يقدّم كتاب "ربيع الفرجة: سيميولوجيا المشهد الاحتجاجي في اليمن 2011-2012" لأروى عثمان قراءة غير تقليدية للثورة اليمنية، بوصفها "فرجة" لا مجرد حدث سياسي. يستند إلى أدوات السيميولوجيا وتحليل الأداء الجسدي والبصري لفهم كيف عبّرت الثورة عن نفسها عبر الصورة، والجسد، والفضاء العام، لا عبر البيان والخطاب فقط. يكشف الكتاب عن طاقة الاحتجاج كعرض رمزي جماهيري، حيث تُنتج المعاني وتتنازع الرموز، ويصبح الجسد والصورة أدوات للمقاومة لا التوثيق فقط.
فوزي الغويدي[1]
أن تكتب عن الثورة الشبابية اليمنية عام 2011 من منظور سياسي، فأنت تؤرّخ للوقائع. وأن تكتب عنها من منظور إنساني، فأنت توثّق الألم. لكن أن تتناولها من زاوية سيميولوجية، بوصفها فرجة كبرى، فأنت تمزج بين التأمل النقدي وتحليل الصورة، بين المعنى الذي يُقال والمعنى الذي يُؤدّى.
هنا تحديدًا يتموضع "ربيع الفرجة"[2] ليس شهادة، ولا بيانًا سياسيًا، ولا تأريخًا للأحداث، بل هو محاولة جريئة لفهم ما جرى – أو بالأحرى: ما شوهد – في الثورة اليمنية، عبر أدوات علم العلامات البصرية (السيميولوجيا)، وتحليل "المسرح السياسي" بوصفه أداءً (performance)، وجسدًا حاضرًا، وجمهورًا متفاعلًا، وكاميرا توثّق.
يُقدّم الكتاب قراءة بصرية رمزية للثورة اليمنية في سياق "الربيع العربي"، لا من حيث مطالبها وشعاراتها، بل من حيث صورها وتمثيلاتها وأدائها في الفضاء العام. وهو ينظر إلى الفعل الثوري لا بوصفه مجرد احتجاج، بل بوصفه "عرض" جماهيري، تُؤدّى فيه الهوية، وتتنازع فيه الرموز، وتُعيد المكونات إنتاج نفسها، وتُلتقط خلاله الصور التي ستُدوّن لاحقًا كـ"ذاكرة للفرجة".
ففي خضم موجة التحوّلات التي اجتاحت العالم العربي عام 2011، والتي عُرفت بـ "الربيع العربي"، برزت الحركات الاحتجاجية كفاعل أساسي في إعادة تشكيل المشهد السياسي والاجتماعي. لم تكن هذه الحركات مجرّد تجمّعات عفوية للمطالبة بالتغيير، بل كانت مسرحًا غنيًا بالرموز والدلالات التي عكست تطلعات الشعوب وآلامها. في هذا السياق، يأتي كتاب الباحثة اليمنية أروى عثمان، "ربيع الفرجة: سيميولوجيا المشهد الاحتجاجي في اليمن 2011-2012"، الصادر عن مؤسسة أروقة للدراسات والترجمة والنشر عام 2022، كعمل تأسيسي ومحوري يُقدّم قراءة فريدة وعميقة لهذه الظاهرة. إذ يتجاوز الكتاب السرد التقليدي للأحداث، ليغوص في الأعماق السيميولوجية للمشهد الاحتجاجي، كاشفًا عن شبكة معقّدة من العلامات والرموز التي شكّلت لغة هذا الحراك.
تكمن أهمية هذا العمل في منهجيته المبتكرة التي تتخذ من السيميولوجيا، أو علم العلامات، أداة لتحليل الظواهر الاجتماعية والسياسية. فبدلاً من التركيز على الأسباب المباشرة للاحتجاجات أو نتائجها السياسية، تنصرف أروى عثمان إلى السؤال عن كيفية التعبير عن هذه الاحتجاجات، وكيف بُني المعنى وتداوَله الناس عبر الصور، الشعارات، اللافتات، الأهازيج، وحتى الأداء الجسدي للمتظاهرين. إنها دعوة للنظر إلى ما وراء المشهد، إلى البُنى العميقة التي تحكم إنتاج الدلالة وتلقيها في سياق ثوري.[3]
يبدأ الكتاب من مفهوم "الفرجة"، لا بوصفه حالة بصرية فقط، بل باعتباره نظامًا دلاليًا اجتماعيًا تتداخل فيه السياسة بالصورة، والاحتجاج بالأداء، والسلطة بالتمثيل. فمشهد الفرجة في التاريخ – من المواكب الرومانية، إلى مواكب الديكتاتوريات المعاصرة، وصولًا إلى ساحة التغيير– يكشف أن كل فعل جماهيري هو إخراجٌ لمعنى سياسي. فالفرجة ليست ترفًا بصريًا، بل ممارسة للسيطرة أو للمقاومة؛ إنها ساحة صامتة يُعاد فيها إنتاج السلطة، أو تفكيكها. ومن هذا المدخل، تتوزع فصول الكتاب في مسارات ثلاثة متداخلة:
- تأصيل نظري لمفهوم الفرجة في التاريخ البشري.
- تفكيك لمشهد الثورة اليمنية عبر صور الجسد والميدان والتموضع البصري.
- محاولة لقراءة "السياسي" من خلال ما هو "أدائي: "كيف تؤدي الجماهير ذاتها؟ كيف يُعاد إنتاج القمع والسلطة؟ وكيف يتكلم الجسد حين يصمت البيان؟
السيميولوجيا كأداة للفهم
لا تُستخدم السيميولوجيا بوصفها ترفًا مفاهيميًا، بل تُستحضر كأداة لالتقاط ما لا تقوله الشعارات أو البيانات السياسية. فحين تعجز اللغة عن استيعاب الطوفان الثوري، تُصبح الصورة، والإشارة، والجسد، والمكان أدوات بديلة للقول. هنا تتجلّى السيميولوجيا بوصفها منهجًا للقراءة في زمن التشويش، تميّز بين ما يبدو ظاهرًا وما يُراد له أن يُفهم، بين التمويه والتمثيل.
يوظّف الكتاب السيميولوجيا ليعيد ترتيب العلاقة بين الفعل الثوري والرمز، بين اللحظة السياسية والتموضع البصري. فالساحة لم تكن مجرّد فضاء احتجاج، بل مسرحًا دلاليًا تتقاطع فيه طبقات من المعاني: مَن يتكلّم؟ مَن يصمت؟ مَن يظهر في الصورة؟ ومَن يُقصى؟ وبهذا، لا تكون السيميولوجيا علمًا تحليليًا جافًا، بل بوصلة لفهم الحدث في عمقه الرمزي، حين تُروى الثورة كلغة ثانية، لا تُقال، بل تُؤدى.
تعتمد الباحثة، في مقدمتها، على إطار نظري متين يجمع بين رواد السيميولوجيا الكلاسيكيين، مثل فرديناند دي سوسير ورلان بارت وتستدعي نصوص لـ غي ديبور وجان بودريار، وبين مفاهيم الدراسات البصرية التي تُعنى بتحليل الصورة كحامل للدلالة. هذا التزاوج المنهجي يمنح الكتاب قدرة فريدة على تفكيك المشهد الاحتجاجي، ليس بوصفه مجرد أحداث سياسية، بل ظاهرة ثقافية بصرية غنية بالرموز والمعاني.[4]
تتبّع أروى عثمان خطى بارت في تفكيك الأساطير التي كانت تحيط بالنظام الحاكم في اليمن، وكيف أسهمت الاحتجاجات في خلق أساطير بديلة. ففي كتابه "أساطير"، يحلّل بارت كيف تعمل العلامات في المجتمع الحديث على ترسيخ أيديولوجيات معينة. ومع ذلك، تتميّز مقاربة عثمان بتركيزها على سياق محدد (اليمن)، وبتحليلها المفصّل للإنتاج الرمزي للحركة الاحتجاجية نفسها، وليس فقط نقد الأيديولوجيا السائدة.
وعلى الرغم من اعتماد الكتاب، في الأساس، على السيميولوجيا، إلا أنه يتجاوز في بعض جوانبه حدود السيميولوجيا التقليدية التي تركز على اللغة والنصوص المكتوبة. فبتحليلها للجسد والفضاء والأداء، تقترب أروى من مجالات معرفية أخرى، مثل الدراسات البصرية، والأنثروبولوجيا، ودراسات الأداء. هذا التداخل المنهجي يمنح الكتاب ثراءً وعمقًا إضافيًا، ويجعله مساهمة مهمة في تطوير الدراسات البينيّة في العلوم الإنسانية والاجتماعية.
الجسد كعلامة: لغة المقاومة الصامتة
يُعدّ الجسد من أكثر المواضيع المهمة في المشهد الاحتجاجي في اليمن، وذلك يعود لطبيعة المجتمع المحافظ، المحكوم بسلطة أبوية/ دينية، تجعل من إظهار الجسد -وخصوصًا "الجسد الثوري"- فعلًا محملًا بالدلالات. فالجسد هنا ليس مجرد وسيلة تعبير، بل هو الرسالة ذاتها. ففي ساحة التغيير، لم تكن الشعارات وحدها هي الحاضرة، بل كانت الأجساد – في وقوفها وجلوسها وسقوطها – تكتب سردية موازية. وتلفت أروى إلى رمزية السواد الذي أُحيط بالمرأة، بل فُرض عليها، مما جعل المشهد الفرجوي في الساحة يُزيّن بمربع أو مثلث صغير أو شبه منحرف، تُحشر فيه النساء الثائرات مما يعبر عن رمزية سلطة القبيلة والدين في تشكيل فضاء المشهد الاحتجاجي.
كما تحلل الدور العميق للجسد في الفعل الاحتجاجي ، مؤكدة على أن الجسد لم يكن مجرد أداة للتظاهر، بل تحوّل إلى ساحة للمقاومة الرمزية، وموقع للفعل السياسي. فالجسد، سواء كان فرديًا أو جماعيًا، أصبح حاملًا للرسائل، ومجسدًا للدلالات التي تتجاوز حدود اللغة المنطوقة. ثم تناقش الكاتبة كيف يتحوّل الجسد، حين يُقمع أو يُقتل أو يُجرّ، إلى "أيقونة بصرية" تخلق أثرًا أقوى من الكلمات. وتربط هذا التحوّل بالصور التي التُقطت للشهداء والجرحى، وكيف جرى تداولها كما تُتداول مشاهد الفداء في المسرح الملحمي.
ثم تُبرز أروى كيف أن الأداء الجسدي للمتظاهرين، من الوقوف والصمود لساعات طويلة، إلى الإيماءات وتعبيرات الوجه، وحتى الجروح والندوب التي قد يتعرضون لها، كلها كانت تحمل دلالات عميقة. فالجسد المنهك من الجوع والتعب، أو الجسد الذي يحمل آثار التعذيب، يتحوّل إلى رمز للمقاومة والصمود في وجه القمع والاستبداد. ويتقاطع هذا التحليل مع أفكار ميشيل فوكو حول "الجسد السياسي"، وكيف تسعى السلطة إلى السيطرة على الأجساد وتطويعها، في مقابل إمكان تحوّل الجسد ذاته إلى أداة مقاومة ضد هذه السيطرة.[5] وفي سياق الثورات العربية، رأينا كيف تحوّلت أجساد الشهداء إلى أيقونات، وكيف أصبحت صورهم ودماؤهم رموزًا للتضحية والإلهام، ما يؤكد الأهمية السيميولوجية للجسد في الحراك الثوري. غير أن الباحثة تخلص إلى أن سيمولوجية الجسد كانت مؤشرًا على أن القوى المتشددة هي من سوف تسيطر وتعيق حلم الدولة المدنية التي خرج من أجلها الشباب.
مصدر الصورة: أروى عثمان، ربيع الفرجة، ص 395
الساحة بوصفها فضاءً احتجاجيًا
تقدّم الكاتبة تحليلًا سيميولوجيًا لفضاء الساحة، مؤكدة أن ساحات التغيير في اليمن لم تكن مجرّد أماكن جغرافية محايدة، بل تحوّلت إلى فضاءات رمزية أُعيد تعريفها وتشكيلها من خلال الممارسة الاحتجاجية. تُظهر كيف أن هذه الساحات، مثل ساحة التغيير في صنعاء، أصبحت "أوطانًا مصغّرة"، حيث بُنيت مجتمعات بديلة لها قوانينها، طقوسها، ..الخ. وتبيّن أن تنظيم الفضاء داخل هذه الساحات، من توزيع الخيام، إلى المنصات الخطابية، إلى أماكن الصلاة والطعام، يكشف عن عملية بناء دلالي معقّدة؛ فكلّ عنصر في هذا الفضاء كان يحمل معنى، ويسهم في تعزيز سلطة فصيل معيّن من بين مختلف المحتجين. تتوافق هذه الفكرة مع مفهوم "الفضاء الاجتماعي" عند هنري لوفيفر، الذي يرى أن الفضاء ليس مجرّد مكان مادي، بل هو نتاج للعلاقات الاجتماعية والممارسات اليومية.[6] وفي سياق ثورات الربيع العربي، يصبح الفضاء ساحة للصراع على المعنى، حيث تُتحدّى السلطة القائمة من خلال إعادة تعريف الفضاءات العامة وتحويلها إلى فضاءات للمقاومة. وبحسب أروى، تحوّلت أيضًا ساحة التغيير إلى فضاء خاضع لسلطة القبيلة ورجال الدين.
وفي حين يمثّل تحويل الساحات العامة إلى فضاءات احتجاجية عملية "استعادة" للفضاء من قبضة السلطة وإعادة توظيفه لخدمة أهداف الثورة، فإن هذا الفضاء - الذي كان يُنظر إليه سابقًا كمجرّد مكان للعبور أو التجمّع العشوائي- أصبح الآن مركزًا للقرار، ومسرحًا للتعبير عن الإرادة الشعبية. ويعكس هذا التحوّل في دلالة الفضاء تحولًا أعمق في الوعي الجمعي، حيث لم يعد الشعب يرى نفسه مجرّد متلقٍّ للقرارات، بل أصبح فاعلًا رئيسيًا في صناعة مصيره.
مصدر الصورة: أروى عثمان، ربيع الفرجة، ص 395
الخطاب الاحتجاجي: لغة متعددة الأوجه
تناولت أروى الشعارات والهتافات التي ترددت في ساحات التغيير اليمنية، مُبرزة التنوّع الكبير في هذا الخطاب، الذي تراوح بين الشعارات السياسية المباشرة، وتلك الساخرة، والشعارات ذات الطابع الديني أو القبلي. يعكس هذا التنوع التركيبة الاجتماعية والثقافية المعقّدة للمجتمع اليمني، كما يُظهر قدرة الحراك على استيعاب وتوظيف مختلف أشكال التعبير. حلّلت أروى مسألة توظيف التراث الشعبي، والأمثال، والنكات في صياغة هذه الشعارات، ما جعلها أكثر تأثيرًا وقدرة على التعبئة. فالشعارات التي تستخدم الفكاهة والسخرية، على سبيل المثال، تعمل على تفكيك هيبة السلطة وتجريدها من شرعيتها الرمزية، مما يقلّل من خوف الناس ويشجعهم على المشاركة. ثم توضح كيف تطوّر هذا الخطاب مع تطور الأحداث، وانضمام الأحزاب والعسكر، وكيف عكس هذا التحوّل تطورًا في وعي المتظاهرين ومطالبهم. ففي البداية، كانت الشعارات عامة وتطالب بالإصلاح، ولكن مع تصاعد الأحداث وقمع السلطة، أصبحت أكثر حدة ومباشرة، مطالِبة بإسقاط النظام. يُثري هذا التطور في الخطاب فهمنا لما يُعرف بـ"سيميولوجيا الخطاب السياسي"، وكيف يمكن للغة أن تكون أداة قوية للتعبئة والتغيير الاجتماعي. كما تناولت التعبيرات البصرية والسمعية التي رافقت المشهد الاحتجاجي، بوصفها جزءًا أصيلًا من البنية الثقافية للثورات، لا مجرد مظاهر هامشية. فاللافتات، والملصقات، والرسوم الجدارية، والكاريكاتير، إضافة إلى الأغاني والأناشيد الثورية، كلها تُدرس هنا بوصفها وسائط دلالية فاعلة ومحمّلة بالرسائل الرمزية. ولعل أبرز مثال ورد في الكتاب لما له من أثر هو "جرافيتي المخفيين قسرًا"[7] الذي جعل الناس يتساءلون عن هؤلاء المخفيين،[8] وشخصياً قد جعلني هذا الجرافيتي في البحث عن أمرهم فقد اكتشتف كما اكتشف غيري بأن نظام علي عبدالله صالح قد غيب هؤلاء من الذاكرة اليمنية بل وحتى ذاكرة المنظمات المشتغلة بحقوق الإنسان.
كما قامت الكاتبة بمقاربة سيميولوجية دقيقة لتحليل اللافتات، مشيرة إلى أن هذه الوسائط لم تُنتج بوصفها أدوات توصيل مباشرة فحسب، بل صيغت بعناية لشدّ الانتباه وبثّ رسائل مشفّرة في الألوان، الخطوط، والمفردات. وتبرز أيضًا البُعد الشعبي والعفوي لهذه اللافتات، إذ غالبًا ما كان المتظاهرون هم من يتولّون صناعتها وتوزيعها، ما يُكسبها قوة رمزية ومصداقية اجتماعية.
المصدر: أروى عثمان، ربيع الفرجة، ص 389
أما الرسوم الجدارية والكاريكاتير، فتُقرأ في هذا الفصل بوصفها أشكالًا من "الخطاب المقاوم" الذي يُقوّض رمزية السلطة ويسخر من رموزها. وترى عثمان في هذه الفنون تجليات إبداعية قادرة على تحويل فضاءات المدينة إلى معارض احتجاجية مفتوحة، يتجلّى فيها النقد السياسي من خلال السخرية، والتأريخ الشعبي من خلال اللون والرمز.
تنتقل أروى إلى تحليل الأغاني والأناشيد الثورية، مشيرة إلى أهميتها كوسيلة للتعبئة وتعزيز الانتماء الجماعي. الأغنية هنا ليست مجرّد أداة لرفع المعنويات، بل تُقدَّم بوصفها نصًا ثقافيًا قادرًا على تخليد الشهداء، وتجذير الذاكرة الثورية، وتوجيه الخطاب السياسي الشعبي.
وقد تميّز هذا الفصل بقدرة الباحثة على الجمع بين التحليل السيميولوجي العميق والحساسية الثقافية، ما يضفي على الكتاب بعدًا نظريًا وميدانيًا في آنٍ واحد. فهو لا يقدّم فقط أرشفة فنية للاحتجاج، بل يُسائل أيضًا علاقة الفن بالمقاومة، ويُبرز كيف يمكن للتعبيرات الشعبية أن تتجاوز دورها التعبيري لتُصبح أدوات فعل سياسي وثقافي. وقد لفتني اختيارها لبعض من الزوامل[9] القبلية التي شاعت في تلك الفترة مثل زامل قبيلة خولان :
بعزم واستبسال جات أحرار خوﻻن الطيال
تشارك الأبطال في التغيير ثورة زايدة
ارحل مع الجهال يا دجال لن تبقى محال.[10]
في سيميولوجيا الأداء الاحتجاجي
يتناول الكتاب الأداء الاحتجاجي بوصفه شكلًا من أشكال التعبير السيميولوجي، إذ لا يقتصر الاحتجاج على الشعارات واللافتات، بل يشمل أيضًا الأفعال والممارسات التي يقوم بها المتظاهرون. ويقدم تحليلاً للمسيرات والمظاهرات باعتبارها أداءً جماعيًا يحمل دلالات رمزية عميقة؛ فالمسيرة ليست مجرّد حركة من نقطة إلى أخرى، بل هي عرض بصري للوحدة، والإصرار، والانتماء، ووسيلة لإيصال رسائل مباشرة إلى السلطة الحاكمة.
يتوّسع الفصل كذلك في تحليل الطقوس الجماعية والاحتفالات التي كانت تُقام في ساحات التغيير، والتي لم تكن مجرّد ممارسات اجتماعية مرافقة للاعتصامات، بل حملت أبعادًا رمزية عميقة أسهمت في إضفاء شرعية أخلاقية ودينية على الحراك الاحتجاجي. تشير الباحثة إلى أن الصلاة الجماعية، والإفطارات في رمضان، والاحتفال بالمناسبات الوطنية والدينية، كانت وسائل لربط الثورة بالقيم الثقافية والدينية، وتعزيز الإحساس الجمعي بالانتماء والرسالة المشتركة. ومن خلال هذا التوظيف الرمزي للطقوس، برزت الساحة الثورية بوصفها مجالًا عامًا بديلًا، تتداخل فيه السياسة بالمقدّس، والاحتجاج بالاحتفال، والخوف بالأمل.
وفي ختام الفصل، تنتقل عثمان إلى تحليل العروض المسرحية والفنية التي أُقيمت في تلك الساحات، معتبرة إيّاها أشكالًا من التعبير الرمزي والسياسي البديل، تُزاوج بين الإبداع والمقاومة. تُظهر الباحثة كيف أن هذه العروض لم تكن مجرّد أدوات لنقد السلطة وتفكيك خطابها الرسمي، بل مثلت أيضًا مساحات تفاعلية مكّنت المتظاهرين من إعادة إنتاج واقعهم من خلال الفن، وتجاوز مشاعر القهر واليأس. لقد تحوّلت الساحات، بحسب هذا التحليل، إلى فضاءات ثقافية نابضة أعادت صياغة العلاقة بين المواطن والفن والسياسة. وبهذا الامتداد التحليلي، يؤكّد الفصل مجددًا على أطروحة مركزية في الكتاب: أن الاحتجاجات لم تكن فعلًا سياسيًا فحسب، بل تجربة ثقافية متكاملة، تجلّت في اللغة، والصورة، والإيقاع، والطقس، والخيال الجماعي.
الصورة كفاعل ثوري
يُعدّ هذا الفصل من أهم فصول الكتاب، إذ يتناول دور الصورة بوصفها فاعلًا رئيسيًا في المشهد الاحتجاجي؛ من صور التظاهرات والمواكب، إلى الرموز البصرية واللافتات الأيقونية، مثل صورة الطالبات أدناه. ويتيح لنا هذا العرض طرح تساؤل مرير: هل صنعت الصورة ثورة؟ أم أن الثورة أنتجت صورًا تُستهلك ويُنسى ما وراءها؟ في هذا السياق، نستكشف ازدواجية الصورة؛ فهي في آن توثيق ومقاومة، لكنها قابلة أيضًا لأن تبتلعها السلطة أو تُحوّل إلى سلعة إعلامية.
ثم تذهب الباحثة إلى الحديث عن أن الصورة لم تكن مجرّد وسيلة لتوثيق الأحداث، بل تحوّلت إلى فاعل ثوري يُسهم في تشكيل الوعي، وتعبئة الجماهير، وتحدي الروايات الرسمية. ويُبرز هذا التحليل الأهمية المتزايدة لــ "سيميولوجيا الإعلام" في العصر الرقمي، حيث أصبحت الصورة أداة قوية للتأثير والتغيير. يمكن مقارنة هذا الجانب بأعمال جون بيرجر في "طرق الرؤية"، الذي يحلل كيف أنّ الصور ليست محايدة، بل مشبعة بالمعاني والأيديولوجيات، وكيف تُستخدم لتشكيل تصوّراتنا عن العالم.[11]
تُحلّل الباحثة ثماني صور مختلفة اتّخذتها كنماذج، فتناولت كيفية التقاطها، زوايا التصوير، الإضاءة، والرموز البصرية التي تحتويها، مبيّنة كيف تُسهم هذه العناصر مجتمعة في بناء رسالة بعينها. وتُرفق تحليلاتها بتعليقات إيجابية أو سلبية، وأحيانًا أخرى بنوع من السخرية. كما تُظهر كيف أن هذه الصور كانت تنتشر بسرعة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ما يُعزّز من تأثيرها ويُسهم في تعبئة الجماهير.
من الساحة إلى الصورة
تتجلّى قوة الكتاب في أنه لا يؤرّخ للثورة كما وقعت، بل كما ظهرت، كما شُوهدت، كما تُخُيّلت. إنه لا يتعامل مع الساحات بوصفها مسارح للقرار، بل خشبات لعروض أدائية، كلّ جسد فيها يحمل خطابًا، وكلّ صورة تفتح أفقًا دلاليًّا. نجحت أروى عثمان –في معظم فصول الكتاب– في تقديم قراءة تتجاوز السطح الإعلامي للحدث، لتتوغّل في أنسجة الصورة الثورية، فجعلتنا نرى ونفهم كيف تحوّل الجسد المسحوق إلى أيقونة، وكيف صار المشهد الثوري ذاته مادة للمراقبة، بل وللإخراج أحيانًا. يُظهر هذا نضجًا في الطرح؛ فليس كلّ ظهور انتصارًا، وليس كلّ تصوير تخليدًا. وهنا تبرز سمة نقدية نادرة في خطاب مؤيّدٍ للثورة، غالبًا ما يُجرفه الحماس.
يحسب للكتاب، في الختام، توظيفه لمفاهيم فرجوية عميقة مثل (spectacle, performance, semiotics) في حقل عربي غالبًا ما يفصل الرمزي عن الواقعي. فالباحثة لا تسقط في فخّ التنظير المجرّد، بل توصل المفاهيم بسلاسة إلى مشاهد من الواقع اليمني: القنّاص، المنصّة، موكب النساء، الجنازات، الصور المتداولة. ونلمس أيضًا تأثرًا واضحًا بمدارس مثل غي ديبور وجوديث بتلر، لكن دون اجترار؛ فالمفاهيم لا تُستورد بل يُعاد توليدها من رحم الميدان اليمني نفسه.
في المحصّلة، نحن أمام كتاب لا يقدّم الحقيقة النهائية، لكنه يوسّع أفق الرؤية. لا يُغني عن التأريخ، لكنه يُنبّهنا إلى النسيج البصري الذي نُسيت فيه الثورة، في زمن ابتلعت فيه السرديّات الكبرى كلّ أثر شخصي. بعد قراءة كتاب "ربيع الفرجة"، لا تخرج وأنت تملك "خلاصات نهائية" عن الثورة اليمنية، بل تخرج مثقلاً بما لم يُقل، بما لم يُرَ كما ينبغي، بما طُمر تحت ركام الأخبار والفعاليات والمسيرات. الكتاب لا يَعدك بالوضوح، بل يحفّزك على النظر مرّتين: إلى الصور التي مرّت سريعًا، وإلى نفسك كمُتلقٍّ صدّق يومًا أن الصورة تُنقذ. وهذا وحده كافٍ لنبدأ من جديد، لا بسؤال "ماذا حدث؟"، بل"كيف ظهر ما حدث؟".