القارئات والقراء الأعزاء،
عامًا بعد عامٍ، تلاحقنا أسئلة هزيمة الخامس من حزيران / يونيو؛ كيف نقرؤها بعد ما يقرب من ستين عامًا؟، وأين نقف من آثارها المدمِّرة التي لحقت بالإنسان العربي؟ هل بدا تعبير "النكسة" غطاء يعفي المسؤولين من تحمّل تبعات الكارثة؟ "وهل تحتاج الهزيمة إلى نقد ذاتي، أم إلى تحديد للمسؤوليات يُخرجها من طابع قراءاتها الثقافية التي سادت طويلا؟"
بمثل هذه الأسئلة يفتتح إلياس خوري في كتابه "النكبة المستمرّة" تأملاته في معنى الهزيمة. ولعل استخدام جمال عبد الناصر، في خطاب استقالته مساء التاسع من حزيران/ يونيو 1967، لهذا المصطلح لم يكن عبثيًّا، حين اختار أن يسمي الهزيمة "نكسة"، في تعبير يُرجّح أن الذي صاغه هو محمد حسنين هيكل، رئيس تحرير "الأهرام" آنذاك؛ ليسجَّل في ضوء ذلك صورة عن الفرق بين "سلطة المثقف ومثقف السلطة". وإن كان اصطلاح "النكبة" في 1948 الذي أطلقه قسطنطين زريق وصفًا واضحًا وصريحًا لما حلّ، فإن "النكسة" ليست سوى تصحيف لغويّ يخفي وراءه عملية إنكار جماعية، نُكّست فيها اللغة نفسها، كما هو حال تلك اللحظة التاريخية.
وقد أدرك صادق جلال العظم مبكرًا خطورة هذا الإنكار في كتابه "النقد الذاتي بعد الهزيمة"، الذي أعيدت طباعته لاحقًا لتعريف الأجيال اللاحقة بجذور الانهيار، فسمّى الأمور بمسمياتها: "هزيمة"، لا "نكسة". كتب العظم نصّه في ظلّ حالة احتقان شخصي وجماعي هائل، ناتج لا عن السقوط العسكري وحده، بل عن الطريقة المفجعة التي جرى بها ذلك السقوط، وعن حجم الكذب الرسمي الذي رافقه. رأى العظم أن حالة من الهروب اللامسؤول، شبيهة بإنكار المرض، قد استبدّت بالأنظمة والجمهور على السواء، فأُطلقت وعود بالثأر المؤجل، وقيل إن الطائرات التي دُمّرت في دقائق ستُعوّض بطائرات سوفياتية جديدة، وكأنّ الهزيمة مسألة لوجستية لا حضارية!
ولهذا، يصحّ القول إن الهزيمة لم تكن انكسارًا مفاجئًا، بل امتدادًا لمسار نكبويّ بدأ عام 1948، حين تبنّت الأنظمة شعارات قومية رنّانة للردّ على النكبة، فإذا بها تُسقط العالم العربي بأسره في هزيمة أشدّ وقعًا، لا تزال أصداؤها تتردّد حتى اليوم. وقد وصفها العظم قائلًا: "لا أعتقد أن أحدًا من الجيل الذي أنتمي إليه قد شفي حقًا من ضربة السقوط المفاجئ من هذا الارتفاع الشاهق إلى قعر هاوية الهزيمة السحيق، وكله خلال لحظات معدودات".
تمكّنت إسرائيل من تحقيق نصر كبير على الجيوش العربية، واحتلّت مساحات شاسعة من الأراضي، بما يقارب ثلاثة أضعاف ما احتلّته في حرب 1948. وعلى مدار ستة أيام فقط كانت الكارثة تتلخّص بخسائر بشرية ومادية فادحة، وتدمير واسع للبنى التحتية والعتاد العسكري، ونزوح قسري طال ما بين 300 ألف إلى 400 ألف من سكان الضفة الغربية وقطاع غزة ومدن القناة في مصر، فضلًا عن تهجير قرابة 100 ألف من أهالي الجولان إلى داخل سوريا.
يقدّم توم سيغيف في كتابه "1967: إسرائيل، الحرب، والسنة التي غيّرت الشرق الأوسط" قراءة معمّقة للحظة مفصلية أعادت تشكيل إسرائيل والمنطقة بأسرها، إذ لم يكن ذلك العام محض لحظة عسكرية حاسمة وعابرة، بل بداية مشروع توسّعي متعدّد الأبعاد، سياسيًّا واقتصاديًّا وديموغرافيًّا. ويؤكد أن هذا "التحوّل" لم يكن اقتصاديًّا فحسب، بل استعماريًّا بامتياز، كما يكشف إيال وايزمان في كتابه "أرض جوفاء: الهندسة المعمارية للاحتلال الإسرائيلي"، وقد استطاع من خلاله تمكين فكرة أن احتلال عام 1967 ليس امتدادًا أفقيًا للسيطرة فحسب، بل شكّل صعودًا عموديًا نحو ما اعتُبر "قواعد استراتيجية" في الضفة الغربية والجولان وسيناء، التي صُوّرت باعتبارها مهدًا للأمة العبرية.
في هذا السياق، لم تكن القدس استثناءً، بل في صميم هذا المشروع. ففي مساء العاشر من حزيران/يونيو 1967، وقبل أن تُعلن الحكومة قرار الضمّ رسميًا، أقدم الجيش الإسرائيلي على هدم حيّ المغاربة بالكامل، في قلب البلدة القديمة؛ لشق طريق مباشر إلى ساحة البراق، في عملية رمزية ومادية تؤكد النية في عدم الانسحاب. وفي 27 حزيران/ يونيو، أعلنت إسرائيل ضمّ القدس الشرقية ومحيطها، كما أعلنت المواقع الأثرية والتاريخية ذات الطابع اليهودي في الضفة الغربية "ملكية ثقافية وقومية"، في خطوة كشفت أن الاستعمار بات يستهدف باطن الأرض وظاهرها.
منذ ذلك الحين، تحوّل الاستيطان من سياسة أمر واقع إلى مشروع بنيوي مُمنهَج. ولم تكن السيطرة على الأرض وحدها، بل إنها مضت نحو تعزيز أسباب البقاء والوجود في حربها من أجل المياه؛ إذ تجري "واحدة من أهم المعارك في الصراع الفلسطيني–الإسرائيلي تحت سطح الأرض"، وفقًا لكتاب أرض جوفاء"، إذ إن نحو 80% من المياه الجوفية تقع تحت الضفة الغربية، ما يجعل للاستيطانِ بُعدًا مائيًا واستراتيجيًا بقدر ما هو ديني أو قومي.
إن ما يجمع بين قراءتَيْ سيغيف ووايزمان هو هذا الفهم العميق لبنية الاحتلال: ليس بوصفه حدثًا طارئًا نتج عن الحرب، بل بكونه مشروعًا استيطانيًا طويل الأمد، يقوم على إعادة تشكيل الجغرافيا والديموغرافيا والذاكرة، ويحاول تثبيت واقع استعماري باسم الدين، والتاريخ، والأمن، والاقتصاد.
يذهب كتاب "هندسة الاحتلال: أرشيف حكومة إسرائيل عام 1967" إلى أن حرب 1967 لم تكن ردّ فعل مباشرًا على إغلاق مضيق تيران، بل جاءت في سياق مخطط أوسع أعدّته إسرائيل للسيطرة على منابع المياه في الجولان، واحتلال ما تبقّى من فلسطين التاريخية، وفرض السيطرة الإسرائيلية على الممر الاستراتيجي الممتد من شرم الشيخ إلى رفح. هذه الحرب، التي فشلت في تحقيق الهدف الجوهري المتمثّل في تفريغ الأرض من سكانها، أعادت إنتاج الاحتلال عبر أدوات الحكم العسكري، بما أحدثه من تفكيك للنظام الاجتماعي الفلسطيني، واستبداله بنظام ممزّق يخدم استمرار السيطرة.
شكّلت الهزيمة صدمة كبرى في الوجدان الجمعي العربي، لم تقتصر آثارها على السياسة والمجتمع فقط، بل امتدّت لتصوغ تعبيرات فنية وأدبية تعيد مساءلة ما جرى، وتحاول إعادة تعريف العلاقة مع الهزيمة. انعكس هذا التحول بوضوح في الحقول الثقافية، وخاصة في السينما والأغنية والأدب. على الجبهة الشعرية، شكّلت تجربة أحمد فؤاد نجم مع السجن وموقفه النقدي من النظام تعبيرًا عن رفض أوسع للسلطة التي يُنظر إليها كجزء من أسباب الهزيمة. كان نجم يكتب شعرًا يحمل سخرية مرة من الواقع، ويمس رموز النظام، ولذلك جرى اعتقاله مرارًا في تلك المرحلة. جاءت قصائده التي لحنها وغناها الشيخ إمام، مثل "الحمد لله خبطنا" و"مر الكلام"، لتُمارس نقدًا ساخرًا لاذعًا للسلطة وخطابها الانهزامي. في شعر نجم، تتحوّل الكلمة إلى سلاح، والكلام الصادق إلى مقاومة:
"مرّ الكلام زي الحسام يقطع مكان ما يمرّ // أما المديح سهل ومريح، يخدع لكن بيضر".
كذلك، أدت السينما دورًا كبيرًا في محاولة فهم ما جرى بعد الهزيمة، فأُُنتجت أفلام مثل "أغنية على الممر" و"العصفور" و"عودة الابن الضال"، التي عكست حالة القلق الوجودي والانقسام في الوعي الجمعي بعد الهزيمة. وفي كتاب "داود عبدالسيد: سينما الهموم الشخصية" ، يصف علاء خالد جيلَ "الواقعية الجديدة" في السينما المصرية بأنه نتاج ما بعد الهزيمة؛ جيل اشتبك مع الواقع بلا أوهام، وركّز على الفرد لا الشعارات، من خلال سينما تحمل طابعًا توثيقيًّا واجتماعيًّا وشاعريًّا. من أبرز ممثلي هذا التيار: محمد خان، داوود عبد السيد، عاطف الطيب، وخيري بشارة.
أما باسل رمسيس، فقد ربط في "عين شمس 1995 وهزائم أخرى"، بين تلك السينما والنشاط السياسي لدى جيل اليساريين في التسعينيات، حين كان ارتباطهم بالأفلام نابعًا من قدرتها على تحدي السلطة. يشير إلى أثر أفلام "البريء"، "ناجي العلي"، و"حكايات الغريب" التي استحضرت الهزيمة من زاوية المقاومة الفردية، وصمود مدن مثل السويس، ومزجت بين السينما وأغنيات النضال الشعبي.
في السياق ذاته، وُلدت شخصية "حنظلة" للفنان الفلسطيني ناجي العلي، بعد عامين من الهزيمة، لتشكّل أيقونة بصرية عن طفل عربي يراقب العالم ويدير له ظهره، لا كرمز للعزلة بل كشاهد على الزيف. كتب ناجي على لسان هذه الأيقونة يوم ظهورها الأول في جريدة السياسة الكويتية 13 تموز/يوليو 1969: "اسمي حنظلة... اسم أبوي مش ضروري، أمي اسمها نكبة وأختي الصغيرة سموها نكسة... محسوبك إنسان عربي وبس...". ظل حنظلة يرافق ناجي حتى اغتياله، بل إنّ عمره كان أطول من عمر صاحبه، فظلّ ممثلًا لضمير شعبي نقديّ لا يساوم، وإن خفت وهج هذا الحضور، لارتفاع الثمن المدفوع للكلمة.
لم تكن الهزيمة، إذًا، حدثًا عابرًا، ذلك أنها أسهمت في التأسيس لهوية فنية وثقافية جديدة؛ فقد تسرّب أثرها إلى الأدب كما يتسرّب القلق إلى الروح. وسجّلت بيبلوغرافيا الرواية العربيّة قوائم طويلة في هذا الباب، تأتي رواية "صلاة القلق" للروائي محمد سمير ندا، الفائزة بجائزة الرواية العربية لعام 2025، لتُعيد مساءلة الهزيمة متجاوزة كونها محض نكسة عسكرية، للنظر إليها على أنها أزمة وعي وذاكرة. تدور أحداث الرواية في "نجع المناسي"، وهي قرية متخيّلة انعزلت تمامًا عن العالم الخارجي مدة عشر سنوات، بعد أن أغلقت على نفسها خلف حقل ألغام وهمي، ظنّ أهلها أنه يفصلهم عن عدوٍّ يتربّص بهم. وبسبب هذا الانقطاع الكلّي، بقي سكّان القرية أسرى الرواية الإعلامية التي روّجت لها السلطة في الأيام الأولى من حرب 1967. إنها رواية عن وهم السيادة، وزمن الشعارات المعلّقة في الهواء، وحالة انتظارٍ معلّقة لم تنتهِ منذ النكسة.
كانت الهزيمة زلزالًا نفسيًا وثقافيًا خلخل البنية العاطفية والفكرية لجيل كامل من العرب، من المحيط إلى الخليج. ومع أن كثيرًا من الشعراء اكتفوا بترديد نغمات المرثيات أو الشعارات، فإن صوتًا مثل غازي القصيبي خرج عن السرب، ليجعل من الشعر ساحة مواجهة للذات المهزومة، وللثقافة التي مهدت الطريق إلى الهزيمة بالصمت والخرافة والغرور. جاء ديوان القصيبي "معركة بلا راية" مختلفًا في نبرته ومضامينه. فيه يواجه الشاعر مرارات الهزيمة وآثارها، ويُحذّر من مصير يحاكي مصير "الهنود الحمر"، إن استمرت الأمة في الانحدار والانخداع. كانت الهزيمة، كما رآها، أكثر من خسارة أرض؛ كانت تهديدًا للهوية، وانكشافًا صارخًا لوهم القوة والعزة. لم تكن قصيدة "بعد سنة" في الذكرى الأولى للهزيمة إلا استمرارًا لهذا النزيف الداخلي. هناك، يواجه القصيبي دور الشاعر في ظل الدماء والدموع، ساخرًا من دوره العاجز، وناقدًا ذاته كما ينقد الآخرين:
"ما الذي يفعله الشاعر في وجه دموع الثاكلات // وهو في ذلته بعض الجريمة // غير أن يكتب شعرًا زائفًا يخجل أن يلمس ذكرى الميتين// غير أن يسبح في الطين ويجترّ الهزيمة؟"
في هذه اللغة دعوة للصحوة، كما عبّر عنها القصيبي بوضوح في مقاله الشهير "دروس من الهزيمة" الذي كتبه بعد الهزيمة مباشرة، والذي نشره لاحقًا ضمن كتابه "الغزو الثقافي ومقالات أخرى". في هذا المقال، يقدّم دروسًا مركزية اعتبرها ضرورية لتجاوز المأساة وتحويل الهزيمة إلى نقطة انطلاق: مواجهة الحقائق بدل الهروب منها، فقد رأى أن جزءًا من الهزيمة كان في اللغة التي زيّفت الواقع، حين سُميت الهزيمة "نكسة"، والانسحاب "احتلال مواقع بديلة".
لكن الهزيمة الحقيقية تجاوزت المعركة إلى قبولنا ما يجري، وفي تواطئنا بالصمت، وفي أننا اليوم نترك غزة وحدها تواجه مصيرها. ففي "الأيام الأخيرة لغزة"، لا يكتب كريس هيدجز عن حرب، بل عن نهاية أخلاقية عالمية، عن مجازر تُنفّذ أمام أعين الجميع، في بثّ حيّ، بلا توقف. يقول: "لقد شاركنا — نحن — في هذه الإبادة، بوعي كامل... سنُسدل الستار على إبادة جماعية بثّت لحظة بلحظة.." ويضيف: "الغاية ليست الطعام. الجميع يعلم أنه لا توجد كميات كافية ولا مراكز توزيع حقيقية. الهدف هو حشرهم في مجمّعات محاطة بالأسلاك والأسلحة، تمهيدًا للترحيل." هذه ليست مأساة تُصوّر، بل سياسة تُنفّذ.
أما أولئك الذين يصمتون عن الإبادة فيقول عنهم، "هم يعلمون..." لكنهم لا يريدون أن "يخاطروا بمكانتهم، أو باتهامهم بمعاداة السامية، أو فقدان وظائفهم. إنهم لا يواجهون الموت كما يفعل الفلسطينيون." بل يخشون فقط "خدش الهالة التي بنوها حول ذواتهم من ثروة ومكانة. أوهام، أصنام، يسجدون لها، يعبدونها، ويُستعبدون بها." وعند أقدام هذه الأصنام، كما يكتب، "ترقد جثث عشرات الآلاف من الفلسطينيين."
أن نقبل بهذا كلّه، أن نصمت عنه، أن نبرّره أو نُدير له ظهورنا، هو أن نسقط في هاوية الهزيمة الكاملة. وهنا، تمامًا، ندخل في مدارات الهزيمة؛ حين يتقاطع العجز مع الخوف، ويتحوّل الصمت إلى شَرَكٍ أخلاقي، نعلق فيه حتى نستقرّ في قلب العتمة، مدّعين الحياد. أما بداية الخلاص — أو ما تبقى منه — فتكمُن في رفض الصمت، في ألّا نترك غزة وحدها، ولو بالكلمة. لأن هذه الإبادة، كما يختم هيدجز، "ستطاردنا. ستهدر في التاريخ كالتسونامي. ستقسّمنا إلى الأبد. لا طريق للعودة."
دمتم بخير،
رهام عمرو