تقدم روزي بشير في كتابها "حروب الأرشيف: السياسة في تاريخ المملكة العربية السعودية" تحليلًا شاملًا تفحص فيه الكيفية التي وُظفت من خلالها السرديات التاريخية والأرشيف في السعودية لتكون أدوات لتحصيل النفوذ وفرض السلطة السياسية. وترى بشير أن هذه السرديات لا ترتبط بالماضي، بل تعمل على صياغة وتشكيل حاضر ومستقبل الواقع السياسي للمملكة.
عبدالله سامي أبولوز1
تروي أستاذة التاريخ في جامعة هارفرد روزي بشير في كتابها "حروب الأرشيف"2 قصة الصراع بين مكونات الدولة السعودية على الإنتاج والسيطرة على السجلات والأماكن التاريخية. وتكشف بشير عن الكيفيات التي تلاعبت عبرها الدولة السعودية بسرديات التاريخ لتزيد قوة سلطتها، وتخلق / تبني شرعية لوجود العائلة في سدة الحكم، وتهمّش الأصوات المعارضة في البلاد.3 يستعرض الكتاب دور الأرشيف والمواقع التراثية والسرديات التاريخية، والكيفيات التي يتم بها ذلك، في عملية البناء واستدامة قوة الدولة في فرض سلطتها.
يتضمن الكتاب الذي يقع في زهاء 400 صفحة، خلاصة العمل البحثي الإثنوغرافي والأرشيفي والشفاهي الذي أجرته روزي بشير كجزء من عملها الميداني لنيل درجة الدكتوراة ما بين عام 2009 و2014. بدأت الكاتبة البحث بهدف استكشاف كيفيات إنتاج التاريخ وحفظ ذاكرة الشعب السعودي، لكنه صار في نهاية المطاف منفذًا لاستكشاف طبيعة السلطة والقوة في السعودية والممارسات المستمرة لتشكيل الدولة.
يتكون الكتاب من عدة محاور أساسية تناقش عمليات طمس أو إعادة كتابة أجزاء معينة من التاريخ التي تتعارض مع نسخة الدولة الرسمية. وتوضح بشير كيف استخدمت مشاريع التطوير الحضرية في مدينتي مكة المكرمة والرياض، باعتبارها جزءًا من عملية التحديث لطمس العديد من البقايا الأثرية التي تحمل في طياتها سرديات تاريخية تعبر عن التاريخ المتنوع في هذه البقعة الجغرافية. كما ترصد أشكال ضبط خطابات الدين في التعليم والإعلام لدعم روايات الدولة وتثبيت حكمها وتبرير أفعالها. تكشف بشير كذلك عن أفعال المقاومة التي يبديها الأفراد والمجتمعات تجاه سرديات الدولة، وذلك باحتفاظهم بذاكرتهم وتداولهم لسردياتهم التاريخية المختلفة عبر التقاليد الشفاهية والأرشيفات الشخصية. وأخيرًا، تؤكد أن ممارسات الدولة في التحكم والضبط للأرشيف والسرديات التاريخية له انعكاسات عميقة على الهوية السعودية، وعلى كيفية تصور السعوديين وإدراكهم لماضيهم وحاضرهم ومستقبلهم.
مركزية الأرشيف
تدور فكرة الكتاب على أطروحة مهمة تتمثل في مركزية الجزء المادي من الأرشيف، بما يتجاوز مجرد التفكير في الجوانب السياسية من المعرفة التاريخية وأدواتها. تنبع هذه المركزية من قدرات الضبط والتحكم التي يبنى عليها تنظيم الحيوات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتقاطعات بينها وبين الفضاء المكاني الذي يحويهم. إن سؤال الأرشيف يجيب عن العديد من الأسئلة المهمة التي تتعلق بالدولة، فهو يكشف عن إحدى الدعائم الرئيسية للدولة المتمثل في ممارساتها المادية، بما يُظهر الكيفيات المادية التي تختارها الدولة لاستعراض وفرض سلطتها السياسية. كما يوضح كيف يَتَشَكَّل ويُشَكِّل الجانب المادي من الأرشيف عبر الآليات التي تنتقيها الدولة لبناء وهدم التاريخ.
نجحت الدولة السعودية في إحكام سيطرتها على المجال العام، ما جعلها قادرة على ضبط المقبول فعله وقوله داخل المملكة. كما تمكنت من احتواء لأصوات المعارضة إما عبر الدمج في مكونات الدولة أو القمع. ورغم نجاح الدولة في هذه الجوانب، إلا أن البحث كشف الضعف واللامركزية التي تعتري العديد من مفاصل الدولة السعودية، التي تجلت في عدم قدرتها على بناء أرشيف متكامل موحد مركزي للدولة، وعدم قدرتها على توحيد الهوية والمُثل الوطنية لمواطنيها. أي إن دراسة الأرشيف في الحالة السعودية أظهرت التناقضات الكامنة في سردية الدولة، حيث تصدر الدولة ذاتها باعتبارها كيانًا موحدًا لديه القدرة على السيطرة على كل تفصيلة في حيزها الجغرافي مهما بلغت دقتها.
إن دراسة الممارسات المادية للدولة، وتحديدًا الأرشيف، تسمح لنا بفهم التعددية التي تنبني عليها الدولة السعودية. تتجلى هذه التعددية الكامنة في ديناميكيات السلطة السياسية في تقاطع سلطة العائلة الحاكمة العليا ، والمقاومة من الأسفل التي تمارسها القوى الشعبية الفاعلة تجاه الدولة. ويُظهر التقاطع بين السلطتين التفاوت في القدرات، ما قد يبدو متناقضًا في الوهلة الأولى، بيد أنه يكشف عن الشكل الحقيقي للدولة. إن إدراك التفاوتات والتعددية الكامنة في هذه الديناميكيات يمكننا من فهم جوانب الضعف والقوة في طبيعة السلطة، ويُظهر التعقيد في طبيعة الدولة، وقوة الفاعلين فيها، وقدرتهم على المناورة. مما يفكك السردية الأسطورية التي تصدر عن السلطة في الدولة السعودية باعتبارها كيانًا أحادياً مهيمنًا غير قابلٍ للاختراق، ويسمح لنا بعقلنة وفهم القوى التي تشكله.
ممكنات الماضي الممحية
تستهل البشير كتابها بالحديث عن العمليات التي ارتكزت عليها الدولة السعودية منذ عهد الملك عبدالعزيز آل سعود في صناعة السردية التاريخية الخاصة بها. عمدت العائلة الحاكمة إلى محو الهويات الثقافية الأصيلة، وعملت على تصوير البلاد باعتبارها منطقة بلا تاريخ، صحراوية منبتة، ليس لها ارتباطات تتجاوز حدودها الجغرافية. وقد استعرضت آليات وفاعلين من الداخل والخارج ساعدوا على استدامة هذه السردية عبر استمرارية حجب العديد من الأحداث في الماضي التي قد تشكل تحديًا للسردية الرسمية، والتي تريد تصدير صورة معينة موحدة ذات طابع خطي زمني، يسير بشكل مطرد نحو زمن التحديث الذي جلبته العائلة الحاكمة.
تقدم الكاتبة مثالًا مهمًا يحمل سمة مركزية في تاريخ منطقة الحجاز، وتحديدًا في مكة المكرمة، وهو الشيخ العلامة رحمت الله الهندي الكيرانوي، الذي لجأ إلى مكة المكرمة هربًا من القوى البريطانية التي شنت حملاتها الاستعمارية على بلاده. وقد عُرف الشيخ بكتاباته وخطبه عن خطر المساعي الإمبريالية ووجوب مقاومتها، ودعا إلى المقاومة المسلحة، بل وحمل سلاحه وجاهد ضد الإنجليز، لكنه لجأ إلى مكة بعدما هزم وجماعته من المجاهدين، وأصبح مطلوبًا للإنجليز.
ترك الشيخ إرثًا كبيرًا وأثرًا بالغًا، وذاع صيته في جميع أنحاء العالم الإسلامي. فقد أسس أول مدرسة نظامية في مكة المكرمة والجزيرة العربية، وسُميت المدرسة الصولتية نسبة إلى الممولة الرئيسية التي ساهمت في بنائها، وهي سيدة هندية فاضلة تُدعى صولت النساء.4 كان الهدف من المدرسة أن تكون حاضنة تعليمية نظامية لتعليم الدين في الحجاز، فأصبحت قبلة لكل أبناء مكة المكرمة، ودرس فيها العديد من الشخصيات البارزة في العالم العربي. لم يبقَ شيء من هذا الإرث العظيم الذي خلّفه الشيخ سوى بعض الإشارات في مناهج الطلبة الذكور، وتحديدًا من كتابه "إظهار الحق"، الذي كتبه ردًا على مبشر مسيحي في الهند.
عمل النظام السعودي على محو كل ما سبق تأسيس المملكة عام 1932، وتجاهل جوانب مهمة من التاريخ، بما في ذلك الدعم الإمبريالي الأمريكي والشركات التابعة له، والعنف المفرط الذي استُخدم في تثبيت أركان الدولة. كما سعى إلى خلق سردية موحدة تتجاهل الحياة الفكرية الثرية التي كانت تزخر بها الجزيرة العربية في القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين. كما همشت كل أنماط العيش والانتماء المحلية السابقة لظهور العائلة الحاكمة في السردية الرسمية.
أقصت الدولة كل ما يدل على هذا التاريخ، وحرصت على بقائه خارج الأرشيف الرسمي، وواجهت بحزم كل من حاول الترويج لهذه السرديات. أدت هذه الجهود إلى عزل تاريخ السعودية عن الماضي الثري، وفاعلية حواضرها، وتأثيرها العالمي، والمسارات المستقبلية التي تقترحها هذه السرديات التاريخية. ومع ذلك، بقيت هذه السرديات حية إلى يومنا هذا عبر الأرشيفات الشخصية، وما نجا من الأرشيفات العامة، والذاكرة الجمعية، والبقايا الأثرية الدالة على إرثها الغني.
إشكاليات الأرشيف السعودي
بدأت جهود إنشاء أرشيف سعودي وطني في منتصف الستينيات، واستمرت حتى أواخر الثمانينيات من القرن الماضي. تدل البدايات المبكرة للعمل الأرشيفي على وعي مبكر بمركزيته في إضفاء الشرعية السياسية وتشكيل الدولة. إذ أدركت الطبقة الحاكمة في عهد الملك فيصل أن افتقاد المملكة لأرشيف مركزي يعني افتقادها للتاريخ. وعلى الرغم من بدايات العمل الأرشيفي المبكر، إلا أن المملكة ما تزال تفتقد وجود أرشيف وطني جامع حتى يومنا هذا.
اتسمت منظومة الحكم في السعودية بوجود محاصصة بين أفراد العائلة الحاكمة، مما شكّل دوائرَ قوى سياسية، وقد أعاقت هذه الدوائر عمل بعضها البعض، وأسهمت في منع وتأخير إنشاء أرشيف مركزي. تجلت هذه المحاصصة في المقاومة الشرسة التي واجهتها الدولة، من مختلف دوائر القوى السياسية في مؤسسات الدولة الأخرى، عندما اعتمدت أرشيف وزارة المالية بصفته الأرشيف الوطني الأول في عام 1966. كان جوهر هذه المقاومة هو خشية دوائر القوى السياسية الأخرى من مشاركة الوثائق الحكومية الخاصة بهم مع الآخرين وجعلها مفتوحة للجميع.
جاءت محاولات إنشاء أرشيف مركزي من الرغبة بهدف إزالة كل ما يمكن أن يشوه صورة الطبقة الحاكمة أو يقدم ما يمكن اعتباره سرديات منافسة. وقد اتضح هذا في الفراغات الكبيرة والتغييب المتعمد للعديد من الفترات والسجلات الأرشيفية التي لا تتوافق مع هذه السردية، مثل الآثار والأرشيف العثماني في المنطقة. يعكس هذا الواقع تجربتي الشخصية عندما أجريت بحثًا عن المناهج السعودية. فكان الافتقار لوجود أرشيف منظم للكتب المدرسية من مختلف المراحل الزمنية أجبرني على جمعها بصعوبة من الأفراد والعائلة والأصدقاء وشراء بعضها من "بائعي الأنتيكا". وقد أكدت لي الدكتورة روزي بشير في مراسلات عبر البريد الإلكتروني عدم وجود أرشيف منظم للمناهج التعليمية في المملكة يمكن من خلاله تتبع التغيرات والتطورات على المناهج بشكل دقيق.
تقارن بشير بين الممارسات الأرشيفية في السعودية وبين نظيراتها في الدول الأخرى، مثل الأرشيف الأمريكي والبريطاني والإسرائيلي. وتؤكد على أن الممارسات الأرشيفية عالميًا تعاني من تحديات مشتركة منها المماطلات البيروقراطية والصراعات السياسية والانتقائية في الكشف عن المعلومات والوثائق. وترى هنا أن الممارسات السعودية الأرشيفية لا تتميز كثيرًا عما يحدث في أماكن أخرى، بل ترى أنها مليئة بالفوضى والعشوائية. وتستشهد في هذا السياق بقرار الملك سلمان، عندما كان أميرًا لمنطقة الرياض، نقل العديد من السجلات الأرشيفية المهمة إلى مكتبة الملك فهد الوطنية وليس إلى دارة الملك عبدالعزيز التي كان يرأس هيكلها الإداري.
تجريف الماضي
تأسست مؤسسة الملك عبدالعزيز للأبحاث والأرشيف، المعروفة بالدارة عام 1972. عانت في إنجاز مهامها وأهدافها التي تأسست من أجلها حتى بدأت الأمور بالتغير بعد حرب الخليج. دخلت الدارة في حالة من الصراع المؤسساتي على النفوذ مع مؤسسات تتقاطع معها في عملها على الأرشيف، مثل مكتبة الملك فهد الوطنية ومركز الملك فيصل للأبحاث والدراسات الإسلامية. خلّف هذا الصراع حالة أسمتها الكاتبة بـ"حرب الأرشيف"، اتسمت بالسرية والتنافس على المواد التاريخية، والخلاف في وجهات النظر حول طُرق العرض والتعامل الأمثل مع التاريخ السعودي.
أدت الدارة، بقيادة أمير منطقة الرياض آنذاك، دورًا مركزيًا في جمع الوثائق والمستندات التاريخية، حيث أطلقت العديد من المبادرات لجمع المواد، ودخلت في مفاوضات مع العديد ممن يملك نسخًا أو مواد أرشيفية. واجهت الدارة شكوكًا من المالكين مما أدى إلى نشوء حالة من التردد والممانعة لسطوة الدارة. شكلت حلقة رئيسية في أدوات الدولة لتجريف تاريخ المملكة، وإعادة كتابته بشكلٍ يلغي الدور الديني الذي أدى دومًا دورًا رئيسيًا في السردية التاريخية لتشكل الدولة السعودية. أرادت السلطة السياسية تحقيق انعطافة في السردية التاريخية لنشوء الدولة نحو تصورٍ علمانيٍ للهوية الوطنية يدور حول العائلة الحاكمة.
تصاعد هذا التجريف حتى وصل ذروته مع المشاريع المليارية التي استثمرتها الدولة في إعادة بناء العديد من الأحياء والأماكن التراثية المهمة في مدينتي الرياض ومكة المكرمة. حولت الدولة مدينة الرياض إلى المركز الإداري والثقافي والاقتصادي والتاريخي للمملكة، وشفعت مشاريعها بخطاب تبريري مبني على الرغبة بالتطوير وخلق مناطق سياحية جذّابة. غطت هذه المشاريع مساحات شاسعة من المدينة، وشملت العديد من المواقع مثل قصر المربع، وقصر الحكم وساحة الديرة 5 و الدرعية. أما في مكة أزيلت العديد من الآثار العثمانية والإسلامية، وهدمت العديد من الأحياء من أجل توسيع الحرم المكي لاستيعاب المزيد من الحجاج. واستخدم النظام، لتمرير مشروع التطوير الحضري، خطابًا دينيًا ينزع عن هذه الآثار خصوصيتها الدينية والتاريخية والمحلية، في إطار التصور الديني السلفي المعادي للآثار باعتبارها أماكن تكتسب قدسية مع الوقت، وتتحول مع الوقت لأماكن يقصدها الناس للعبادة.
خاتمة وتعليقات
يمتاز الكتاب بتقديم تفصيل دقيق لكواليس صناعة الدولة والهوية القومية السعودية، وبدايات إدراك الدولة لخطر الارتباط المفرط بالهوية الدينية، وما يستلزمه ذلك من ضرورة الابتعاد والانفصال التدريجي نحو هوية علمانية وطنية، قوامها لمحات مختارة بعناية من تاريخ العائلة الحاكمة. تلفت روزي بشير انتباه القارئ إلى أن قائد الأوركسترا الذي بدأ بنسج الخطوات الأولى في هذا الانفصال هو العاهل الحالي الملك سلمان بن عبدالعزيز عندما كان رئيسًا لمنطقة الرياض. ولذلك إحدى الأمور التي تضفي مزيدًا من الأهمية على الكتاب تكمن في دراسته للجذور التاريخية التي تمكّننا من فهم العديد من التغيرات الحالية الجارية في المملكة.
يتفرد الكتاب بدراسة حالة مستعصية على البحث الأكاديمي، إذ تفرض المملكة قيودًا كبيرة على نشاطات الباحثين، مما يجعل اللجوء إلى وسائل بديلة مثل التاريخ الشفاهي والإثنوغرافيا وسائلًا بحثية شديدة الأهمية. ويمكن اعتبار الكتاب بمثابة دراسة حالة عن الصراع حول كتابة تاريخ شعوب، والآليات التي تتبعها الدول لصياغة هويتها الوطنية. ويتسق إلى حدٍ كبير مع مقولة جورج أورويل الشهيرة التي تقول "من يتحكم بالماضي، يتحكم بالمستقبل. ومن يتحكم بالحاضر، يتحكم بالماضي".
من هنا يمكن فهم الانعطافات الجذرية الأخيرة في السردية التاريخية للدولة، التي تمثلت في إعلان الثاني والعشرين من شباط / فبراير يوم التأسيس يومًا وطنيًا، والذي يمثل بدء عهد الإمام محمد بن سعود وتأسيسه للدولة السعودية الأولى عام 1772. وصاحب ذلك إطلاق هوية بصرية مصاحبة لا تحمل أي دلالات دينية، ما دفع البعض إلى تفسير هذا الإعلان بأنه بمثابة انتهاء عصر الوهابية وإعلان القطيعة الجذرية معها.6 هذا يعني أن عملية صياغة التاريخ، وما تحمله من أبعاد خطابية، بدأت منذ التسعينيات واتخذت طابعًا تدريجيًا، بالعمل على إعادة تشكيل الفضاء المادي والمكاني، حتى وصلت ذروتها مع التحولات الأخيرة المتمثلة برؤية 2030، وما صاحبها من تغييرات ثقافية واجتماعية وسياسية.
وظفت الدولة خطابًا دينيًا لتبرير هدمها للأماكن الأثرية ذات الخصوصية الدينية والتاريخية والمحلية في مكة المكرمة، بالرغم من مسارها العلماني لتنحية الدين من صلب السردية التاريخية لتكون الدولة. يعكس ذلك سلوكًا براغماتيًا للطبقة الحاكمة وقدرة عالية على المناورة وتوظيف المكونات السياسية من أجل تحقيق أهدافها السياسية. لقد خلقت خطابًا ساعدها على مواجهة المقاومة الشعبية رغم ما خلفته مشاريعها التطويرية من تهجير للناس في صورة تستمر حتى الآن في مدن أخرى المملكة.
يمنح الكتاب القارئ فرصة لإعادة قراءة التاريخ السعودي من خلال دراسة أساليب الحوكمة المحلية الداخلية التي اتبعتها الدولة، بعيدًا عن العدسة الجيوسياسية واقتصاد الطاقة والأبعاد الأمنية. وتكشف دراسة الأرشيف عن حقيقة مفادها أن تاريخ تشكّل الدولة السعودية ليس تاريخًا فريدًا غيبيًا خارج نطاق الدراسة التاريخية، على الرغم مما يحمله من تعقيدات وخصوصيات. تُعد المملكة نموذجًا مثاليًا لدراسة تشكّل الدولة في القرن العشرين، بما في ذلك فهم دور الثروات والصراعات الداخلية بين مكونات الدولة وطبقاتها المختلفة، والعواقب التي تترتب على محاولات الدول في إحكام سيطرتها على التاريخ المادي والبنية الخطابية.
ختامًا، لا بد من الإشارة إلى نقد وجيه للكتاب يرى أن بشير قدمت صورة عن الدولة باعتبارها ذات قدرة كلية7 تعمل على تنفيذ أهداف بعيدة المدى باقتدار وبلا تواني. بيد أنني أرى أن هذه الصورة مغايرة للواقع، فالدول مهما بلغت سيطرتها فإن حوكمة التفاصيل اليومية وتنفيذ المشاريع الطويلة الأمد غالبًا ما تواجه تحديات عدة، من بينها العشوائية، وانعدام الكفاءة لدى بعض الأفراد، والمقاومة المحلية. هذه العوامل مجتمعة تسهم في تقويض سطوة النخبة الحاكمة وتأخير تحقيق أهدافها. كل ما في الأمر أن النخبة الحاكمة في المملكة استطاعت اغتنام الفرص التاريخية المتاحة لتعزيز نفوذها وتوطيده.