يقدم لوكا مانوتشي في "المقابلات الشعبوية: حوار مع خبراء رائدين" مجموعة من المقابلات مع بعض المتخصصين في دراسة الشعبوية، مستعرضًا أبرز الأسئلة النظرية والعملية حول الظاهرة. يناقش الكتاب تعريفات الشعبوية المختلفة، ويحلل أسباب ظهورها وتطورها عبر التاريخ وفي سياقات متنوعة حول العالم، مع تركيز خاص على تأثيرها في السياقات الغربية. كما يتناول تأثير الشعبوية على قضايا أخرى، مثل حماية البيئة، الرعاية الاجتماعية، الدين، والحركات الاجتماعية، بالإضافة إلى دور وسائل الإعلام.
عبد الكريم امنكاي[1]
على الرغم من أن اليمين الراديكالي الشعبوي شكّل منذ ثمانينيات القرن الماضي أحد أكثر المواضيع البحثية دراسة في العلوم السياسية، إلا أن وصول دونالد ترامب إلى الرئاسة الأمريكية مطلع عام 2017 فتح المجال لكمٍّ غير مسبوق من الأعمال الأكاديمية حول الشعبوية، إلى درجة يصعب حصرها أو تتبعها حتى على المتخصصين. المئات، إن لم تكن الآلاف، من المقالات المحكمة والكتب والندوات والمؤتمرات تناولت الموضوع، قد يصاب المرء معها بتخمة معرفية ويصبح عاجزًا عن تبين أهم الخلاصات التي توصلت إليها الدراسات حول الشعبوية.
في هذا السياق، تبرز أهمية كتاب "المقابلات الشعبوية: حوار مع خبراء رائدين"[2] الصادر عن دار راوتلج عام 2023 لمحرره لوكا مانوتشي[3]، الذي يسعى من خلال ثلاثين مقابلة مع زمرة من كبار المتخصصين في دراسة الشعبوية إلى استجلاء حال المعرفة العلمية حول الشعبوية، على الأقل في السياق الغربي. تهدف هذه المراجعة إلى استعراض أهم الأفكار المطروحة في الكتاب، والوقوف على كيفية إسهام المعرفة المتراكمة حول الشعبوية في سياق غير عربي لفهم تمظهراتها في المنطقة.
الشعبوية: ما بين المفهوم والتفسير
بغض النظر عن ضخامتها وتعدد مقارباتها النظرية والإمبريقية، بل وحتى الأيديولوجية، فإن دراسة الشعبوية على مدى العقود الأربعة الماضية قلّما حادت عن الاهتمام بثلاثة تساؤلات كبرى. أولها: ما هي الشعبوية؟ وهل هي ظاهرة مستجدة؟ ثانيها: ما العوامل التي تفسر ظهورها ونجاحاتها الانتخابية في بلدان معينة، وغيابها وفشلها في سياقات وطنية أخرى؟ ثالثها: ما علاقة الشعبوية بظواهر سياسية أو مجتمعية أو فردية، مثل القومية، الجندر، الإيمان بنظريات المؤامرة، وما إلى ذلك؟ لا غرابة إذن أن يهيكل لوكا مانوتشي المقابلات التي أجراها في كتابه إلى ثلاثة أجزاء تحاكي تقريبًا هذه التساؤلات الكبرى حول الشعوبية.
حول سؤال "ما هي الشعبوية؟"[4] يجمع غالبية المتخصصين على إمكانية التمييز بين ثلاث مقاربات أساسية في مَفهَمة لشعبوية. أولها المقاربة الاستراتيجية، التي ترى في الشعبوية استراتيجية-انتخابية تهدف إلى تجييش المواطنين ضد النخب من أجل الوصول إلى السلطة أو البقاء فيها. ثانيها المقاربة الخطابية، التي ترى في الشعبوية نمطًا خطابيًا يعتمد على توظيف الأدوات اللغوية والرموز الإيحائية ومهارات الإلقاء لكسب تأييد الجماهير من قِبَل زعيم كاريزماتي. وثالثها المقاربة الفكرية، التي تدفع بأن الشعبوية هي بمثابة أيديولوجيا متمحورة حول ثلاث أفكار جوهرية: معاداة النخب ومركزية إرادة الشعب في العملية السياسية والنظرة المانوية للعالم.[5] بدون منازع، تعد المقاربة الفكرية الأكثر حضورًا في الأبحاث خلال السنوات الأخيرة، إذ أسهمت في تحقيق قفزة مهمة في الدراسة الإمبريقية للشعوبية؛ لأنها لا تقتصر على قياس مدى حضور الأفكار الشعبوية في البرامج الانتخابية للأحزاب والخطابات،[6] بل تتعداها إلى معرفة مدى انتشار التوجهات الشعبوية بين الأفراد.[7]
من بين الأسئلة التي تبرز بمجرد القبول بتعريف معين، يبرز السؤال المتعلق بما إذا كانت الشعبوية ظاهرة خاصة بالمجتمعات السياسية المعاصرة. والجواب قطعًا هو لا. ففي الولايات المتحدة الأمريكية، تعود الإرهاصات الأولى للشعبوية إلى القرن التاسع عشر، وقد اتخذت وجهين. من جهة، كانت هناك شعبوية معادية للمهاجرين نشأت بين الأمريكيين البيض البروتستانتيين، الذين شكّلوا نواة ما عُرف بـ"بالحزب الأمريكي". ومن جهة أخرى، ظهرت شعبوية معادية للنخب الرأسمالية بين الفلاحين الأمريكيين، وتمأسست في "حزب الشعب".[8] في نفس الفترة تقريبًا، شهدت فرنسا تطور أولى صور الشعبوية اليمينية القومية المعادية للأجانب واليهود، من خلال ما سُمّي بالحركة البولونجية، نسبة لزعيمها الجنرال جورج إرنست بوولنجر[9]. منذ ذلك الحين، أصبح الفكر القومي المعادي للمهاجرين عصبًا للعديد من الحركات والأحزاب الشعبوية اليمينية التي تعززت في العديد من الدول الأوروبية خلال العقود الأخيرة، بل وصلت إلى حد الهيمنة على السلطة، كما في حالة رئيس الحكومة المجري فيكتور أوربان.[10]
لكن هل هذا يعني أن الشعبوية كأيديولوجيا يمكن اختزالها في معاداة " لآخر" وافد؟ حتمًا، لا.[11] فإذا كانت الشعبوية ترتبط حاليًا في عدد من السياقات الوطنية الغربية بالأحزاب القومية اليمينية المعادية للمهاجرين وذوي الأصول الأجنبية، خاصة المسلمين منهم،[12] فإن هناك أيضًا شعبوية يسارية ازدهرت في دول مثل إسبانيا واليونان في أعقاب الأزمة الاقتصادية والمالية التي ألمت بالعالم بعد عام 2008. وعليه، ينبهنا بول تغارت، في حواره مع المحرر، وهو أحد أشهر المتخصصين المعاصرين في الشعبوية، إلى ضرورة الحذر من الخلط المفاهيمي بين الشعبوية ومفاهيم أخرى، والعناية بدراسة الاختلاف بينها.[13] على سبيل المثال، ما الفرق بين اعتبار النخب متآمرة على مصالح الشعب كأحد أبعاد الشعبوية كأيديولوجيا، وبين الإيمان بنظرية المؤامرة كظاهرة سوسيو-نفسية؟ خصوصًا، وأن الظاهرتين تبدوان متلازمتين على مستوى الأفراد.[14]
طرحت النجاحات الانتخابية للأحزاب والسياسيين الشعبويين على مدى العقود الماضية سؤالًا حول الأسباب الكامنة وراء هذه النتائج. يخصص الكتاب قسمه الثاني لهذه المسألة باستعراضه أهم التفسيرات التي قدمت للظاهرة الشعبوية والتي يمكن إجمالها في نوعين من التفسيرات. بداية، تلك التي ركزت على العوامل ذات الطابع البنيوي، كالاختلافات بين الدول في سياقاتها المؤسساتية أو السياسية أو المجتمعية أو الاقتصادية، وما يترتب عن ذلك من خلق بيئة ملائمة لصعود الشعبوية انتخابيًا من عدمه. من الأمثلة على هذه العوامل: أولاً، تجذر تاريخي للشعبوية في البلد، كنتاج لحكم فاشي سابق.[15] ثانيًا، اختفاء التبيان الأيديولوجي بين أحزاب اليمين واليسار التقليدية.[16] ثالثًا، ظهور استقطاب أيديولوجي في الفضاء السياسي حول قضايا مجتمعية.[17] رابعًا، دور الإعلام في نشر الخطاب العنصري والمعادي للمهاجرين.[18]
ركزت تفسيرات أخرى على العوامل الفردية، فرأت أن التغييرات السوسيو-اقتصادية الناتجة عن العولمة تسببت في تقهقر حقيقي أو متخيل في الوضع المعيشي لأفراد المجتمع الأكثر هشاشة، مما جعلهم ناقمين على النخب التقليدية وبالتالي أكثر تقبلًا للخطاب الشعبوي المعادي لهذه النخب.[19] نجد أيضًا أن بعض الباحثين أرجعوا الصحوة الانتخابية للزعماء الشعبويين إلى نجاح هؤلاء في تجييش عواطف المواطنين، مثل الإحساس بالغُبن والغضب والخوف، عبر خطاب تبسيطي[20] لا يخلو من الحدة والتهجم على "الآخر"، أو حتى الغلظة، والذي يجد صدى كبيرًا لدى تلك الفئة من المواطنين الذين تميل شخصياتهم أصلاً نحو الحدة.[21] تجدر الإشارة إلى أن الأبحاث الإمبريقية حول الشعبوية في السنوات الأخيرة لم تقتصر على تفسير النجاحات الانتخابية للشعبويين أو التعرف على السمات المميزة لقواعدهم، بل برز الاهتمام أيضًا بعلاقة التوجهات الشعبوية بمواقف الأفراد تجاه عدد من القضايا مثل التغير المناخي[22] وجائحة كورونا في أعقاب ظهورها سنة 2020.[23]
دراسة الشعبوية في العالم العربي: حاجة ملحة أم مفهوم مستورد؟
لعقود طويلة، كانت أوروبا والأمريكتين الحيز الجغرافي الأساس الذي انصب عليه اهتمام المتخصصين في دراسة الشعبوية. لكن هذا الوضع بدأ يتغير خلال السنوات الأخيرة، خصوصًا بعد وصول ساسة مثل رئيس الوزراء الهندي الحالي ناريندرا مودي، والرئيس الفلبيني السابق رودريغو دوتيرتي إلى سدة الحكم في بلدانهم، والذين دخلوا قائمة الشعبويين المتعارف عليها بين الدارسين لهذا المجال.
في العالم العربي، وجد المصطلح طريقه بدايةً إلى الإعلام، ثم إلى الأبحاث العلمية، خاصة بعد انتخاب الرئيس التونسي قيس سعيّد سنة 2019، وإن كان بشكل خجول لا يخلو من ارتباك مفاهيمي. تقليديًا، استُخدم المصطلح منذ ستينيات القرن الماضي في حقل دراسات الشرق الأوسط، خصوصًا الأمريكي منه، لتوصيف تلك الأنظمة العربية التي اتسمت بوجود زعيم كاريزماتي يدفع بالأيديولوجيا القومية العروبية والخطاب المعادي للإمبريالية، مثل جمال عبد الناصر في مصر وهواري بومدين في الجزائر. وقد تميزت هذه الأنظمة بدعم شعبي واسع بفضل السياسات الاجتماعية التي تبنتها،[24] كما جعلت من الجيش بشكل أو بآخر عماد مؤسسات الدولة وقاعدة حكمها. على الجانب الآخر، برز استخدام الشعبوية لتوصيف تيار أو زعيم سياسي برز في سياق أزمة سوسيو-اقتصادية وسياسية مركبة، ولّدت غضبًا شعبيًا غير مسبوق وفقدانًا للثقة في النخب السياسية الحاكمة، مما مكن ذلك الزعيم أو التيار من تحقيق نجاحات انتخابية كبيرة. من الأمثلة على ذلك الرئيس قيس سعيّد في تونس، و التيار الصدري في العراق، أو حتى، في مرحلة ما، رئيس الحكومة المغربي الأسبق عبد الإله بنكيران.
هنا، يُطرح السؤال: ما الفائدة التي يمكن أن يجنيها القارئ العربي من كتاب جل المحاورين فيه يعرضون خلاصات أبحاثهم حول الشعبوية في سياق الديمقراطيات الليبرالية الغربية؟ والتي هي أبعد ما تكون عن واقع العالم العربي، سواء من حيث هيمنة الأنظمة السلطوية فيه، أو من حيث التوظيف التاريخي للمصطلح في وصف أنظمة عربية اختفت منذ عقود. بعبارة أخرى، ألا يمكن اعتبار توظيف مصطلح الشعبوية في وصف وتحليل ظواهر سياسية في العالم العربي هو مجرد تمظهر آخر لظاهرة "الاستيراد المفاهيمي" في العلوم الاجتماعية العربية، مع تجاهل واضح لحقيقة "خصوصية" المنطقة؟
في حقيقة الأمر، وإن كان لهذا التحفظ ما يبرره، فإننا نرى أن الوقوف على الدراسات التي تناولت الشعبوية خارج العالم العربي أمر لا غنى عنه للباحثين الراغبين في دراسة الحالات السياسية التي أشرنا إليها، حتى بالنسبة لأولئك الذين يسعون إلى إثبات عدم صلاحية المفهوم كأداة تحليلية، وذلك لسببين على الأقل. أولاً، وكما استعرض كتاب لوكا مانوتشي، فإن مفهوم الشعبوية رغم أنه كان ولا يزال محل نقاشات واسعة ومقاربات متعددة، فإن معاداة النخب وضعف الثقة بها تبقى فكرة أو موقفًا حاضرًا بقوة لدى كل التيارات الشعبوية عبر العالم، ولا يحتاج المرء إلى بذل جهد كبير للإقناع بوجود انخفاض كبير في مستوى الثقة السياسية في العالم العربي، وأن التوجس من النخب حاضر بقوة في مجتمعاتنا. قد لا تكون بالضرورة العوامل الكامنة وراء هذا الوضع هي نفسها التي وقف عليها الباحثون في السياقات غير العربية، ولكن لا نرى مبررًا منطقيًا لرفض النظر في "النظريات الغربية" التي حاولت شرح التوجهات الشعبوية في مجتمعاتها. خصوصًا تلك النظريات التي ركزت على دور الهشاشة الاجتماعية والإحساس بالغبن في محاولة فهم هذه الظاهرة، وذلك على الأقل إلى أن تُبرز معطيات إمبريقية من المنطقة تثبت عدم صلاحية هذه النظريات والتفسيرات أو تقترح بديلاً لها.
ثانيًا، إن انتشار السلطوية في العالم العربي، إلى جانب غياب الديمقراطية الليبرالية، لا يكفي كمبرر لرد المعارف التي أنتجت في سياق غير عربي عن الشعبوية. فمن جهة، كثير من الحالات السياسية المستجدة التي وصفت بالشعبوية في العالم العربي ليست منفصلة تمامًا عن الانتخابات، سواء في تونس أو العراق أو حتى لبنان والمغرب. ومن جهة أخرى، يتبين من قراءة الكتاب أن السلطوية تتقاطع مع الشعبوية حتى في السياقات غير العربية، مثل أوروبا الشرقية أو أمريكا اللاتينية وآسيا، حيث نجد أمثلة معاصرة على ذلك في دول مثل المجر وبولندا وفنزويلا والبرازيل والفلبين.
خلاصة القول، سيجد القارئ لكتاب "المقابلات الشعبوية: حوار مع خبراء رائدين"، مدخلًا سهلاً لدراسة الشعبوية والنقاشات الأكاديمية حول هذه الظاهرة. وعلى الرغم من أن الكتاب يركز أساسًا على الشعبوية في السياق الغربي، فإن قراءته ستدفع لا محالة المهتمين بالسياسة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا إلى التساؤل حول التقاطعات الممكنة مع صعود بعض التيارات والزعامات السياسية في المنطقة خلال السنوات الأخيرة. كما ستثير تساؤلات حول مدى صحة الطرح القائل بأن الشعبوية ظاهرة كونية،[25] وأن التفسيرات المقدمة لها تتجاوز نطاق السياق الذي طُورت فيه.