يعد كتاب "هندسة الاحتلال: أرشيف حكومة إسرائيل عام 1967" لعليان الهندي دراسة معمقة لأرشيف محاضر جلسات الحكومة الإسرائيلية المتعلقة بسياساتها تجاه الضفة الغربية وقطاع غزة عشية وغداة حرب 1967. تكمن أهمية هذا الأرشيف في كشف مخططات الاحتلال الرامية إلى السيطرة على ما تبقى من فلسطين وإفراغها من سكانها.
نور بدر1
سمحت الرقابة العسكرية لدائرة الأرشيف الإسرائيلي في عام 2017 بالكشف عن حوالي 150 ألف وثيقة تضمنت مداولات وجلسات الحكومة الإسرائيلية، وخاصة مداولات المجلس الوزاري المصغر للشؤون السياسية والأمنية (الكابينيت) التي سبقت وتلت حرب 1967. تكمن أهمية هذه الجلسات في أنها وضعت الأسس التي بنيت عليها السياسة الإسرائيلية تجاه القضية الفلسطينية حتى يومنا هذا.
يعتمد كتاب "هندسة الاحتلال: أرشيف حكومة إسرائيل عام 1967"،2 في أطروحته على هذا الأرشيف. يتناول عليان الهندي في الفصل الأول مرحلة ما قبل الحرب، مسلطًا الضوء على ما وصفه بـ "أجواء التسخين"، ويستعرض النزاعات الحدودية مع سوريا والتوترات مع الأردن، إضافة إلى تطرقه لتصاعد التوتر بين إسرائيل ومصر. تشكل الجلسات الحكومية ومجلس وزراء الشؤون الأمنية محورًا مهمًا في الكتاب، إذ تُبرز القرارات التكتيكية والسياسية المتعلقة باستعدادات الجيش الإسرائيلي والتحركات الاستراتيجية، بالإضافة إلى الخطط العسكرية المرسومة للتعامل مع الحرب.
ما بين الاحتلال والضم
ينتقل الهندي في الفصل الثاني، المعنون بـ "قرار الحرب"، إلى النقاشات التي دارت بين الحكومة الإسرائيلية الموسعة ولجنة وزراء الشؤون الأمنية حول تدابير الاستعداد واتخاذ القرارات. وقد خوّلت الحكومة صلاحيات مجلس الوزراء للشؤون الأمنية بعد إعلان حالة الطوارئ، إلى المجلس الوزاري المصغر. أُعلنت الحرب، التي استمرت ستة أيام، وعلى إثرها احتلت القوات الإسرائيلية هضبة الجولان السورية وشبه جزيرة سيناء المصرية والضفة الغربية كاملة حتى نهر الأردن.
أما الفصل الثالث، الذي حمل عنوان "الاحتلال"، فقد ضم الوثائق المتعلقة باحتلال الضفة الغربية وقطاع غزة من قِبل الجيش الإسرائيلي، والتي أشارت إلى تقدم القوات بسرعة نحو المدن، ووصولها إلى الحدود الأردنية وقناة السويس. وأنه خلال النقاشات الحكومية، أجاب موشيه ديان على ملاحظة وزير الأديان بشأن ترسيم الحدود الأمنية مع مصر، والذي أشار إلى ضرورة تمكين إسرائيل من السيطرة على شرم الشيخ لمدة 200 عام، قائلًا: "نستطيع السيطرة لـ300 عام". وفي سياق متصل، أعلن ديان أنه أصدر أوامر بقطع مدينة القدس عسكريًا عن الأردن. وفي نهاية الاجتماع في 6 حزيران / يونيو 1967، كانت المدينة كلّها قد خضعت للسيطرة الإسرائيلية، في حين فُرض حصار على البلدة القديمة.
يركز الفصل الرابع، الذي جاء بعنوان "المشاكل المستقبلية لدولة إسرائيل"، على الاجتماع الأول الذي عقدته الحكومة الإسرائيلية في اليوم الثاني للحرب، إذ أصبح واضحًا أن نتائج الحرب تستلزم من إسرائيل إعادة التفكير في تعريفاتها للتوجهات الأمنية والسياسية. وقد حُدِّدَت في هذا الاجتماع مجموعة من المشاكل المستقبلية التي تواجه إسرائيل، وتضمنت: المكانة المستقبلية للضفة الغربية، مستقبل قطاع غزة، مشكلة اللاجئين، مكانة القدس، بقاء السكان في الضفة الغربية وقطاع غزة وطرق حلها، العلاقات مع مصر ومستقبل سيناء وحرية الملاحة في خليج إيلات (العقبة)، هضبة الجولان، والسيطرة على مصادر المياه في بانياس. وفي السياق المذكور، صرح ليفي أشكول أن "السيطرة على منابع المياه اليوم أفضل من سكب الدماء من أجلها غدًا."
انتقل الفصل الخامس إلى مناقشة "مستقبل القدس الشرقية"، متناولاً الأوضاع بعد احتلال مدينة القدس، وقبل إعلان وقف إطلاق النار مع الدول العربية، حيث سعت إسرائيل بكل قوة إلى ترسيخ ما تسميه بـ "الحقائق اليهودية" في القدس بشكل عام، وفي البلدة القديمة بشكل خاص. فيما يتعلق بتعداد السكان في المدينة، فقد أعلن مناحيم بيغن (زعيم المعارضة في ذلك الوقت وعضو حكومة الحرب) بأن إسرائيل أجرت إحصاءً أظهر أن عدد سكان البلدة القديمة يبلغ 23 ألف نسمة، في حين بلغ إجمالي سكان القدس 60 ألف نسمة، عكس ما ذكرته الأردن أنه 100 ألف. من جانبه، أعرب أشكول عن استغرابه من هذه الزيادة، مشككًا في صحة الإحصاء الذي أجرته الأردن، مؤكدًا أنهم أضافوا أرقامًا جديدة. أما ديان فقد أرجع التغيير في أعداد السكان إلى التعديلات التي أجرتها إسرائيل على الخرائط، حيث استبعدت بعض القرى من منطقة القدس وأضيفت أخرى، ورسموا خرائط المدينة كما يرونه مناسبًا.
حمل الفصل السادس عنوان "مستقبل الضفة الغربية"، وورد فيه إعلان ديان أن الحكم العسكري هو السلطة الوحيدة التي تدير شؤون السكان العرب في الضفة الغربية، موضحًا أنهم سيخضعون لسلطة الحاكم العسكري فقط، ولن يكون هناك أي ارتباط مباشر لهم مع الوزارات الإسرائيلية. وهنا، قدم أشكول اقتراحًا بتشكيل لجنة تضم من 5 إلى 6 وزراء تكون مرجعية للحكم العسكري. أما "مستقبل قطاع غزة"، فقد ورد في الفصل السابع موافقة جميع وزراء الحكومة الإسرائيلية على أن قطاع غزة هو جزء من أرض إسرائيل الغربية، وعلى عدم وجود أي سيطرة لمصر في هذه المنطقة. إذ أكد مناحيم بيغن هذا الأمر وأشار إلى ضرورة بذل جهود لإخلاء المنطقة من اللاجئين وتوفير سكن لهم في العريش، وذلك وفقًا لاقتراح إيغال آلون الذي أكد وجوب التخلص من اللاجئين الذين يعيشون في غزة. في نفس السياق، أعرب إلياهو ساسون عن ضرورة منع مصر من التدخل في شؤون الضفة الغربية وقطاع غزة واللاجئين، ومنعها من إقامة هياكل عسكرية في المنطقة. كما أشار إلى أهمية التأكيد على فصل قطاع غزة عن مصر وإلغاء أي دور لها فيه، موضحًا أنه بعد "تحرير" القطاع عاد لسيطرة إسرائيل، ولم يعد لمصر أي دور فيه.
تناول الفصل الثامن مشكلة اللاجئين الفلسطينيين في قطاع غزة والقدس والضفة الغربية، التي نتجت عن العدوان الإسرائيلي على الدول العربية وسعت إسرائيل لاحقًا إلى حل هذه المشكلة بالتخلص منهم. في اجتماعات الحكومة الإسرائيلية، لم يُميَّز بين اللاجئين من عام 1948 أو من عام 1967، كما أن اللغة المستخدمة في تلك الاجتماعات لم تتضمن مصطلح "النازحين" الذي ورد في القاموس العربي، وكانت مشكلة اللاجئين من قطاع غزة، هي المشكلة الأكثر إلحاحًا بالنسبة للوزراء، الذين أجمعوا على ضرورة إخراجهم من هناك، من أجل ضم القطاع لإسرائيل. وحول أعداد اللاجئين صرّح أشكول بعدم معرفته الدقيقة بأعدادهم، وأنها مشكلة نشأت نتيجة سياسات قديمة وأعرب عن استعداده لإخراج جميع العرب إلى البرازيل.
وللتخفيف من مسؤولية إطعام اللاجئين، مُنحت لوزير الدفاع صلاحيات للتفاوض مع الأونروا بشأن استمرار تقديم خدماتها. أعلن ديان عن رغبته في التوصل إلى اتفاق مع الأمم المتحدة بحيث تظل مسؤولة عن دعم اقتصاد اللاجئين في قطاع غزة. وأكد أن ذلك سيكون إنجازًا عظيمًا لإسرائيل، وفي حال رفضت الأمم المتحدة، لن يُحدث ذلك أي تغيير في الوضع الحالي في قطاع غزة. وبالفعل أجريت المفاوضات بين وزير الدفاع الإسرائيلي موشيه ديان والأمم المتحدة بشأن قضية اللاجئين، وتوصل الطرفان إلى اتفاق يتيح للأونروا الاستمرار في العمل في غزة، مع إمكانية جلب الأغذية من القاهرة ونقلها عبر ميناء حيفا. بعد الاتفاق، أعلن ديان أن الأونروا ستتحمل مسؤولياتها، وأن مشكلة الغذاء حُلت، مؤكدًا أنهم "لا يرغبون في إثارة المشاكل ويفضلون أن يأكلوا ويستمتعوا بالهدوء".
الهيمنة على الإنسان والمكان
يصل الكاتب في دراسته إلى نتيجة مفادها أن مخططات الحرب والعدوان على المنطقة، بما في ذلك العدوان على الشعب الفلسطيني وأراضيه، لم تنشأ نتيجة إغلاق مضيق تيران فحسب، بل جاءت في سياق مخطط أوسع أعدته دولة إسرائيل. كان الهدف من هذا المخطط هو السيطرة على منابع المياه في الجولان، واحتلال ما تبقى من فلسطين التاريخية، والسيطرة على المنطقة الممتدة من شرم الشيخ إلى رفح، التي كانت تحت السيادة المصرية آنذاك. ومع فشل إسرائيل في تحقيق هدفها الاستراتيجي بإفراغ الأراضي الفلسطينية من سكانها، واجهت تحديات وأزمات مستمرة، لا سيما في المسار الفلسطيني. فبعد سبعة وخمسين عامًا من الاحتلال، تمكنت إسرائيل من إيجاد حل لمشكلتين: السلام مع مصر والسلام مع الأردن. كانت هاتان المشكلتان من القضايا التي سعت الحكومات الإسرائيلية المختلفة لإيجاد حلول لها منذ نشأتها، في حين ظلت المشاكل المتعلقة بالصراع مع الفلسطينيين وسوريا ولبنان عالقة حتى اليوم.
على الرغم من أن الكتاب قدم كمًا هائلًا من الوثائق التي سبقت وأعقبت حرب 1967، إلا أن التحليل، وبالنظر إلى عنوان الكتاب " هندسة الاحتلال"، لم يفكك بدرجة كافية كيفية ترجمة هذه القرارات إلى واقع ملموس على الأرض، أي كيفية فرض السيادة الإسرائيلية. فـ"هندسة الاحتلال" لا تتوقف عند مجرد التخطيط، بل تتجسد في واقع الحياة اليومية للفلسطينيين. السيادة هنا لا تعني فقط السيطرة السياسية، بل تشمل أيضاً السيطرة على أجساد الناس وعقولهم من خلال خلق ظروف معيشية قاسية تؤثر عليهم بشكل تراكمي. يركز الكتاب بشكل كبير على القرارات السياسية المتخذة في الأروقة المغلقة، لكنه يغفل عن تأثير هذه القرارات على حياة الناس العاديين. من الضروري بالتالي أن نبحث في كيفية ترجمة هذه القرارات إلى واقع ملموس على الأرض، وكيف أثرت على حياة الفلسطينيين اليومية. سيساعدنا هذا على فهم أعمق لآليات الاحتلال وبنائه.
إن فهم الحياة اليومية، وكيفية هندسة الاحتلال من خلال عدسة المعيش اليومي، يأتي كإطار لتحليل واقع الأفراد بربط ذلك بالسياق، أي على المستوى المصغر "الميكرو" وتفاعله مع المستوى الأكبر (الماكرو)، أي "الاستعمار". وعلى الرغم من أن الكتاب يقدم الكثير من الوثائق المفرج عنها من أرشيف حكومة إسرائيل، فإن فهم كيفية فرض السيادة على "الجسد" من خلال فرض السيادة على "المكان الفلسطيني"- التي نوقشت في أروقة السياسة- يتطلب منا العودة إلى ذاكرة الأفراد.
إن هذا الكتاب يعيدنا إلى مرحلة طويلة من الهيمنة على الضفة الغربية وقطاع غزة عبر فرض الحكم العسكري عليهما، بحيث يمكن أن نتعامل مع النكسة ليس باعتبارها حربًا ضمن مرحلة زمنية محددة، وإنما باعتبارها تدميرًا للنظام الاجتماعي الذي اعتاد عليه الناس، وإعادة صياغة نظام آخر ممزق. على هذا النحو يطرح أحمد سعدي في دراسته "الرقابة الشاملة: نشأة السياسات الإسرائيلية في إدارة السكان ومراقبتهم والسيطرة السياسية تجاه الفلسطينيين" أن إسرائيل، باعتبارها ذات باع طويل في أساليب المراقبة والضبط السياسي، كانت ناجحة في ضبط السكان الأصليين مدة زمنية طويلة. فقد أبقت قبضتها المحكمة على كتلة السكان الفلسطينيين في المناطق التي احتلتها عام 1967، وتمكنت أيضًا من احتواء الأقلية الفلسطينية داخل حدود الأراضي التي احتلتها عام 1948 بشكل فعال.
بينما كان الضبط الاستعماري للسكان الأصليين ملمحًا مهمًا من ملامح تاريخ القرنين التاسع عشر والعشرين، فإن استمرار إسرائيل في إدارة كتلة السكان الفلسطينيين في القرن الحادي والعشرين، يمثل تحديًا جديًا أمام دارسي الضبط السياسي والاستعماري ومنظّريه. ومن هنا تأتي أهمية كتاب "هندسة الاحتلال" في العودة إلى المصادر الأصلية الصادرة من الأرشيف لتحليل أسس محاولة ضبط السكان الفلسطينيين، والسيطرة عليهم عبر إخضاعهم لحكم عسكري كنتيجة للنكسة، في الوقت الذي أدار الحكم العسكري الإسرائيلي حياة الفلسطينيين اليومية عبر جملة من الأوامر العسكرية التي شملت كل مناحي الحياة: تعليم، صحة، وزراعة.
الأرشيف كأداة لفهم سياسات إسرائيل الإستعمارية
تكمن أهمية الكتاب في تناوله بعض القضايا التي لم تتطرق إليها الأدبيات الفلسطينية من قبل، ومن أبرزها موضوع الإحصاء السكاني الذي أجرته "إسرائيل" في أعقاب نكسة عام 1967. شكل هذا الإحصاء بنك معلومات جُمع عن الفلسطينيين، بما في ذلك أعدادهم، أعمالهم، ونشاطاتهم. بالاستناد إلى مقاربة ميشيل فوكو، تُظهر الأدوات الإحصائية والمنهجيات العلمية تعاونًا وثيقًا مع آليات الرقابة، حيث تتداخل في مجموعة من الإجراءات المتصلة بمعدلات الوفيات بين السكان، ومتوسط أعمارهم، ومعدلات الخصوبة، والنظافة العامة، بالإضافة إلى التطعيمات والأمراض المنتشرة بينهم. كما يشمل الإحصاء معدلات المواليد، ومستويات البطالة، توزيع القوى العاملة حسب العمر والجنس، قطاعات المهن، ودخل الفرد. وعلى الرغم من أن فوكو يطرح هذه الأفكار في سياق الدولة الحديثة، إلا أنها تتحقق في السياق الاستعماري الاستيطاني في فلسطين، حيث تستخدم المنظومة الإسرائيلية العنف السيادي والسلطة القسرية لتخلق أشكالًا جديدة من الوجود الاجتماعي.
في الختام، يبرز الأرشيف كأداة محورية لفهم السياسات الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين. إذ يُعَد هذا الكتاب مساهمة قيمة في فهم الديناميات التي شكّلت سياسة الاحتلال الإسرائيلي، وكيف وظفت قرارات اتخذت في الأروقة السياسية لتحقيق أهداف بعيدة المدى تتعلق بالسيطرة على الأرض والسكان. إن استعراض هذا الأرشيف يشير إلى أن الاحتلال لم يكن مجرد حدث عابر، بل كان مشروعًا طويل الأمد يهدف إلى بناء واقع جديد على الأرض الفلسطينية. وكما كانت مخططات التهجير جزءًا من سياسات إسرائيل خلال حرب عام 1967، فإن هذه الاستراتيجية تكررت في محاولات تهجير المزيد من الفلسطينيين في الحرب الحالية على غزة.