تنطلق أحداث رواية "الشمّاعيّة" لعبدالستار ناصر من نقطة تاريخيّة تشكّل منعطفًا ومفصلًا زمنيًّا خطيرًا؛ هي اللحظات الأولى لاحتلال مدينة بغداد في التاسع من نيسان/ أبريل 2003. ويكتمل مشهد الخراب في المصير الذي تلاقيه الشخصيات المختلفة، إذ تُظهِر صفحات الرواية تفاصيل قاسية عن أعمال القتل والاغتصاب والهزيمة الروحيّة التي تعرض لها العراقيون بأثرٍ من ذلك.
بيان عمرو 1
لا يبدو من السهل اختزال الحديث عن المدن، يصبح الأمر أشدَّ تعقيدًا حين تكون مدينةً بحجم بغداد التي شغلت المصادر التراثيّة والمراجع المعاصرة بحضورها التاريخيّ اللافت أوانَ صعودها وفي أدوار تراجعها.
وإذ يقف العالم اليوم مكتفيًا باحتساب السنوات التي مرّت على الغزو الأمريكيّ- البريطانيّ للعراق، نجد أن فنّ الرواية استطاعَ أن يُرسّم أبعادًا جديدة للكارثة؛ ويؤسسَ لتأكيد العلاقةِ القائمةِ بينه وبين التحوّلِ التاريخيّ والاجتماعيّ والإنسانيّ، ويعالجَ حدثَ احتلالِ العراق وأثرَه في النصّ الروائيّ من موقعِ الحضور؛ ليبيّنَ أنّ الأدبَ يُماشي حركة الواقع، وأنّه قادرٌ على كشف خفاياه، وقادرٌ على أنْ يجعل من المدينة "بغداد" حاضرة بعمقٍ في الروايات. يتابع القارئ التغيّرات التي طرأت عليها، وتلك التي تركتها في وجوه العابرين فيها، في وثيقة تسجيليّة شاهدة على الخراب المدينيّ.
الشمّاعيّة .. تفاصيل المكان الموحِش2
يعدّ الروائيّ الراحل عبدالستار ناصر واحدًا من أهمّ الكتّاب العراقيّين، وهو أغزرهم إنتاجًا ما بعد الاحتلال، وفقًا لما تؤكده ببلوغرافيا الكتابة الروائيّة في العراق.3 لكن كيف ظهرت بغداد تحديدًا في روايته؟ ولماذا نختار هنا من مجمل أعماله رواية "الشمّاعيّة؟ يشير العنوان في دلالته إلى مستشفى الأمراض العقليّة في بغداد، وهو المفتاح الدلاليّ للنصّ، وبالدارجة العراقيّة يُقال "تشمّع عكله" (عقله) يعني باتَ مجنونًا. ولكنّ الأحداث تبدأ في الرواية عند المفصل الزمنيّ التاريخيّ الخطير لحظة الاحتلال، أما مكانيًّا، فتظهر بغداد في الواجهة؛ لترصد عن كثب خروج المجانين والنزلاء، وتَحَوُّلَها إلى مستنقع تعصف به الفوضى.
ولا يمكن لهذا الاستهلال أن يكون عشوائيًّا، ففي مُفتتح لحظة خروج أمين هاشم بيطار الشخصيّة الرئيسيّة من المستشفى، ونتيجة لحالة الهياج العامّة، يسقط في مُستنقع من المياه الآسنة، فيصيح أحد المارّة: "هوب هوب، كَدامك الطسّة"، وتبدو حقيقيّة هذا المشهد مُتمثلة باستحضار الكاتب لبغداد 9 نيسان/ أبريل 2003. وباكتمالِ مشهدِ الخراب في المدينة بكافة تفاصيله، تظهر أهميّة انطلاقِ صوتٍ مجهول مماثل. وهذا المدخلُ هو الذي يشكّلُ الدافعَ الرئيسَيّ لأحداثِ الرواية. والهروبُ في بداية الرواية من الشماعيّة ليس إلّا هروبًا من خرابٍ إلى خراب "من الجنون إلى الخبل".
ونلحظُ خلالَ الروايةِ أنّ الكاتب يعتمد أسلوب الاسترجاعِ، وهذا الأسلوب يجعله على صلةٍ وثيقة بالمكان بغداد؛ يذكُر مناطقها، ويعدّد أسماء الشوارع، باعثًا فيها حنين العودة إلى مكانه الأول، وبيته وطفولته، وديار أهله. على أنَّ تذكُّرَ الأماكن من شأنه، عادةً، أن يبعثَ الدفء في نفس المتذكّر، لكن والحالُ هذه في بغداد زمن الاحتلال، فالمدينة والذكريات تتّشحُ بالسّوادِ والضياع والضبابيّة؛ فنلاحظ أن الشخصيّة عندما لا تتذكّر بيتها تشعرُ بهشاشتها أمامَ المكان، فتحيلُها هذه الذاكرةُ المعطوبةُ إلى الشماعيّة "شيء ما يحترق مع الزغاريد، بوصلة البيت، بيتي، أعرف أنه في مكان ما من بغداد، من جانب الرصافة، من شارع الوصيّ، بين ( أبو دودو) و ( أبو سيفين) أعرف رقمه مع أنني نسيتُ المكان، كلا تلك طفولتي، بيتي هناك في العامريّة، أنا أخلط بين الطفولة والصبا والكهولة، بيتي ضاع من ذاكرتي بعد ثلاث عشرة سنة عشتها بين الكهرباء وحبوب الهلوسة...".
وتقف هذه الرواية عند أزمةَ العراقيّ في بغداد ما بعد الاحتلال في انتفاءِ الوعد بعراقٍ آمنٍ بلا خوف وفقًا لما يقرّره الروائيّ؛ فالعراق يعمّه الجنون، والجنونُ لم يعدْ محصورًا في مستشفى الأمراض العقليّة، بل أصبح يعمّ مدينته بغداد، والشوارع التي يعبرها "أظنه - كما قال عباس بائع الباذنجان نفسه الذي أسقط تمثالا من التماثيل وجدارية من الجداريات وهو يرقص ويغني ويصرخ بكلامٍ لم نفهمه طبعًا، حفّافة وزفاف عشوائي وخمّارة مزحومة بالعرسان والمخنثين (ماذا تقول يا عبّاس)؟".
مصيرُ الشخصيات ومعادلةُ النجاة (مَن ينجو ومَن لا ينجو)
ينجح الروائيّ في تحريك القرّاء معه مِن أمكنةٍ مغلقة إلى فضاءٍ رحب يتمثّلُ بالميادين والساحات والشوارع، ولكنّ الشخصيّات تعودُ إلى الانزواءِ في أماكنَ مُغلقةٍ مثل أمين هاشم بيطار؛ فرغم أنّه ظلّ يمضي بحثًا عن فضاءاتٍ أرحب إلا أنّه ينتهي إلى غرفةٍ صغيرة لا تتسعُ لأكثرَ من أريكة، ويقرّر ألّا يغادرها إلّا للعمل ومن ثمّ العودة، بحيث نجدُ الشخصيّات قد انكمشت على ذاتها، وعادت إلى الحبس في فضاءٍ يبدو متسعًا – ظاهريًا- هو بغداد. لكنّ شخصيّة أمين هاشم بيطار - أمين سرّ الحزبِ الشيوعيّ وكاتب عراقيّ يعرفه الناس، اعتقل في تسعينات القرن العشرين بعد أن حظرَ حزبُ البعثِ نشاط الحزبِ الشيوعيّ آنذاك، أجبره البعثُ على تقديمِ إفادةٍ على الهواء بانتهاءِ عهدِ الحزبِ الشيوعيّ في العراق، وضرورة أنْ يُسلّم "الرفاق" أنفسهم، يخرجُ من الشماعيّة إلى بغداد بعد ثلاثة عشر عامًا من التعذيب، لا يعرف إذا ما كان مجنونًا أمْ عاقلًا، تلحُّ عليهِ رغبة متواصلة في النّهيق، ولا يعرفُ إنْ كان هوَ هوَ، أم أنّه شخصٌ يدّعيه. وبهذا يصبح مركزًا للثقل الدلاليّ.
أمّا الشخصيّة الثانيّة "صفيّة"، فإنّها تعودُ عبر البنية الاستذكاريّة ذاتها، إلى ما قبلَ السقوط، لتسردَ حكايةَ دخولِها الشماعيّة. أدخلها أبوها طمرًا لعارِه ولينقذَها مِن القتلِ بوصمِها بالجنون، فيعطي الطبيبَ المقيمَ ألفَ دينار (رِشوة) لاستقبالها في "الشماعيّة"، ولكنّ الطبيب يغتصبها في الليلة الأولى. "أعطاني ثلاث برشامات حمراء، صحوتُ فجرًا وتأكد لي أن المدير فعل فعلته، جسدي وألف دينار في يوم واحد. لكنه في الليلة الثانية أخبرني (أنّني عذراء)، أو هكذا كنتُ قبل دخولي الجناح رقم 9". تخرج من "الشماعيّة"، وتؤويها صديقتها "عفراء" في بيتٍ لها. تلتفتُ إلى المكتبة فتقرأ ملفات تعذيبِ مستشفى الشماعيّة التي يشرفُ عليها زوجُ صديقتها حين تكتشفُ ذلك صدفة. إلا أن صديقتها تعيدُها إلى الشماعيّة بعدَ أنْ أحرقَتِ المنزلَ بحثًا عن فأر لا وجودَ له.
أمّا شخصيّة "سعيد أسعد فرحان"، فهي الثالثة في الصوت والظهور السرديّ، هو أحدُ أقرباء أمين هاشم بيطار، تهمته هي صلة القرابة التي جمعته بأستاذه وقريبه، يُحتجز مع عددٍ من المساجين في بيتٍ مهجور في حي "البساتين" في بغداد، في سراديبَ تحت الأرض، تُفتح لهم الزنازين ليجدَ نفسَه مع خمسةٍ آخرين يركضون عبرَ دهاليز كي يصلوا إلى الخارج، يتعرّض للتعذيب والاغتصابات المتكررة، ويؤتى به كي يتابعَ أستاذه بيطار وهو ينهق لساعات.
أما شخصية رجلُ المخابراتِ "عمار مظهر الشيخ"، فهو معروفِ كقاتلٍ ومُجرم في العراق، وهو الصوتُ السرديّ الرابعُ في الرواية، أسطورة صنعَتْها الأجهزةُ الأمنيّة لبثّ الرعب، يُغرى بالسفرِ والرحلاتِ والأموال الكثيرة في أوروبا، ويُهدَّد بزوجتِه "عفراء" التي لم تكنْ تعرفُ شيئـًـا عن ممارساته، يقول إنّه لم يعد غير "قواد" يحتفظُ بمتّهمٍ لا تهمة له سوى أنّ زوجته صغيرة وعلى جانبٍ مِن الحُسن، يُشرف على التحقيق مع "محمد جميل السويركي" الشابّ الفلسطينيّ الآتي مِن مخيم عين الحلوة في بيروت مع زوجته الجميلة كي يكملَ دراسَته، ويقَدّرُ التذكرُ في حكاية السويركي بأنّه الأبعدُ استرجاعًا مِن ناحيةِ الزمن- بالنسبة للأصوات الساردة، إذ يعود بسرده إلى عام 1983، كما تتحدّد مدة التذكر بعامين فقط يقضيها – كما يقول- فيما يُعرف بمبنى الإقامة، وهو قلعة من قلاعِ المخابرات، يخرجُ بعدَها ويغادرُ العراق مع زوجته المُغتصبة إلى دمشق ليُسجن هناك قبلَ أنْ يعودَ إلى "عين الحلوة"، بعد أنْ وقّع في بغداد اعترافًا يشير إلى أنّه مبعوث من حزب البعث في دمشق.
لكنّ حكاية عمار مظهر الشيخ تبدأ لحظة يعرفُ أنّهم أفرجوا عن السويركي الذي أشرفَ على التحقيق معه في العام 1985. ثم يتحرّك السرد بعدها مُتقدمًا عبر حكايتين اثنتين يسردُ وقائعهما عمّار مظهر الشيخ؛ إذْ يُشرف على التحقيق مع الشاعر محمد الإدريسي، والروائي خضيّر ميري. وفي حكاية ميري يتبدّى اعتوارُ البناء اللغويّ والزمنيّ بصورة ظاهرة، وتتلاحق الحكايات، ولكنّها تفقد خيطها المتصل مع الشخصيات، إلا مِن دلالة المكان/ بغداد.
وبذلك تكون ثنائيّة (مَن ينجو ومَن لا ينجو) موصولةً بثنائيّة المكوث/ الرحيل التي أشار إليها لؤي حمزة عبّاس في كتابه "المكان العراقي"، وهي ما يمثّل حال الشخصيّة الروائيّة في الرواية العراقية ما بعد السقوط، "إن التلاعب بصورة المكان في الرواية يمكن استغلاله إلى أقصى حد، فإسقاط الحالة الفكرية أو النفسية للأبطال على المحيط الذي يوجدوا فيه، يجعل للمكان دلالة تفوق دوره المألوف كديكور أو كوسيط يؤطر الأحداث، إنما يتحول المكان في هذه الحالة إلى محاور حقيقي، ويقتحم عليه السرد محررًا نفسه هكذا من أغلال الوصف".4
ويُقدّمُ تحرّكُ أمين هاشم في بغداد عبر شوارع من مثل ساحة "الطيران"، وميدان "الفردوس" دلالاتٍ خادعة للقارئ؛ بما توحيهِ هذه المُفردات من معاني الانطلاق. ونلاحظ أنّ الشخصيّة الرئيسيّة تحاول استعادة طبيعتها الأولى التي كان عليها قبل دخول مستشفى الأمراض العقليّة، فيجد كتابه (من الصمت إلى الصوت) على بسطةٍ في شارع أبي نواس الشهير في بغداد، فيمنحه البائع له دون نقود، ويبدأ بالقراءة فيستعيد شيئًا من عقله، ولكنّه يمضي بعدَها إلى مُختار الحيّ كي يتعرّف إليه، فيُقتل المختار في اليوم ذاته. ويذهبُ بعدها إلى بيتِ أهلِه في "العامريّة" بعدَ أنْ أمضى أيامًا كي يَدُلّ الطريق، فيجد أنّ والديْهِ قد ماتا حسرةً عليه، وأنّ إخوته قد ابتلعتهم الحروب، وهاجر واحدٌ منهم فقط إلى وجهةٍ غير معلومة، يحتفظ له الجار ببعض الأغراض والملابس، وبصندوقٍ للعائلة خلّصه مع زوجته من أيدي السارقين، ليكتشفَ أنّه فارغ، وبهذهِ الحياةِ المعطوبة والعقيمة تقرّر الشخصيّة أنْ تتخلّى عن أفكارها التي أودَت بحياتها وحوّلتها إلى سراب، ويجيءُ ذلك على لسانِ الراوي في تعليقه،
أما أمين هاشم بيطار، فلم يلتفت أحدٌ إليه، ولم يعد هو نفسه بحاجة إلى أحد، راح يعمل في السوق بائعًا للفواكه والخضراوات مرة، وسائقًا في حافلة كبيرة لنقل الركاب بين العزيزية وبغداد مرة أخرى... صارت كلمة السياسة ومشتقاتها أكثر ما يسمعه قبحًا، وبرغم أنهم طلبوه لخدمة الحزب الشيوعي ثانية بعد أن عرفوه، لكنه بات يضحك من أي إغراء يطرحونه بين يديه: "لا شيء في العالم كله يستحق أن يُهان من أجله الإنسان".
بهذه التحولات العميقة التي فرضتها معطيات احتلال بغداد على المدينة، والخسارات التي مُني بها العراقيّ، وأشكال الهزيمة التي عاينها؛ نجد أعمال القتل والعنف والفقر والاغتصاب التي أفرزتها حالة الانفلات الأمنيّ حاضرة في صفحات الرواية. كلّ هذه الهزائم فرضتها الجغرافيا؛ جغرافيا أن تولد في تلك البؤرة التي كانت على موعدٍ مدبّرٍ مع الخراب!