يقدم كتاب "مدن تثير العاطفة" قراءة جديدة ومبتكرة للدور الذي أدته المشاعر والممارسات العاطفية في التغيرات الحضارية التي شهدتها برلين والقاهرة خلال الفترة الممتدة بين عامي 1860 و 1910. وبدلاً من تبني المنظور التقليدي الذي يركز على التغيرات الاقتصادية والسياسية، يتبنى جوزيف بن بريستيل منظورًا ثقافيًا واجتماعيًا، قائمًا على الأدبيات الحديثة حول تاريخ العواطف.
علي علاء1
تركز بعض الكتابات التي تتناول تاريخ مدينة القاهرة على جوانب معينة من تاريخها، وعلى التغيرات الحضرية التي شهدتها في عهد الخديوي إسماعيل ومهندسه علي مبارك، إضافة إلى التركيز على أثر رحلة باريس على رؤيتهما للنسيج الحضري للقاهرة. بينما تتناول كتابات أخرى قصة القاهرة كمدينة عابرة للتاريخ، لها نقطتي بداية ونهاية، مع الإشادة بماضي القاهرة الخديوي.
لكن ما يقدمه جوزيف بريستيل في كتابه "مدن تثير العاطفة: أفكار حول التغير الحضري في برلين والقاهرة 1860-1910"،2 وهو في الأصل أطروحة الدكتوراه الخاصة به، يختلف عن تلك الكتابات. فهو يسعى إلى التركيز على التطورات الحضرية لمدينتي القاهرة وبرلين بعيدًا عن أي رؤية استعمارية. وينطلق بريستيل من قراءة ثقافية تركز على الدور المحوري الذي أدته المشاعر والممارسات العاطفية في تشكيل التغيرات الحضرية وعلاقة السكان بالمدينة، وانعكاس ذلك على كتابات وآراء النخب الفكرية في كلتا المدينتين. يوثق الكاتب خطابات متشابهة حول التحول العاطفي في برلين والقاهرة، مما يشير إلى وجود تشابه في الديناميات التي تتجاوز التصنيفات التقليدية للمدن (مدن شرق أوسطية، مدن غربية، مدن أوروبية، مدن مسيحية، مدن مسلمة).
لا تركز الأطروحة الأساسية في الكتاب على تحليل العاطفة من منظور شخصي، بل تتناولها في سياق نشأة المدينة الحديثة وارتباطها بالتغييرات الحضرية. وتستكشف كيف أدت مفاهيم مثل العاطفة والحب إلى نشوء سلطة انضباطية وصياغة هوية مدينية ترى العالم من منظور فكري ولغوي مختلف. إذ يرى بريستل أن العواطف هي سلوكيات تتقاطع فيها الجوانب الاجتماعية والجسدية والنفسية للإنسان. ويوضح في الفصلين الأولين الطريقة التي ارتبطت بها التغييرات داخل البنية الاجتماعية لبرلين والقاهرة في ستينيات القرن التاسع عشر بالتحولات في الممارسات العاطفية.
الرابطة الأخلاقية
يعيد الكاتب قراءة وفهم "الممارسات العاطفية" في برلين من خلال منظور "الرابطة الأخلاقية"، وهو مفهوم يندرج ضمن إطار علم النفس الشعبي الذي يسعى إلى فهم السلوك الفردي ضمن مجموعة أوسع ألا وهي الشعب / المجتمع. رغم أن مفهوم الرابطة الأخلاقية ليس جديدًا، كما هو مذكور في الفصل الأول من الكتاب، إلا أنه يمكن قراءته وفقًا للمنظور الجينيالوجي الذي يعد استراتيجية أو تكتيكًا يتسق مع السياق البرليني الذي شهد تحولات على مستوى النسيج الحضري وأزمة اجتماعية نتجت عن انحدار المستوى الاجتماعي وانتشار الدعارة. في برلين، أدت زيادة الهجرة (أغلبها داخلية) في ذلك الوقت إلى مخاوف بشأن انحلال الأخلاق الذي يُعتقد أنه ناتج عن ضعف الروابط الاجتماعية.
يعيد الخطاب الجيني تشكيل المجتمع من خلال تقديم المشكلات الاجتماعية على أنها تهديدات للسلطة الحيوية، التي تستبدل العنف بالإدارة العلمية للسكان، مستخدمة أدوات مثل الكتيبات والإحصاءات للتحكم في سلوك الأفراد وتوجيههم نحو نمط حياة معين. ويتحول دور العلماء إلى تحليل التحولات النفسية من خلال منظور الرابطة الأخلاقية، بدلاً من الاكتفاء بقراءة أرقام التعدادات أو الإحصاءات، ويصبح عليهم تفسير هذه البيانات في إطار البنية النفسية. هذا ما دفع هيرمان شفابه، مدير المكتب الإحصائي في برلين (1862- 1873)، إلى الدعوة إلى دمج علم النفس الشعبي مع العمل الإحصائي بهدف إدارة الحياة العقلية للمواطنين.
وفقًا للكتاب، لم تكن الدعارة نتاجًا لانحطاط أخلاقي، بل كانت تعبيرًا عن الأزمات التي عصفت ببرلين في القرن التاسع عشر، مما حولها إلى تهديد للرابطة الأخلاقية وانعكس ذلك سلبًا على الفكر النخبوي آنذاك. وفي ظل انتشار الأزمات الاجتماعية، أصبح السؤال الأخلاقي تابعًا للعوامل الأخرى، ولم يعد السبب الأساسي للأزمات. كما أصبحت مخاوف الطبقة الوسطى مرتبطة بتفكيك منظومة الزواج، والتي كانت تتوافق مع الرابطة الأخلاقية، ومن أجل تجاوز هذا الأمر لجأت الطبقة إلى مكاتب الزواج والإعلانات الشخصية حتى تتغلب على معدلات الزواج المنخفضة.
شهدت برلين صراعًا فكريًا حول طبيعة العلاقة بين الفرد والمجتمع، وتجلى ذلك بوضوح في مسألة إدارة الحياة الخاصة. ففي حين سعت النزعة الفرنسية إلى تحرير العواطف وتشجيع التعبير عنها بحرية، خاصة في المجال الفني، ركزت النظرة الألمانية على ضرورة ضبط العاطفة والتحكم فيها. هذا التناقض انعكس بشكل واضح في النقاش حول منظومة الزواج، حيث كانت هناك رغبة في السيطرة على الجسد وتنظيم السلوك الجنسي، خاصة في ظل التأثيرات الفرنسية التي شجعت على التعبير العاطفي الجامح. وقد ساهمت هذه التوترات في تشكيل النسيج الاجتماعي لبرلين في تلك الفترة.
تجدر الإشارة إلى أن التأثيرات الثقافية الفرنسية قد أسهمت بشكل ما في "التدهور الأخلاقي" الذي شهدته مدن أوروبية مثل برلين في القرن التاسع عشر. وقد أدت هذه التحولات إلى نقاشات واسعة حول التغيرات في القيم والأخلاق. هذا النقاش يفتح الباب أمام إعادة تقييم النظرة الغربية التقليدية التي صورت المجتمعات الشرقية على أنها منحلّة وغير قادرة على ضبط سلوك أفرادها.
تمثيل العقل
يتناول بريستيل في الفصل الثاني التحولات الحضرية في القاهرة، متخذًا من زيارة الخديوي إسماعيل إلى باريس عام 1867 محطة مرجعية للمشروع التحديثي للمدينة. ولفهم هذه السردية بشكل أعمق، يجب الرجوع إلى مصادر أخرى. يرى خالد فهمي في كتابه "السعي للعدالة" أن الدافع الرئيسي وراء التحديث كان يرجع بصفة خاصة إلى بناء مجال صحي يتناسب مع التغيرات الجديدة، وظهور تقنيات لإدارة حياة السكان مثل علم الخرائط وتسجيل المواليد، بهدف بناء مجتمع متكامل.
يرى ميشال دو سارتو أن المدينة هي عملية ثلاثية الأبعاد؛ إذ تخلق مكانًا خاصًا بها، وتستبدل التقاليد والتراث بممارسات علمية، وأخيرًا، تمتلك القدرة على خلق ذات كونية من خلال تصويرها للمكان وفق عدد من الخاصيات المرتبطة بها. من بين هذه الخاصيات الثابتة للمدينة، تشكيل جوهر ثقافي والعمل على استبعاد كل ما هو غير منطقي أو خيالي عبر عمليات التثقيف والقراءة وثقافة النشر، والتي تعد من اهتمامات الطبقة الوسطى التي تشابكت جذورها مع المتغيرات الحضرية والمدينية.
لقد كانت المجلات والصحف من أبرز السمات المميزة للقرن التاسع عشر، مما أدى إلى نشوء وعي قومي متخيّل من جهة وادعاء للتمدن من جهة أخرى. وفقًا لبريستيل، أدت المجلات دوراً على المستوى النفسي والعقلي من خلال النقاشات التي دارت بين النخب الفكرية وعموم الشعب، لا سيما النقاش الذي تمحور حول مفهوم العقل. والذي يرى بريستيل أنه يرتبط ارتباطًا وثيقًا بمحاولات جمال الدين الأفغاني لإدراجه في سياق نظرية "تقدم الحضارات"، وهي مسألة شغلت فكر الأوروبيين ورؤيتهم للإسلام. رأى الأفغاني أن سبب الركود والتخلف الذي أصاب الأمة هو التقليد الأعمى بدلاً من تبني تفسيرات أكثر عقلانية. في هذا السياق، يصبح الإسلام نموذجًا عقلانيًا منذ لحظة ظهوره، والمسلم الحقيقي هو من يتفاعل مع العالم عبر الرؤى العقلانية وتفسيرها وفق منهج واجتهاد.
لم يقتصر دور اللغة في خطابات نخب مثل الأفغاني وعلي مبارك على تفسير مفاهيم كالعقل والقلب فحسب، بل تجاوز ذلك إلى تشكيل تجربة معرفية جديدة. فقد أعادوا صياغة مفاهيم أساسية، إذ ركز الأفغاني مثلاً على أهمية العقل في الإسلام والدعوة إلى تجديد الفكر الإسلامي بالاستناد إلى العقل لمواجهة الأفكار المادية المعاصرة التي تركز على العاطفة. في القاهرة، منذ ستينيات القرن التاسع عشر، أشاد المفكرون العرب بالحياة الحضرية لتعزيز عقلانية الرجال، وتعليم القلب، وتوليد قابلية الطبقة الوسطى للتواصل الاجتماعي من خلال التحكم في الأجساد والمشاعر. ويشير العقل هنا إلى التحكم في العواطف وتعزيزها. أدى ربط مفاهيم العقلانية والعلم والتمدن في الإسلام في سياق حضري بحت إلى تصنيف المجتمع إلى فئتين: المدينة المتقدمة والريف المتخلف. هذه النظرة التبسيطية تتجاهل الدور المعقد للمدينة في عمليات الإقصاء الاجتماعي والاقتصادي، وتبنيها لسردية حداثية.
ومن منطلق العقلانية والعلم وتنظيم المجتمع، ينتقل بريستيل إلى موضوع الدعارة في القاهرة، حيث الربط بين شرف المرأة والسيطرة التي مارستها الدولة من خلال آليات انضباطية وتنظيمية ومكانية محددة لمراقبتها. كما استُخدم الطب للسيطرة على أجساد العاملات في هذا المجال بهدف حماية البيئة الحضرية من الأمراض التناسلية التي سببت خوفًا لدى العامة في المدينة. على الرغم من أن ممارسة الدعارة لم تكن مرفوضة بشكل كامل، إلا أنه تم ربطها بمسألة الشرف والعار وهو ما شكل الحد الفاصل للجدل الدائر بين الممارسات الحكومية والسلوكيات الجنسية في القاهرة، وسعي الدولة عبر سياساتها إلى السيطرة على الطبقات الاجتماعية والحفاظ على مفاهيم مثل الزواج والإنجاب.
مشاعر و شوارع
يركز الكاتب في الفصل الثالث على تحليل دور البنية التحتية في تحول برلين إلى مدينة إمبراطورية. فقد قامت سلطات المدينة بهدم أزقة وأحياء مثل هينتر دير كونيجسماور "سيئ السمعة" لإفساح المجال لتوسعات عمرانية جديدة تتناسب مع الزيادة السكانية. يمكن فهم هذه التوسعات من منظور التوسع الرأسمالي الذي يسعى إلى السيطرة على المدينة وخلق مساحات من أجل ضبط الكتلة السكانية وفقًا لمنهجية تعرف بـ "انضباط العمل".
كان إنشاء شارع فريدريش في برلين يتماشى مع التحولات التي شهدتها برلين، حيث تحولت المدينة إلى وجهة للترفيه والتنزه للطبقة الوسطى التي بدأت تنأى بنفسها عن الأماكن الشعبية. روِّج لهذا الشارع باعتباره مكانًا حداثيًا، نظرًا لأنه وفر السهولة والتكتيك اللازم لفرض السيطرة على الأفراد عبر وسائل التثقيف التي روجت له كمكانٍ ساحرٍ للزوار. كما أسهمت التحولات داخل الشوارع في تغيير جوهر الشخصية البرلينية التي رفضت في البداية ممارسة الدعارة، لكن سرعان ما تقبلتها في سياق سياسات الترفيه التي رافقت تلك التغيرات من توسع في النسيج الحضري وإقبال الفتيات على العمل في المحلات.
طبقة تبحث عن حاضرها
صاغ المفكرون الأوروبيون نظريات وتصورات حول تخلف العقل الشرقي لتبرير الاستعمار والاحتلال. فقد اعتبروا الشرق فاقدًا للأهلية، غارقًا في التخلف. تمكن بريستيل من قراءة هذه النظرة الاستشراقية بوضوح من خلال مذكرات اللورد كرومر، الذي كشف عن اعتقاده بأن مهمة الاحتلال البريطاني هي تنوير العقل الشرقي وضبطه والسيطرة على شهواته.
في هذا السياق، يركز بريستيل على ما جاء في كتاب "حاضر المصريين أو سر تأخرهم" لمحمد عمر الصادر عام 1902، والذي تناول فيه دور العاطفة والحب في تأخر المصريين، معتبرًا أن هذه المفاهيم تشكل أزمة، لهذا دعا إلى أهمية الحب وترسيخه. ونحن نرى أن اهتمام المفكرين المصريين بالأسرة كان محورياً لضمان استقرار العلاقات الاجتماعية، وذلك إيمانًا منهم بأن الأسرة هي اللبنة الأساسية للمجتمع. أسهم عالم الصحف والمجلات في تشكيل رؤية أخلاقية تجاه الملذات والترفيه، ما جعل من حي الأزبكية محط أنظار المصلحين الاجتماعيين. نتيجة لذلك، أصبح الحفاظ على مفاهيم مثل العقل ضرورة ملحة في ظل الفراغ الذي يعيشه أفراد الطبقة الوسطى في أيام الاحتلال البريطاني.
من هنا يشير الفصل الرابع إلى التحولات التي حدثت داخل الطبقة الوسطى المصرية بفعل التغيرات الاجتماعية، لاسيما بعد اهتمام البريطانيين بزراعة القطن وتفضيلهم لملاك الأراضي على المثقفين. وفي ظل واقع مليء بالتحولات الاجتماعية أصبحت الطبقات الحضرية تعاني مأزقًا ناتجًا عن علاقة الاحتلال بالجهاز الإداري. فقد رأى المحتل البريطاني أن التحالف مع الطبقات الريفية أكثر فائدة، وذلك بسبب تغير أسلوب إدارتهم للبلاد واعتمادهم على القوى الأوروبية التي استحوذت على الوزارات المعنية بالتنمية الصناعية والعمرانية. هذه التحولات قللت من نفوذ الطبقات الوسطى المصرية، والتي اعتمدت تقليدياً على الجهاز الحكومي للترقي الاجتماعي.
الإصلاح العاطفي
يركز الفصل الخامس على ما أسماه بريستيل "الإصلاح العاطفي"، وهي مهمة تولّاها علماء النفس والفسيولوجيا في ألمانيا، الذين رأوا أن ممارسة الرياضة والعيش في الضواحي يسهم في تهذيب النفوس. كما يمثل الضعف النفسي والتوترات العصبية نموذجاً واضحاً لآثار التحولات الحضرية على ساكني برلين. لذلك طُرحت فكرة "الإصلاح العاطفي" بوصفها إنقاذًا للهوية الألمانية المتأثرة بالبيئة الحضرية. وقد ركز بريستيل على رؤية المفكرين والمنظرين الألمان للريف كبيئة مثالية وملجأ للهدوء والنقاء الفكري.
وشهد أواخر القرن التاسع عشر ظهور مفاهيم جديدة مثل "إصلاح الحياة" و"الثقافة البدنية"، والتي دعت إلى تحقيق التوازن بين الجسد والعقل من أجل السيطرة على طاقات الفرد ومشاعره. كانت المدينة آنذاك عاملاً مدمراً للصحة النفسية والمشاعر، لذا روجت الكتيبات والمجلات في برلين لممارسة الرياضة كوسيلة من وسائل مواجهة هذا التدهور النفسي. كما سعى المعماريون إلى حل هذه المشكلة من خلال الدعوة إلى التوجه إلى الضواحي، حيث رأوا فيها ملاذاً من صخب المدينة. شكلت هذه الأفكار رؤية جديدة للإنسان الألماني، من حيث رؤيته للجسد والعقل كوحدة متكاملة، يهدف إلى تحقيق التكامل بينهما.
الرياضة والمدنية
ركز الكاتب في الفصلين الخامس والسادس على مسألة الإصلاح في برلين والقاهرة، مستعرضًا تأثيرات التمدن على نفوس سكان المدينتين. يرى بريستيل أن التمدن أدى إلى تشويه القيم وأشعل رغبة جامحة في الثراء. من جهة أخرى، طرح المفكرون المصريون رؤية مختلفة، مستندين إلى التجربة الإسلامية، حيث أكدوا أهمية تنمية العقل من خلال ممارسة الرياضة. ويشير بريستيل إلى كتابات محمد عمر بوصفها المنهجية التي سارت عليها النخب المصرية من أجل إنقاذ القدرات العقلية من الوهن والخضوع للملذات.
يركز الفصل السادس على تأثير مشاريع الضواحي، مثل ضاحية حلوان، على المجتمع المصري. فقد ركزت خطابات النخب على أهمية الإصلاح الذي جرى داخل النسيج الحضري في القاهرة، لكنهم أشاروا في الوقت نفسه إلى تدهور الأخلاق الذي صاحب هذه التغيرات. فقد رأوا أن الإصلاحات أدت إلى تآكل الروابط الأخلاقية وزيادة الأنانية. واقترحوا حلولاً مثل إنشاء أحياء سكنية جديدة توفر بيئة صحية ويمكن ممارسة الرياضة فيها، بهدف الحفاظ على أخلاق ساكنيها. وتعد حلوان مثالاً بارزًا على محاولات تطبيق مزيج من الرياضة البدنية والتنمية الأخلاقية.
أدى مد خطوط السكك الحديدية ووصول الأفكار الطبية الألمانية دورًا كبيرًا في تحويل حلوان من منتجع صحي إلى ضاحية سكنية، ونتج عن ذلك ازدياد البنيان السكني فيها بفضل مجيء الطبقات الوسطى إليها. كانت الثقافة الرياضية من الطرق التي تكلم عنها المصلحون المصريون بوصفها وسيلة لبناء الجسد المصري القوي المنشغل بقضايا أمته، لا الضعيف الذي يركز على الشهوات. ولم تكن ممارسة الرياضة معنية بإصلاح الجسد فحسب، بل ببلورة جسد الأمة المصرية القوي، ما يجعلها في مصاف الدول المتقدمة.
هنا نرى كيف كانت ممارسة الرياضة من الطرق التي صيغ بها الوعي القومي المصري في مواجهة التفوق الأوروبي الذي طالما صوّر الشرق بوصفه ضعيفًا وهزيلاً. كان الدخول في مجال الرياضة وسيلة من أجل إثبات ضعف الرؤى الاستشراقية والاستعمارية تجاه أبناء الشرق. وقد تموضع الإنتاج الرياضي في سياق النهوض بالأمة المصرية ومواجهة التفوق الغربي، مما أدى إلى انتشار روح المنافسة الشديدة في نفوس النشء المصري الذي حرص على متابعة أخبار المنافسات في رياضات مثل المصارعة.
يطرح كتاب "مدن تثير العاطفة" العديد من الرؤى المهمة تجاه عمليات التحول الحضري التي كانت مطروحة وبقوة في سياق القرن التاسع عشر. ومن أجل إثبات فرضيته، عقد جوزيف بريستيل مجموعة من المقارنات بين برلين والقاهرة، لإثبات أن الرؤى الاستشراقية أغفلت سياقات مهمة ومحلية مثل دور الدين والتنظيم الاجتماعي والطبقي والممارسات العاطفية من أجل تبني سردية نمطية حول تاريخ المدن ومنها القاهرة.