يعرض أحمد أبو زيد في كتابه "ثورة غير مرغوب بها"، منظورًا جديدًا لثورات الربيع العربي، من خلال إعادة توجيه نظريات العلاقات الدولية ودراسات الشرق الأوسط، معتمدًا على العمل الميداني والإثنوغرافي. يُقيّم الكتاب موقف هذه النظريات من ثورات الربيع العربي، مستندًا إلى بحوث محلية، ويقدم رؤية نقدية لأسباب فشلها وصعود الثورات المضادة وترسيخ الاستبداد، مع استشراف احتمالات انتعاشها مجددًا في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
إبراهيم فوزي [1]
بالحديث عن ثورات الربيع العربي، تظهر عشرات التساؤلات التي تتجاوز الأجوبة التي قد يصل إليها الباحثون في هذا المجال. يمثل كتاب "ثورة غير مرغوب بها: الانتفاضة العربية في مصر- تحليل ثلاثي المستويات"[2] الصادر أواخر عام 2023، ثمرة عمل شاق قائم على البحث والتجربة الشخصية. خلال عقد من الزمن، أجرى أحمد أبو زيد نحو 250 مقابلة شخصية، مما أنتج أطروحة سردية تسلط الضوء على تجربة الثورات العربية عمومًا، وثورة يناير خصوصًا، ليصبح الكتاب أحد أبرز الأعمال التي تناولت الثورة المصرية بموضوعية.
على الرغم من أن هذا الكتاب ينتمي إلى مجال العلاقات الدولية والسياسة الخارجية، غير أنه يُعد، بشكل أو بآخر، تأريخًا شخصيًا. في حوار مع New Books Network، يقول أبو زيد:
كنت قد بدأت العمل على كتابي الأول عن السياسة الخارجية المصرية بعد ثورة يناير، والذي قد يكون الكتاب الوحيد باللغة العربية الموجه بالكامل لتحليل العلاقة بين الثورة والسياسة الخارجية المصرية بعد 2011. بصراحة، شعرت بالخجل عندما استرجعت أيامنا في ميدان التحرير وما شهدناه من أحداث جسام، غير معتادة أو مسبوقة بأي شكل. نادرًا ما يكون الباحث أو الباحثة شاهدين على مثل هذه الأحداث، فضلًا عن أن يكون منخرطًا فيها. تذكرت علاقتي بالناس، والتحول الذي أحدثه هؤلاء المتظاهرون، والذي عدّه الكثيرون شبه مستحيل، وكيف أنني كباحث في العلاقات الدولية – وكان منهجي واقعيًا ووضعيًا وقتها – لاحظت كيف "مُحيَت" قصص، ومعاناة، وتضحيات هؤلاء البشر من التحليل الذي قدمته أغلب أدبيات العلاقات الدولية، وما زالت تعيد إنتاجه وتكراره حتى اليوم. ومن هنا، بدأت فكرة هذا الكتاب في التبلور. وكانت البداية مع فصل عن الثورة في الصعيد. ولقد بدأت العمل على هذا الكتاب منذ أواخر عام 2012 وحتى بداية عام 2022.
إشكالية وتساؤلات
بينما تُشدد أغلب النظريات والتحليلات في حقل العلاقات الدولية على العلاقة بين الثورات والديمقراطية، أو بين الاستقرار والتنمية، يظل تمثيل أو حضور الجمهور/ العامة ومناقشة أمنهم الشخصي والمجتمعي، وتأثير التحولات المحلية والإقليمية على حياتهم ومعاناتهم، شبه غائب في الأدبيات السائدة. بعبارة أخرى، بالرغم من تركّز أغلب أدبيات الثورات على دور القوى الاجتماعية، فإن هذه النقاشات تغيب إلى حد كبير في مجال السياسة الخارجية والعلاقات الدولية في مرحلة ما بعد الثورات.
إن السؤال الرئيس الذي يحاول الكتاب الإجابة عنه هو: لماذا يغيب "العامة" أو "الناس العاديون" عن التحليلات التي تقدمها نظريات العلاقات الدولية (سواء الوضعية أو النقدية) حول التطورات الجارية في النظام الدولي، خصوصًا في دراسة العلاقة بين الثورات والسياسة الخارجية أو العلاقات الدولية؟ وينبثق من هذا التساؤل عدد من الأسئلة الفرعية، من مثل: ما الأسباب التي تجعل الثورات تفشل؟ ما الدور الذي تمارسه القوى الاجتماعية الداخلية والقوى الدولية والإقليمية في إفشال الثورات؟ وهل هناك تقاطعات بين هذه المستويات؟ وما هي طبيعة هذه العلاقات والتقاطعات؟ وأخيرًا، ما هي أوجه القصور الرئيسة في نظريات العلاقات الدولية عند تناول هذه القضايا؟ وكيف يمكن تجاوز العيوب المنهجية؟
لماذا فشلت ثورة يناير من وجهة نظر الكاتب؟
عبر التركيز على دراسة حالة ثورة يناير في مرحلتها الأولى (2011-2013) ومرحلتها الثانية أو مرحلة الثورة المضادة (2013-)، يرى أبو زيد أن أحد الأسباب الرئيسة وراء تعثر الثورة، أو حتى فشلها، بل وقمعها بالتأكيد يعود إلى التقليل من الدور الذي لعبته القوى الإقليمية (بدرجة أكبر) والدولية (بدرجة أقل)، من خلال تحالفها مع بعض القوى المحلية (المحافظة والعسكرية)، متجاهلةً ما أسماه الكاتب "تلبية الحاجات الأساسية" لغالبية السكان في الداخل.
أدى هذا الفشل وعدم الفاعلية إلى إفشال الثورة، كما أسهم في عدم قيام ثورة في منطقة صعيد مصر مقارنة ببقية مناطق مصر المعدمة والمحرومة والمستبعدة اقتصاديًا واجتماعيًا، بالرغم من كل التوقعات – بل والتأكيدات – بأن قيام ثورة في الصعيد كان أمرًا حتميًا. وفقًا لرأي الكاتب، يعود تفسير ذلك إلى عدد من الأسباب من بينها: الحضور الطاغي للدولة والأجهزة الأمنية، وفقدان الأمل، وفاعلية الاقتصاد الشعبي/غير الرسمي في تلبية الحد الأدنى من الاحتياجات الأساسية، وإرث العنف والقمع والاستبعاد الاجتماعي المفروض على الصعيد، وأخيرًا الطبيعة المحافظة (وربما حتى الرجعية) للقوى الاجتماعية – وليس العامة – في الصعيد.
أما على المستوى الخارجي، فقد كان هذا الفشل نتيجة لتخوف القوى الإقليمية والدولية المحافظة من قوة الدفع الذاتية التي أوجدتها هذه الثورات. استغلت هذه القوى – بصورة منظمة ومخططة – النقص الحاد والفشل الكامل لنظام وحكومات ما بعد الثورة في مصر في توفير "الاحتياجات الأساسية" من أمن واستقرار وغذاء، وغيرها، للضغط على الحكومات المصرية المتعاقبة منذ شباط/ فبراير 2011 لتحويل مسار التحول الديمقراطي، بل وإجهاضه بما يخدم مصالحها المتمثلة في الحفاظ على أمن واستقرار المنطقة، وتدعيم وجود نظم استبدادية تحافظ على السلطة ولا تسعى لتغيير الأوضاع القائمة. تحقق ذلك بالأساس من خلال التلاعب بسلاح المساعدات، والمنح، والمعونات الاقتصادية، والقروض. وفي هذا السياق، يتحدث أبو زيد في فصلين كاملين عن نموذجين من القوى الإقليمية في منطقة الخليج العربي، هما نموذج قطر ونموذج الإمارات، وإلى حد ما السعودية؛ إذ يرى أن النهج السعودي في التعامل مع الثورة المصرية أقرب إلى النموذج الإماراتي منه إلى النموذج القطري.
سيناريو الكتاب
قُسّم الكتاب إلى خمسة فصول، موزعة على محورين رئيسيين. المحور الأول هو دراسة واشتباك نظري، من منظور ما بعد كولونيالي وديكولونيالي، مع النظريات السائدة في العلاقات الدولية، وتحديدًا الواقعية والليبرالية الجديدة والبنائية. حيث يقدم أبو زيد مناقشة ونقدًا للأطروحات والأدبيات التي أنتجت منذ عام 2011 فيما يتعلق بالثورات والعلاقات والسياسة الخارجية المرتبطة بحالات من ثورات الربيع العربي، وذلك من خلال إلقاء الضوء على كشف مغالطات التركيز المبالغ فيه على الدراسات الأمنية والاقتصاد السياسي والمؤسسي التي قدمتها هذه التيارات النظرية في دراستها لثورات الربيع العربي.
علاوة على ذلك، ينتقد أبو زيد في هذا المحور الأطروحات التي قدمتها المدرسة النقدية في العلاقات الدولية بشقيها: الأول، نظرية العلاقات الدولية النقدية[3] وهي الاتجاه القائم على تبني إرث وأفكار مدرسة فرانكفورت الاجتماعية التي تركز على نقد التيارات النظرية الوضعية، وتسعى لتطبيق أفكار مدرسة فرانكفورت باعتبارها البديل المقترح لهذه التيارات في حقل العلاقات الدولية. والثاني، النظرية النقدية في العلاقات الدولية[4]، التي تشير إلى الاتجاه الذي يركز على نقد عيوب نهج المادية الجدليّة السلبي حول أصول الاستبداد الاجتماعي لمدرسة فرانكفورت، من خلال اعتماد مجموعة من مفاهيم وافتراضات تيار الليبرالية المؤَسّسية. ركزت هذه النظريات على الاشتباك النقدي مع كل من المدخل الجرامشي الجديد (Neo-Gramscian) والمدخل الهابرماسي(Habermasian) في دراسات العلاقات الدولية والسياسة الخارجية، فيما يتعلق بتطبيقاتها على ثورات الربيع العربي.
عقب ذلك، يقدّم أبو زيد مجموعة من الانتقادات المنهجية والمعرفية التي تكشف عن قصور هذه النظريات الغربية، والتي تشير إلى أزمة حقيقية يعاني منها حقل العلاقات الدولية المتمركز حول أوروبا، خصوصًا فيما يتعلق بدراسة الثورات والعلاقة بين الثورات والسياسة الخارجية (أو التقاطع بين التحولات المحلية والتغيرات الخارجية في النظم الدولية والإقليمية بلغة العلاقات الدولية)، وفيما يتعلق بدراسة دول الجنوب العالمي، والعالم العربي، وثورات الربيع العربي باعتبارها نموذجًا لهذه المغالطات.
من أهم النتائج التي توصل إليها أبو زيد في هذا المحور أن نظريات العلاقات الدولية المتمركزة حول أوروبا، في دراستها للتحولات والتغيرات التي حدثت في العالم العربي، شابتْها مجموعة من العيوب المنهجية (الأنطولوجية والمعرفية معًا). هذه القصور المعرفية والمنهجية أدت إلى فشل تحليلي وتفسيري في فهم هذه الظاهرة والتحولات التي جرت في المنطقة على مدى أكثر من عقد. ولعل أهم هذه العيوب والقصور هي: المغالطة المعرفية (Cognitive Fallacy)، ومغالطة المركزية الأوروبية (Eurocentric Fallacy)، ومغالطة مركزية الحداثة والتنوير (Modernity/Enlightenment Fallacy)، ومغالطة الطبيعة الأحادية للحوار/المونولوج (Monologic Fallacy)، والمغالطة التربوية (Pedagogical Fallacy)، ومغالطة سوء تمثيل موقع العالم العربي (The [Mis]representation and [Mis]location of the Arab World)، ومغالطة الطبيعة غير التاريخية في دراسة المنطقة (The Ahistorical Perspective)، وأخيرًا مغالطة تطبيق نظريات العلاقات الدولية على دراسة المنطقة دون مراعاة خصوصيتها (The Fallacies of Applying IR Theories to the Study of the Arab World).
أما المحور الثاني من الكتاب فهو دراسة تطبيقية على الحالة المصرية (2011-2022) من خلال مستويات التحليل الثلاثة المعروفة في نظرية العلاقات الدولية كما قدمها كينيث والتز في كتابه "الإنسان والدولة والحرب"[5] الصادر عام 1959، وتوسع فيها ج. ديفيد سنجر في مقالة منشورة في عام 1961، وعنوانها: "مشكلة مستوى التحليل في العلاقات الدولية".[6] وهذه المستويات هي مستوى الأفراد، مستوى الدولة، ومستوى النظام.
يتناول الفصل الأول من هذا المحور حالة "اللا ثورة" في صعيد مصر. ويناقش فصل آخر العلاقة بين الثورة وعملية صنع قرار السياسة الخارجية في مصر عقب ثورة الخامس والعشرين من يناير 2011. وهنا يقدم أبو زيد إطارًا تحليليًا لقياس وتقييم مدى فاعلية السياسة الخارجية معتمدًا على مجموعة من المتغيرات والمؤشرات التحليلية تشمل: الخيارات القومية (National Choices)، والأداء القومي للحكومات (National Performance)، وطبيعة السياسة المحلية (Domestic Policy)، ونوع النظام (Regime Type)، والعلاقات المدنية - العسكرية (Civil-Military Relations)، وحجم المشاركة العامة (Public Participation)، والاستراتيجية الوطنية (National Strategy).
ثم يقدم أبو زيد ثلاثة فصول تحليلية للعلاقات الخارجية المصرية عقب ثورة يناير 2011، مع التركيز بشكل خاص على العلاقات المصرية – الخليجية. ويستعرض التحولات الجذرية التي شهدها النظام الإقليمي العربي، والنظم الفرعية، مثل النظام الإقليمي الخليجي الناتج عن صعود وتعاظم نفوذ القوى الخليجية منذ بداية الألفية. كما يناقش دور القوى الدولية في دعم وتعزيز هذا التحول، وكيف أثّر ذلك على تراجع الدعم والمساندة التي كانت تتمتع بها مصر سياسيًا ودبلوماسيًا وعسكريًا على الصعيد الإقليمي والدولي، خاصة بعد عام 2011. يشير الكتاب إلى وجود مؤشرات واضحة على هذا التراجع حتى قبل ثورات الربيع العربي. كما تعرض الفصول الثلاثة العلاقة الارتباطية بين تزايد القوة الاقتصادية والمالية والناعمة لدول الخليج العربية وفشل ثورة يناير، وتلقي الضوء على تراجع مكانة مصر كقوة إقليمية كلاسيكية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
في الختام، يقدم الكتاب ملخصًا عامًا لحالة حقل العلاقات الدولية فيما يتعلق بدراسة منطقة الشرق الأوسط وثورات الربيع العربي. ويخلص إلى الحاجة الملحة لإعادة النظر في الأسس المعرفية لدراسة هذه الظواهر؛ وذلك من خلال تفكيك استعمار المعرفة السائد في حقل دراسات الثورات، والسياسة الخارجية، والعلاقات الدولية بشكل عام. يدعو أبو زيد إلى التحول من نموذج "مركزية الدولة" إلى نموذج "مركزية البشر"، وهو نموذج معرفي أكثر إنسانية يعطي الأولوية لدراسة حياة البشر وتأثير التحولات الدولية عليها.
[3] Critical International Relations Theory.