القارئات والقراء الأعزاء،
تطلّ عليكم نشرة الصالون في هذا العدد بالتزامن مع حدثٍ هو نقطة تحوّل كبيرة في تاريخ المنطقة؛ فها هي صفحة عريضة من تاريخ هزائم الإنسانيّة أمام الاستبداد والعنف قد انكفأت على وجهها في سوريا. تعود أهميّة هذه اللحظة إلى صراعٍ طويل خاضه، وما يزال، المواطن العربي المأزوم مع فكرة إمكانيّة التحوّل الذي يكفل بناء دولة مؤسسات تقوم على أنقاض الفساد والتردّي. وهو ما أشار إليه آصف بيات في كتابه "ثورة بلا ثوّار: كي نفهم الربيع العربي"، قائلاً: "لقد حفّز الإنجاز الثوري وسقوط طغاة متجذرين عميقًا، وما تلا ذلك من انفتاح الأفق السياسي، المواطنين العرب على تخيّل أوطانهم وكأن كل شيء أصبح الآن ممكنًا".
بدت رحلة بلاد عربيّة كثيرة في العقدين الأخيريْن مُجهضَة ومخيّبة للآمال، ومثقلة بأثمان باهظة من شهداء ومعتقلين ومفقودين ومهجّرين، إلى أن طلعت شمس الثامن من ديسمبر/ كانون الأول 2024، لتسرِّب أملًا جديدًا يخرج من دمشق. وإن بدت الكلمات محمولةً على طبقٍ من التفاؤل دون وِجهةٍ وخطِّ سيرٍ، فما من شكٍّ أنّ جولات الفاعلين منذ ديسمبر/ كانون الأول 2010 وحتى يومنا هذا ما زال لديها ما تقوله وتقدمه؛ فمنذ تلك اللقطة التاريخية المحفوظة في الذاكرة، وضجّت بها منصات التواصل الاجتماعي قبل 14 عامًا، لمواطن يهتف "تحيا تونس الحرة.. المجد للشهداء.. المجد للشعب" بعد فرار "زين العابدين بن علي" من البلاد، امتدت شعلة الثورة إلى مصر، وليبيا، وسوريا، واليمن، وانتشرت موجات الاحتجاجات الشعبية السلمية في بلدان عربية أخرى، لتهتف الجموع "الشعب يريد إسقاط النظام".
شهدت نهاية عام 2018 وبداية عام 2019 تجدد نبض الشارع العربي، حين اندلعت موجات احتجاج عارمة في دول مثل السودان ولبنان والعراق والجزائر. هذه الاحتجاجات، التي جاءت بعد سنوات من الهدوء الحذر، أكدت أن تطلعات الشعوب العربية للتغيير لم تتلاشَ، وأن جذور الربيع العربي ما زالت حية. فبعد أن شهدت المنطقة صعودًا وهبوطًا في وتيرة الاحتجاجات، أثبتت هذه الموجة الجديدة أن التطلع إلى الديمقراطية والعدالة الاجتماعية ما يزال قويًا في نفوس الشعوب.
لطالما أثار الربيع العربي جدلاً واسعًا، فبين مَن يراه ثورات حقيقيّة، ومَن يعدّه مؤامرة مدبّرة، دارت حوارات مستفيضة حول أسبابها ودوافعها ونتائجها. برز في هذا السّياق نقاش فكري حول جوهر هذه الحركات التغييرية وأبعادها. يرفض المفكرون مثل ياسين الحاج صالح وآصف بيات الخطاب المختزل للثورات العربية. يؤكد الحاج صالح في مقالته المعنونة "في نقد الذاكرة أحادية الوجهة: من الهولوكوست والاستعمار إلى الممانعة و"الربيع العربي" على الدور المحوري للشعوب، معتبرًا وصف أدونيس الثورات بـ"الربيع الغربي" إهانة للملايين الذين شاركوا في الانتفاضات. بينما يحذّر بيات من تصوير هذه الثورات بكونها مؤامرات مدبّرة، مؤكدًا في كتابه "ثورة بلا ثوّار" "إنه لأمر مغر أن نصوّر الثورات العربيّة، كما فعل البعض، على أنها سلسلة من المؤامرات، خططت لها مؤسسات أو دول تتلاعب بالنزعات الاحتجاجيّة، وتُحدث تغييرًا جزئيًا وهزيلًا، أو تنظّم "ثورات ملوّنة" توافق هوى القوى الغربية". وهو ما يتجاهل الرغبات والمطالب الحقيقية لدى المواطنين العاديين، التواقين إلى تغيير عميق ذي مغزى.
وبالرغم من هذه الرؤى المتفائلة، فإن واقع الحال يشير إلى أن مسار هذه الثورات لم يكن سهلاً، وأنها واجهت ممانعة وتحديات كبيرة من قبل الأنظمة الحاكمة والقوى الإقليمية والدولية. فالحروب والخراب والعنف والفوضى التي أعقبت هذه الثورات أظهرت هشاشة المجتمعات العربية وتعقيدات التحولات السياسية.
على الصعيد السوري، وثّق الحاج صالح في كتابه "الفظيع وتمثيله: مداولات في شكل سوريا المخرب وتشكلها العسير" تحول ممارسات النظام السوري منذ ربيع 2011 إلى إبادة ممنهجة. فلم يعد الاعتقال والتعذيب يهدف إلى استخراج المعلومات فقط، بل تجاوز ذلك إلى إبادة الثوار وأهلهم وكل من يُعتبر حاضنًا لهم. هنا، لم يكتفِ الكتاب بتوثيق هذه الجرائم، بل دعا إلى أهمية بناء سردية بديلة تحكي قصة الشعب السوري، وتكشف زيف الدعاية النظامية.
في النطاق ذاته، جاءت مقدمة كتاب "عَطَب الذّات: وقائع ثورة لم تكتمل سورية 2011-2012"، التي أكد فيها برهان غليون على ضرورة ولادة وعي جديد يقوم على الأبحاث والمراجعات النقدية التي يقدمها السوريون عبر الكتابة عن الثورة. ويقول: "من أجل أن نحوّلها [الثورة السورية] إلى خبرة عميقة ونبقيها حيّة في عقولنا وذاكرتنا، وننقلها إلى أجيالنا القادمة لتصبح وعيًا متوهجًا ينير لهم طريق المستقبل الذي بات مفتوحًا أمامهم وأمامنا، ونُطَمئن آلاف آلاف الشهداء على أن تضحياتهم لم تذهب سدى ونسمح لهم بأن يرقدوا بسلام".
في خضم هذا المسار المعقّد من التحولات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، يأتي هذا العدد ليقدم مراجعات لمجموعة من الكتب التي تضيء زوايا مختلفة من تجربة الربيع العربي وتداعياته. تُعدّ هذه الإصدارات محاولات جادة لفهم لحظاتنا التاريخية واستيعاب مسارات التغيير المتشابكة والمتناقضة في عالمنا العربي. من موضوع الاستبداد في كتاب "الاستبداد الرّقمي في الشرق الأوسط"، الذي يكشف كيف أصبحت المنصات الرقمية في المنطقة العربية أداة للتضليل الإعلامي والسيطرة السياسية، وكيف تحولت من أفقٍ واعدٍ للتحرر والتعبير والثورة إلى مرتعٍ لعمليات الأجهزة الأمنية والاستخباراتية والتضليلية.
مرورًا بنقد توظيف السياسيين للتاريخ في كتاب "إلى الساسة العرب: ارفعوا أياديكم عن تاريخنا"، الذي يعالج توظيف السّياسيّين العرب، بمختلف أفكارهم وتوجّهاتهم الفكريّة والسّياسيّة والأيديولوجيّة، للتّاريخ في تشكيل سردياتهم، وكيف أسهمت الثّورة التونسية في فسح مساحة أكبر للباحثين في التاريخ لتناول مواضيع سياسية بحريّة أكثر.
وفيما يتعلق بالدراسات الشعبوية وتجلياتها، يتناول كتاب "المقابلات الشعبوية: حوار مع خبراء رائدين" مجموعة من المقابلات مع بعض المتخصصين في دراسة الشعبوية، مستعرضًا أبرز الأسئلة النظرية والعملية حول الظاهرة. وصولًا إلى قراءات نقدية لثورة يناير وتحولاتها في كتاب "ثورة غير مرغوب بها"، الذي يقدم منظورًا جديدًا لثورات الربيع العربي وأسباب فشلها، وصعود الثورات المضادة، وترسيخ الاستبداد، مع استشراف احتمالات انتعاشها مجددًا في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
ختامًا، يبقى السؤال الأهم معلقًا: هل انتهت الثورات العربية أم نحن بانتظار موجات متجددة؟ إننا نؤمن بحتمية الوصول إلى طريق الحرية، مهما طالت مدة التأجيل، فالتاريخ لا يصنعه القمع بل تصنعه إرادة الشعوب. وبالرغم من الآمال المجهضة، تتجسد مقولة فرانز فانون اليوم بشكل أعمق "لا بد لكل جيل أن يكتشف رسالته وسط الظلام، فإما أن يحققها أو أن يخونها" والجيل القادم لن يخون رسالة الشهداء والمفقودين، فالغضب ما زال يحمل بذور التغيير.
دمتم بخير،
فريق تحرير الصالون