القارئات والقراء الأعزاء،
في الوقت الذي يمكن فيه وصف المشهد بكونه الأشدّ مأساويّة في تاريخنا المعاصر، وفي لحظة انكشافٍ غير مسبوقة تلك التي وجد فيها العربيُّ نفسه أمام صورةٍ لم يكن يرجو أن تكون بهذا الوضوح؛ لبشاعتها وغياب قدرته فيها على اختيار المواجهة، أو لنقل انعدام فرص الاختيار، وإن ارتبط مفهوم المقاومة عمومًا بمواجهة الاحتلال بقوة السلاح والنضال السياسي، الأدب، الموسيقا، والرسم، لكن الوجه الآخر منه يمتد إلى ما أبعد من ذلك وصولًا إلى البقاء على قيد الحياة.
وأمام طوفان أزاح كل ما يغبّش الرؤية أو يعدمها، تتلاحق المشاهد كما لو كانت في فيلم سينمائيٍّ لعالمٍ يستيقظ من غفوته، يُحرِّك مؤسساته الرسميّة، ويصنع قراراتٍ جديدة، ويواجَهُ كذلك بقوّة "أمريكا" في مشهد التصويت لدفع جريمة الإبادة نحو حلقاتٍ جديدة؛ حين تستعمل أمريكا في الثامن عشر من أيلول/ سبتمبر الماضي حق النقض (الفيتو) فتُطيلَ عمر الجريمة ومشاهد الدماء، فتصرّح مورغان أورتاغوس، نائبة المبعوث الأمريكي الخاص إلى الشرق الأوسط، قائلةً: "إن رفض الولايات المتحدة لهذا القرار لن يشكل مفاجأة لأحد".! وفي مشهد متّصل، تقوم إسرائيل بجريمتها البشعة في اليمن بحقِّ اثنين وثلاثين صحفيًّا يمنيًّا قتلتهم في عدوانها على صنعاء، وشُيِّعت جثامينهم قبل أيام.
وفي هذه الأثناء، وحين نطالع مشهدًا موازيًّا، فإننا نرقبُ سفن الحرية تحمل أسماءً ورموزًا للذاكرة والمقاومة والتضامن، في طريقها نحو كسر الحصار الإسرائيلي عن غزة ودعم الشعب الفلسطيني، ضمن جهود دولية للتضامن ومناهضة الاحتلال. يُعد هذا التحرك الأول من نوعه بهذا الحجم منذ بدء الحصار، حيث تجتمع عشرات السفن من عدة دول في محاولة جماعية لكسره.
ولأنَّ الوعي بالسرديات حول الماضي — تاريخًا كان أم ذاكرة — بوصفه مجالًا للمقاومة، يُعَدّ عنصرًا بارزًا في خطاب التحرر، فإننا نجد في هذه الاستعادة التاريخيّة لوجوه نضاليّة لا تغيب عن الذاكرة فعلَ مقاومة يغيظ المحتلّ، فها هي سفينة "عمر المختار" الليبية تبحر بمعيّة أسطول الصمود العالمي، بعد تجهيزها بوحدة عناية مركزة لتقديم الخدمات الصحية للأسطول.
هذا الوعي بالماضي الممتد إلى الحاضر هو ما تحدّث عنه فرانتز فانون، في كتابه "معذّبو الأرض" بقوله إنّ الاستعمار لا يكتفي بالقبض على شعبٍ ما وإفراغ عقل المستعمَر من كل شكل ومضمون، بل إنّه، بمنطقٍ معكوسٍ ومشوَّه، يتوجّه إلى ماضي الشعوب المقهورة فيشوِّهه ويحرِّفه. لذلك، فإن تحرّر المستعمَرين يقتضي أن يقرّروا "وضع حدٍّ لتاريخ الاستعمار — تاريخ النهب — والشروع في إنشاء تاريخ الأمة — تاريخ التحرر من الاستعمار".
ومنذ "الثلاثاء الحمراء" حين صعد عطا الزير وفؤاد حجازي ومحمد جمجوم إلى المشنقة البريطانية، وثبات عمر المختار على منصة الإعدام الإيطالية في الثلاثينيات، وحتى ابتسامة العربي بن مهيدي في زنزانة التعذيب الفرنسية في الخمسينيات، ظلّت المقاومة تُثبت أن الموت ليس نهاية بل بداية جديدة. إن هذه الصور لا تغادر الذاكرة الجمعية لأنها تكشف أعمق أسرار المقاومة: الشهادة ليست خاتمة النضال، بل بدايته الأبدية.
راكمت المقاومة الفلسطينيّة خبرة متنامية في الأساليب والأدوات؛ إذ بدأت قوية وعنيفة، عبر الاحتجاجات والإضرابات والعمل الفدائيّ المسلح، وكانت تدرك أهميّة لفت الأنظار إلى قضيتها. فتجسّد ذلك في عمليات اختطاف الطائرات خلال سبعينيات القرن الماضي. ومع الزمن طوّرت أنماطًا مدنيّة عابرة للحدود، تمثلت في "حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات ضدّ إسرائيل" (BDS)، عبر حملات على وسائل التواصل الاجتماعيّ، إضافة إلى مظاهرات واحتجاجات استهدفت الشركات المتورّطة بعقود مع الجيش الإسرائيليّ، أو مع شركات في المستوطنات الإسرائيليّة.
ولم تكن المقاومة يومًا حكرًا على الرجل، فقد اتخذت أشكالًا لم تغب عنها النساء. تبيّن حنين الغبرا في كتابها "النساء المسلمات في مواجهة الأنوثية البيضاء" أن مقاومة المرأة يمكن أن تبدأ داخل مجتمعها نفسه. وتلفت إلى أن النساء المسلمات يُوضَعن غالبًا في موضع "الآخر"، أو يُتعامل معهن بوصفهن موضوعًا جاذبًا للانتباه والمقاومة في آنٍ واحد. وتؤكد أن المقاومة تتخذ العديد من أشكال الفاعلية المباشرة إلى استراتيجيات الأداء الخفية، وأن هذه العملية لا تتجلى بالضرورة عبر أشكالٍ فنية أو رمزية فحسب، بل تأتي في سياق استعادة السيطرة على تمثيلاتهن وهوياتهن.
كما تصدّت أروى عثمان للحديث عن أشكال المقاومة، ونقرأ في مراجعة كتابها "ربيع الفرجة" أنّه لا يقدّم فقط أرشفة فنية للاحتجاج، بل يُسائل أيضًا علاقة الفن بالمقاومة، ويُبرز كيف يمكن للتعبيرات الشعبية أن تتجاوز دورها التعبيري لتُصبح أدوات فعل سياسي وثقافي، فتنتقل عثمان إلى تحليل العروض المسرحية والفنية التي أُقيمت في تلك الساحات، معتبرة إيّاها أشكالًا من التعبير الرمزي والسياسي البديل، تُزاوج بين الإبداع والمقاومة.
في السياق ذاته نجد المقاومة بالفن عند تمام الأكحل وإسماعيل شموط؛ فقد اشتركا في معارض مختلفة حول العالم، وكانت فلسطين دائمًا هي الموضوع. في كتابها "اليد ترى والقلب يرسم" واصلت تمام ما نذرا حياتهما من أجله: المقاومة بالفن، بالكلمات، وبحفظ الذاكرة الفلسطينية بالفرشاة واللون.
وفي أعماق التاريخ الإنساني، تتكرر حكاية واحدة بأشكال مختلفة: حكاية الشعوب التي ترفض أن تُقتلع من أرضها، التي تقاوم بالصمود في المكان حتى عندما تواجه محاولات الإبادة والتهجير. إنها قصة مقدسة تتردد من سهول أمريكا حيث قاوم السكان الأصليون أثناء "درب الدموع"، إلى صحاري أستراليا حيث يحافظ الأبوريجينال (السكان الأصليين) على "زمن الحلم"(Dreamtime)، وصولاً إلى أرض فلسطين حيث يجسد أهلها اليوم في ظل الإبادة والتهجير معنى المقاومة بالصمود بأبهى صورها.
وهو ما تصفه لاله خليلي في كتابها "أبطال وشهداء فلسطين" بأن فعل المقاومة هو "الفعل البسيط للمقاومة الذي يتطلب إعادة بناء بيتك حتى بعد أن هُدم للمرة الخامسة، وإنجاب الأطفال مجددًا رغم ذبح أبنائك أمامك، والبقاء في المخيم أو على الأرض رغم اجتياح محيط تلك الأماكن بالجيش والمدافع والدبابات".
في سياق مُقارب تتحدث منيرة خياط عن موضوعة الأرض، وفي كتابها "مشهد الحرب" يظهر حضور المكان والتمسك به: "لا يزال القرويون في الجنوب يشيرون بفخر إلى حضورهم المستمر في المكان، وإلى ممارساتهم الحياتية المستدامة في مواجهة شبح الفناء، بوصفها مقاومة، وهي تشمل الصمود كنوع من الوجود العنيد."
هذه المقاومة تتردد أصداؤها عبر القارات والتاريخ، من مناطق السكان الأصليين في العالم التي تصر على البقاء، مرورًا بذكرى المقاومين الذين أعدمهم الاستعمار ولم ننسَ أسماءهم؛ إنها مقاومة لا نستطيع أن نتغنى بها، لأنها تولد من الألم. ولا نستطيع أن نحتفل بها، لأنها تنبع من المعاناة.
لكن لم تعد فلسطين وحدها في هذه المواجهة، فقد اختلطت دماء متضامنين من العالم مع دماء أبنائها دفاعًا عنها. منذ ما يزيد على عقدين قُتلت راشيل كوري تحت جرافة الاحتلال، وقتل توم هرندل أثناء حمايته مجموعة من الأطفال في رفح، وفي شباط/ فبراير 2024 أحرق الطيار الأميركي آرون بوشنل جسده احتجاجًا على دعم بلاده للحرب على غزة. دماؤهم قالت بوضوح إن المقاومة ليست شأنًا محليًا، بل قضية إنسانية مشتركة.
هذا التوحّد الإنسانيّ دفع حركة المقاومة الإسلامية (حماس) إلى أن تنعى بوشنل، إذ أعلنت أن "آرون بوشنل سيظل خالدًا في ذاكرة الشعب الفلسطيني والأحرار حول العالم، رمزًا للتضامن الإنساني مع القضية الفلسطينية العادلة".
وهنا يكمن أعظم لغز للمقاومة: من يموتون من أجلها لا يموتون حقًا، وهذه التحوّلات لا تنتهي أبدًا، ولا تكتمل، لأن أشكال الظلم تتجدد باستمرار، مما يستدعي أشكالًا جديدة من المقاومة، يصبح أسطول الصمود في طريقه إلى غزة أحد تشكّلاتها الجديدة.
في هذا العدد نُحيي كل مقاوم دافع عن الحق، لكل من حمل الحجر أو القلم أو العصا أو السلاح، وخرج من حدود الزمن العادي ليدخل حيّز الذاكرة التي لا تفنى، ليتحقق به قول أبي تمام:
"عَلَيكَ سَلامُ اللَهِ وَقفاً فَإِنَّني رَأَيتُ الكَريمَ الحُرَّ لَيسَ لَهُ عُمرُ".
دمتم بخير،
رهام عمرو