسلالات حاكمة وبتوجّهها لاحقًا نحو إنهاء نفوذها في منطقة الخليج وأغلب مستعمراتها في الفترة ما بين نهاية الحرب العالميّة الثانية وبداية السّبعينات. يضمّ هذا المسار الدّول التي تبنّت شكل الدّولة القوميّة التّرابيّة كحلّ لا بديل عنه نظرًا إلى حداثة ظهور هذه الكيانات، خاصّة دول الخليج العربي.
ثالثًا: مسار التّراكم التّاريخي. تعود جذور هذا المسار إلى المنطقة في الفترة ما قبل الاستعماريّة، وخاصّة في تونس ومصر والمغرب. ويلعب العامل التّاريخي هنا دورًا مهمًا في تكوّن الدّولة الوطنيّة في كلّ من هذه الدّول الثلاثة، خاصّة في عمليّة تحديد المجال التّرابي ومكوّنات الطبقة الحاكمة التي ستؤدي لاحقًا دورًا مهمًا في تشكّل الدّولة الوطنيّة بها.
مسار تشكّل الدّولة الوطنيّة في تونس
أما بالنسبة للدولة الوطنية التونسية فيمكن تقسيم تشكلها إلى محطّات مختلفة. أولاً: فترة ما قبل الاستعمار. تميّزت بظرفيّة تاريخيّة ساهمت في تشكّل الدّولة الحديثة. ففي البداية، شهدت تونس تركّز سلطة مركزيّة في إطار تواصل سلالي لفترة تقارب الثمانية قرون، توالت خلالها السيطرة بين ثلاث سلالات حاكمة فقط وهي السلالة الحفصّية (1228-1574)، ثم العائلة المراديّة (1631-1702)، وآخرها العائلة الحسينيّة (1705-1957) ممّا أدى إلى تركّز الإكراه بسبب وجود تقاليد للسّلطة المركزّية.
وقد ساهم هذا التّركز السّلالي في توجّه حكّام تونس نحو الهيمنة على المجال الجغرافي التّونسي من خلال إخضاع القبائل المتمرّدة، وذلك من أجل توفير عائدات جبائيّة للمركز. وقد تدعّم هذا الاتجاه خلال القرن السابع عشر مع إبرام أوّل اتفاق حدودي بين تونس والجزائر سنة 1614، ثمّ سنة 1628 لضبط الحدود بين البلدين واعتبار وادي سراط خطًّا طبيعيًا فاصلاً بين البلدين. وهي تقريبًا حدودٌ مشابهة للحدود الموجودة اليوم، وبالتالي نلاحظ بداية تشكّل القوميّة التّرابية، خاصّة من الجانب القانوني، وذلك باعتماد حدود ثابتة ومتّفق عليها.
ثانيًا: المرحلة الاستعماريّة. تعبّر هذه المرحلة عن تشكّل الوطنيّة التّونسيّة بالمعنى الحديث في إطار استمراريّة تشكّل الدّولة منذ الفترة الحديثة مرورًا بالاستعمار الفرنسي، الذي رغم سعيه للهيمنة إلّا أنّه اصطدم بنزعة استقلالية محليّة عزّزت مفهوم الدّولة-الأمّة في تونس في هذا السّياق،7 وهو ما سيؤدي دورًا مهمًا في تشكّل ملامح القوى الفاعلة في مرحلة ما بعد الاستقلال من نخب ومكوّنات المجتمع المدني. لقد ساهم الاستعمار عن غير قصد في تأكيد ظاهرة التّوطين على مستوى الهوية ومؤسّسات الدّولة، فقد اعتمد الفرنسيّون على الإدارة المحلّية في تونس نتيجة لوجود تقاليد التّسيير الدّولتي قبل الاستعمار. فجرى اعتماد نظام الحماية، وهو ما ساهم في الاتّكال على كفاءات محليّة تونسيّة في الإدارة خاصّة بالجهات، وهو ما أدّى كذلك إلى نقل ثقافة الإدارة والخبرات الفرنسيّة إلى الإدارة التّونسيّة، ما ساهم في تفكّك الهياكل التّقليديّة العشائريّة.
إضافة إلى ما سبق، ساعدت الفترة الاستعمارية في تبلور الوطنيّة التّونسيّة، والتي تٌعدّ من بين أهمّ الرّكائز التي تقوم عليها الدّولة-الأمّة، باعتبارها تمثّل قاعدة للانسجام الاجتماعي وللانتماء إلى الهويّة التّرابية ورموزها ومؤسّساتها. ولئن مثّلت الفترة الاستعماريّة الإطار الذي تشكّلت فيه الوطنيّة التّونسيّة بمفهومها الحديث، إلّا أنّ ذلك لا يعني ارتباطها بشكل حصري بالحضور الاستعماري، بل تعود جذورها إلى القرن السابع عشر كما بيّنا سابقًا.
وقد ساهمت عدّة عوامل في بلورة الوطنيّة التّونسيّة، رتّبها الكاتب في ثلاثة حقول أساسيّة. نذكر منها اثنتين تتمثّل الأولى في حقل المطلبيّة السّياسيّة من حركة الشّباب التّونسي مرورًا بالحزب الحر الدّستوري القديم بقيادة عبد العزيز الثعالبي منذ سنة 1920، ثمّ الحزب الحر الدستوري الجديد بقيادة الحبيب بورقيبة في الفترة التي تلت مؤتمر قصر هلال سنة 1934، وهو ما ساعد في تكون وعي سياسي وتنظيمات حزبيّة حديثة عزّزت المطلبية السّياسية والوطنية.
أمّا الحقل الثّاني فتمثّل أساسًا في المطلبيّة الاجتماعيّة، وترّكز العمل في هذا الحقل أساسًا في الجانب النّقابي منه، وذلك بتأسيس جامعة عموم العملة الأولى سنة 1924 بزعامة محمد علي الحامي والطّاهر الحداد ومن ثمّ جامعة عموم العملة الثّانية بقيادة بلقاسم الڨناوي سنة 1937 لتنضج التّجربة النّقابية بتأسيس الاتحاد العام التّونسي للشّغل سنة 1946. وقد بيّن الكاتب أنّ هذين الحقلين قد أفرزا نخب ما بعد الاستقلال، سواء على مستوى الحكم وتسيير الدّولة أو على مستوى النضال الاجتماعي من خلال مختلف المنظمات الوطنيّة في تونس.
ثالثًا: مرحلة ما بعد الاستقلال إلى الثّورة. ساعد مسار تشكّل الدّولة الحديثة في تونس في مواجهة إشكاليات تتعلّق بتجربة الدّولة فجر الاستقلال بطريقة أفضل نسبيًا من بقيّة الدّول العربيّة الأخرى. وهو ما سمح للنّخبة السّياسية بالتّوجه مباشرة نحو تأسيس الدّولة الوطنيّة ووسائلها وتحديث المجتمع. وقد تمثّل الجانب الأخير أساسًا في إضعاف تأثيرات التشكيلات الاجتماعيّة التّقليديّة مثل الزّاوية والقبيلة. وذلك بضرب القاعدة المادّية لها من خلال حلّ الأوقاف وفرض الملكيّة الفرديّة، إضافة إلى تعزيز دور المرأة في الحياة العامّة من خلال إصدار مجلّة الأحوال الشّخصيّة في 13 آب/ أغسطس 1956.
أمّا على المستوى السّياسي، فقد عرفت تّونس إعلان الجمهوريّة في 25 تموز/ يوليو 1957، وبذلك تم القضاء نهائيًا على الحكم السلالي وتحويل الملكية إلى جمهوريّة، وهو ما يدخل ضمن مسار تشكّل الدّولة الوطنيّة. كما دعّم هذا السّياق إصدار دستور 1 حزيران/ يونيو 1959 الذي ركّز على الفصل بين السلطات والاعتماد على تقسيم إداري زاد من مركزيّة العاصمة وإضعاف الرّوابط التّقليديّة، ممّا سهّل عمليّة مراقبة الأفراد، خاصّة مع إنشاء خطّة الوالي كرابط بين المركز وبقيّة الجهات.8
تواصلت فترة التّحديث والتّأسيس للدّولة الوطنيّة خلال فترة بورقيبة إلى بداية السّبعينات، وتمثّلت هذه الفترة في المرحلة الأولى من حكمه، لتشهد تونس لاحقا مع بداية السّبعينات وحتى 7 تشرين الثاني/ نوفمبر 1987، تاريخ عزل الرئيس الحبيب بورقيبة، عدّة أزمات سياسيّة واجتماعيّة. وذلك بعد فشل تجربة التّعاضد، ممّا أدّى إلى إضعاف السّلطة المركزيّة وظهور حركة الاتجاه الإسلامي وتنامي نفوذها إلى حدّ التّخطيط لعمليّة انقلاب عسكري على الحكم في يوم 8 تشرين الثاني/ نوفمبر 1987. تفطّن زين العابدين بن علي، الذي تم تعيينه آنذاك كوزير أوّل، إلى أثر تلك الأحداث على السلطة، فاستغل ذلك لتنحية الحبيب بورقيبة عن الحكم، وذلك عبر تقرير طبّي يُقرّ بعجزه التّام عن أداء مهامه كرئيس. وبذلك، حلّ محلّ بورقيبه على رأس السّلطة، ودخلت البلاد مرحلة جديدة من الحكم.
عُرفت فترة حكم بن علي بمرحلتين، اتّبع في الأولى استراتيجية الانفتاح على مختلف مكوّنات المشهد السياسي، وذلك في إطار كسب الوقت لتقوية مؤسّسات الدّولة، خاصّة وزارة الدّاخليّة وحزب التّجمع الدّستوري الدّيمقراطي. امتدت هذه الفترة إلى حدود سنة 1992، وشهدت تونس فيها انتخابات سنة 1989، التي شارك فيها الإسلاميّون بقوائم مستقلّة نظرًا لعدم تمكّنهم من الحصول على تصريح للنشاط الحزبي. تلاها تشكيل حكومة انفتح فيها بن علي على شخصّيات بورقيبيّة ويسارية.
مع تأزّم الوضع السياسي ابتداءً من سنة 1992، شهدت تونس تراجعًا لمظاهر الدّيمقراطيّة وتضييقًا على الأحزاب السياسية. حدث ذلك نتيجة لعودة الرئيس الواحد والحزب الواحد عبر استغلال مؤسّسات الدّولة الإدارية والإعلامية وغيرها لصالح التّجمع الدستوري الديمقراطي، مع اعتماد مراقبة أمنية شديدة لمختلف الأنشطة السياسية والجمعياتيّة ممّا ساهم في التّضييق على الحريّات وعلى النّشاط الحزبي والسياسي. أدّى ذلك إلى بروز نوعين من التّعبيرات الاحتجاجيّة. تميّز النوع الأوّل بالطّابع السّياسي من خلال المعارضة السّياسيّة والنّقابيّة. في حين لم يعرف نظام بن علي النّوع الثّاني من المعارضة المتمثّل في التحرّكات الاحتجاجيّة الاجتماعيّة الشعبيّة إلّا في السّنوات الأخيرة من حكمه، وتحديدًا في كانون الثاني/ يناير 2008، فيما يعرف بأحداث الحوض المنجمي. وهي احتجاجات شهدتها منطقة الرّديف بولاية قفصة واستمرّت لمدّة 6 أشهر. تلاها احتجاجات منطقة بنقردان في آب/ أغسطس 2010 وهو ما يعكس مؤشّرات الواقع الاجتماعي في تّونس خلال تلك الفترة والذي انتهى لاحقًا بأحداث الثّورة بداية من 17 كانون الأول/ ديسمبر 2010، التي انطلقت من سيدي بوزيد وسط تّونس.
الثّورة التّونسيّة: في إطار الدّولة أم هي ضدّ الدّولة
لا يُشكّك الكاتب في استحقاق الثّورة التّونسيّة، كما ذهب العديد من الباحثين والفاعلين في الشّأن السياسي في تونس. بل يعتبرها ثورة سياسيّة داخل الدّولة، وليست ثورة ضدّ الدّولة، ولا تعبيرًا عن فشل الدّولة الوطنيّة في تونس. بل يراها نتاجًا لنجاحها على مستوى فتح آفاق للتّطور السياسي والاجتماعي والثّقافي، بعد أن عرفت صدًّا في فترة حكم زين العابدين بن علي. كما يؤكّد المؤلف على أنّها ليست ثورة ضدّ بورقيبة وإرثه. بل يعتبر أنّ مساعي التّحديث التي اتّبعها الحبيب بورقيبة هي التي هيّأت للتّطوّر المجتمعي والسياسي، وهو ما سيدعم ويؤطّر الثّورة التّونسيّة لاحقًا. فلولا نجاح الدّولة الوطنيّة ولولا مساعي التّحديث لبورقيبة، لما بلغت الثّورة لمرحلة المطلبيّة السّياسيّة، ولما انبثق عنها مسار ما بعد الثّورة عبر القوى الفاعلة التي أفرزها التحديث، خاصّة بالمحافظة على التّقاليد الدّستوريّة لتونس والمطالبة بانتخاب مجلس تأسيسي لإعداد دستور جديد وهو ما يذكّرنا بمرحلة ما بعد الاستقلال ودستور عام 1959.
يرى الكاتب أيضًا أنّه وبالرّغم من حضور المسألة الاجتماعيّة، إلّا أنّ الثّورة كانت ذات أبعاد سياسيّة ضمن تطوّر تنظيمي للدّولة. وهو ما ساهم في احتضان الدّولة للثّورة من خلال تقديم إطار قانوني لانتقال السّلطة عبر الاعتماد على الفصل 57 من دستور سنة 1959، الذي يقر بحالة العجز التام للرئيس عن القيام بمهامه. وبالتالي تحول الصّلاحيات إلى رئيس مجلس النّواب بصفة مؤقّتة. وبذلك شكّل دستور 1959 الإطار القانوني الذي تمّ عبره الانتقال من شرعية النّظام القديم إلى شرعيّة الثّورة. وهو ما يؤكّد الحضور القوي لثقافة الدّولة والقانون، ممّا مكّن من تفادي تعقيدات المرحلة، خاصّة يوم 14 كانون الثاني/ يناير بمغادرة بن علي للبلاد.