يقدم آلان ميخائيل في كتابه "أرشيفي المصري" دراسة نقدية للحالة المصرية المعاصرة من خلال تجربته الشخصية في دار الوثائق القومية. يكشف الكاتب عن عالم خفي من الوثائق والأسرار، ويحلل البنية السياسية والاجتماعية في مصر ويسرد حكايات عن البيروقراطية والفساد المستشري في المجتمع.
دينا عزت1
كان الشغف بذلك الماضي الذي يربطه بمصر، البلد الذي ولد ونشأ فيه والداه اللذان هاجرا في السبعينيات إلى الولايات المتحدة، سببًا مباشرًا لرحلة قام بها آلان ميخائيل إلى مصر بوصفه باحثًا في التاريخ. في الأعوام الأولى من الألفية الجديدة، وصل الشاب الأمريكي، الذي يحمل جواز سفر مصري وبعض مشاعر الارتباط بالبلد، إلى القاهرة وتمكن، بعد صعوبات عدة، من الحصول على إذن لدخول دار الوثائق القومية حيث تردد كل يوم من أيام الأسبوع على غرفة الاطلاع لتبدأ فصول حكايات متوازية وشيقة تشمل مشاهد من عنصرية وتحلل البيروقراطية المصرية ومشاهد من واقع الحال في مصر في العقد السابق لثورة يناير 2011 وبالطبع من أروقة دار الوثائق.
لم يكشف ميخائيل الكثير عما كان يتوقعه عند زيارته دار الوثائق القومية في مصر، إلا أن دهشته الظاهرة طوال صفحات الكتاب تخبر القارئ عن أن الكثير مما رآه كان غير متوقع، بل مدهشًا. أكثر ما أثار انتباه الشاب كان التباين الصارخ بين اعتزاز المصريين بتاريخهم العريق، وبين واقعهم المعاصر الحافل بالتحديات. فالمصريون يبدون فخرًا كبيرًا بتاريخهم، وإن كانوا لا يملكون بالضرورة معرفة شاملة به، لكنهم يستمدون منه شعورًا بالهوية والقوة. في المقابل، يعيشون في واقع يشوبه الركود السياسي والاجتماعي، مما يولد لديهم شعورًا بالإحباط والاستياء. ويشير الكتاب إلى أمر آخر مثير للاهتمام وهو التناقض بين فخر المصريين بتاريخهم وتقبل الكثير منهم لأوضاع مهينة، تصل في بعض الأحيان لأشكال من الاضطهاد والتعذيب وكثير من التهميش، وكأنهم يقبلون بهذا الواقع كأنه قدر لا يمكن تغييره.
بالطبع لا يفوت قارئ كتاب "أرشيفي المصري"2 موقف الباحث / الكاتب من "مدام آمال"، مشرفة غرفة الاطلاع بدار الوثائق القومية، التي تعد شخصية محورية في تجربته. لا تتوقف أهمية هذه الشخصية عند كونها مجرد موظفة في دار الوثائق، بل تتجاوز ذلك لتصل إلى كونها تجسيدًا حيًا للبيروقراطية المصرية في أسوأ صورها. تُظهر الرواية أن مدام آمال تتمتع بسلطة مطلقة داخل غرفة الاطلاع، فهي قادرة على تسهيل الإجراءات أو عرقلتها حسب مزاجها. تتعامل مع كل شي وكل شخص حولها من منظور التراتبية البحتة، ولا تنسى أبدًا بين وقت وآخر أن تفرض سطوتها وتستعرض القدرة على فرض السطوة كلما كان ذلك متاحًا. باختصار، مدام آمال تتيح وتمنع، توبخ وتبتسم وتقرر من يمكن له الحديث في غرفة المطالعة عبر هاتفه المحمول، في تجاوز للقواعد المقررة، ومن يجب عليه مغادرة القاعة فورًا في حال ما اضطر للرد على مكالمة هاتفية.
في أثناء استقراره في القاهرة لعدة سنوات لإجراء البحث الذي قدم من أجله، وجد آلان ميخائيل نفسه يقارن في كتابه، بشكل ضمني، بين شخصيتين: مدام آمال، مشرفة غرفة الاطلاع، والرئيس المصري حسني مبارك وزوجته سوزان السيدة الأولى. وربما هناك أوجه تشابه من حيث وجود مبارك على رأس الحكم ووجود مدام آمال، التي يبقى اسمها غير مرفق باسم العائلة، في موقع القيادة في غرفة الاطلاع. وأيضًا بين التوازي بين قرارات مدام آمال الأحادية غير القابلة للرد أو الرفض وتلك التي يصدرها الرئيس، وأحيانا وفقًا لما يقول الكاتب، السيدة الأولى.
لكن التقديرات التي يضعها آلان ميخائيل في صفحات كتابه المئة وتسعة وسبعون حول طريقة ممارسة الرئيس والسيدة الأولى للسلطة تبدو مبنية على انطباعات عامة وافتراضات غير مدعومة بأدلة قوية في كتابه، وهي بالتالي جزء من سياق الانطباعات والآراء التي يقول الكاتب أنه كان يسمعها هنا وهناك بصورة متكررة من سائقي تاكسي القاهرة ومن القائمين على تقديم الشاي والقهوة للباحثين، الذين يعملون ساعات طويلة بالنظر إلى تعقيدات عملية الحصول على الوثائق المطلوب الاطلاع عليها، إذا لم تكن ضمن وثائق محجوبة بقرار سيادي.
بعيدًا عن دقة تقديرات الباحث لطريقة حكم مبارك أو مقدار نفوذ السيدة الأولى، فإن الكتاب يرسم تناصًا بديعًا بين عجز نظام البحث والاطلاع في دار الوثائق المصرية عن مواكبة التطورات التكنولوجية، وبين حالة الركود التي خيمت على مصر في عهد مبارك، خاصة في العقد السابق لثورة يناير، وهو العقد الثالث من حكمه. كما يعكس الكتاب التناص الموازي بين آليات التمييز التي تسيطر على غرفة المطالعة وتلك المنتشرة في المجتمع، لتبدو كلمة "غير العادلة" واحدة من أكثر الكلمات تكرارًا في كتاب ميخائيل. تتوازى قصص الفساد والمحسوبية أيضًا بين أروقة دار الوثائق القومية والمجتمع المصري بأسره.
في الختام، يخلص ميخائيل إلى استنتاجين رئيسين استقاهما من سنوات البحث التي أمضاها في القاهرة مترددًا على دار الوثائق؛ الأول هو أن حق الوصول إلى المعرفة محدود دومًا، وأن الإتاحة ليست الأصل في الأمور. والثاني هو أن المصريين، بالرغم من كل شيء، لا يعدمون الوسيلة لكسر القواعد غير المنطقية، وذلك إما من خلال التعامل على أنها غير موجودة في الأصل، مع الأخذ في الاعتبار أن من يفعل ذلك وهو متمتع بأسباب القوة يعلم أن خرق القواعد لن يعرضه بالضرورة للمسائلة، في حين أن من يفعل ذلك وهو ليس على درجة كافية من التمتع بأسباب القوة، مادية كانت أو معنوية، سيبقى معرضًا للعقاب إن لم يكن التنكيل.
وبذلك، فإن عنوان الكتاب، "أرشيفي المصري"، على الرغم من ارتباطه بدار الوثائق وبسنوات البحث التي أمضاها آلان ميخائيل فيها، يبدو مناسبًا أكثر لما قام به الكاتب من "أرشفة" لحالة البلاد قبل ثورة يناير.