يكشف عمر العقاد في كتابه "يومًا ما، سيدّعي الجميع أنهم كانوا دائمًا ضد ما حدث" التناقضات الأخلاقية في صميم الليبرالية الغربية، مستندًا إلى مأساة أهل غزة والوقائع المماثلة حول العالم. يطرح الكتاب أسئلة جوهرية حول معنى القيم الغربية أمام قتلى الرضع والأطفال المصابين بصدمات نفسية والعائلات والمجتمعات المدمرة، مقدّمًا قراءة تجمع بين الألم الإنساني والتحليل النقدي للسلطة والاستعمار الحديث.
دينا عزت [1]
لم تكن حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة مجرد مقتلة مدمرة أزهقت أعدادًا غير معروفة من الأرواح ودمرت حيوات وتركت عشرات بل ربما مئات الآلاف مبتورين ومكلومين فحسب. حرب الإبادة هذه، التي استمرت لعامين تحت أعين وسمع العالم، كانت أيضًا حربًا كاشفة للزيف الليبرالي المزعوم لذلك الغرب المفترض – أو ربما المدّعي – التحضر، كما يخبرنا الروائي والصحفي، مصري المولد وكندي الجنسية، عمر العقاد في كتابه القصير والمهم "يومًا ما، سيدّعي الجميع أنهم كانوا دائمًا ضد ما حدث".[2]
إلهام "يومًا ما، سيدّعي الجميع أنهم كانوا دائمًا ضد ما حدث"
يمثل الكتاب، الصادر باللغة الإنجليزية في وقت سابق من هذا العام في كل من الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا، ولا تزيد فصوله العشرة عن 144 صفحة، دعوة للنظر إلى الإبادة التي ترتكبها إسرائيل وجيشها بحق الفلسطينيين في غزة من منظور أوسع من الألم الإنساني، رغم محوريته وضرورة الشعور به. يرى العقاد، بحسب كتابه، أن ما حدث في غزة خلال عامين منذ السابع من أكتوبر — بدايةً من عملية "طوفان الأقصى" التي أطلقتها حركة المقاومة الإسلامية الفلسطينية حماس، وتلتها الحرب الإسرائيلية المدمرة التي تحوّلت إلى حرب إبادة بالمعنى القانوني — هو في الأصل صورة أخرى، وإن كانت صورة بشعة حقًا. ويبرز الكتاب التفاوت الكبير في القوة بين الطرفين، وهو التفاوت الذي يتيح للطرف الأقوى أن يطغى ويتجبر على الطرف الأضعف، بينما يظل العالم غير متحرك، إلا قليلاً، عندما يقع الطرف الأضعف في براثن كارثة من صنع الطرف الأقوى.
كتاب العقاد، بمعنى ما، هو رحلة استرجاع تتقاطع مع توالي فصول الواقع. لو كانت رواية لوقعت تحت مظلة أسلوب تداعي الحدث والذاكرة (stream of consciousness)، وبالتأكيد فإن العقاد يقدم الأحداث في صيغة روائية جاذبة ومؤثرة، تبدأ مع لحظة مشاهدته لواقعة انتشال طفلة صغيرة من تحت ركام منزل هدمته ضربة جوية من جيش الاحتلال الإسرائيلي. بينما الفتاة الجميلة، شعرها مبعثر ونظراتها مفزوعة، تلتفت لمنقذيها وتسأل: "عمو؟ أنا مت وأنت راح تاخدني على القبر". في ذات اللحظة التي تتوالى فيها الانفعالات الناجمة عن هذا المشهد، وبينما يطمئن أحد المنقذين الفتاة بأنها على قيد الحياة، يلتفت العقاد ليجد طفلته تأتي إليه، فما يكون منه إلا أن يغلق المشهد القادم من غزة على شاشة الكمبيوتر.
من البداية، يوضح العقاد أنه ليس بصدد الحديث عن غزة بصورة مجردة إطلاقًا، ويشير إلى أن الحديث عن غزة لا يجب أن يقتصر على سرد تفاصيل المقتلة اليومية والبؤس المتراكم، وإنما ينبغي أن يكون في إطار أوسع للأسئلة الكبرى التي يجب أن تنشغل بها الإنسانية، مثل سؤال الحضارة مقابل الهمجية، وهو السؤال المنبعث من الطرح الإسرائيلي بأن المقتلة التي تُدار على مدى عامين بحق المدنيين في غزة هي مسعى للسيطرة تحت شعار الحضارة مقابل الهمجية.
وفي سياق مناقشة هذا السؤال، يوسع العقاد دائرة النظر فيتطرّق إلى المنظور الأمريكي والغربي حول ادعاء الحضارة مقابل الهمجية المزعومة لكل من هو عربي ومسلم، بل لكل من له بشرة سمراء، مع الأخذ في الاعتبار أن الولايات المتحدة والغرب عمومًا لا يفرّق بين عربي وآخر، أو بين مسلم وآخر، على الرغم من الفروقات الكبيرة داخل السياق العربي والسياق الإسلامي.
وفي حراك مستمر لسردية متماسكة بين واقع الحرب الإسرائيلية على غزة وبين تفاعلات القوى الغربية مع المنتمين للمجتمعات العربية والإسلامية والسمراء بصفة عامة، يعود العقاد بالقارئ إلى الحرب الأمريكية على العراق التي وقعت في عام 1991 تحت عنوان "تحرير الكويت"، بينما كان هو بعد طفل في مدرسة أمريكية دولية بقطر، ليتذكر مطلب المدرسة من التلاميذ كتابة خطابات شكر للجنود الأمريكيين الذين وصلوا منطقة الخليج استعدادًا للحرب.
ومع هذه الذكرى، يعود العقاد لتوسيع دائرة النقاش حول سؤال الحضارة والهمجية، وهو السؤال المركزي في سياقات الاستعمار الكولونيالي البريطاني والفرنسي، حيث كان الادعاء أن جيوش المستعمر تذهب إلى دول آسيا وأفريقيا لإقامة الحضارة وإنهاء الهمجية.
في أجزاء لاحقة من كتابه، يجري العقاد مقارنة بين الكولونيالية الاستعمارية السابقة وبين استخدام الولايات المتحدة لشعار "الحرب على الإرهاب"، الذي استندت إليه لشن حروب على أفغانستان بعد أحداث الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر 2001، وعلى العراق في عام 2003، وصولًا إلى جلب معتقلين إلى سجن غوانتانامو ذي السمعة البائسة.
وهنا لا يتحدث العقاد من موقع المراقب، كما الحال في الحرب على غزة، ولا من موقف اليافع، كما في الحرب الأولى على العراق – لتحرير الكويت – بل من واقع عمله الصحفي المباشر، الذي أخذه إلى مواقع الحدث حيث يقتل الجنود الأمريكيون بلا أدنى تردد أو ندم أسرة تحتفل بزفاف في أفغانستان بدافع الشك في وجود مشتبه به ضمن نطاق الأسرة نفسها.
استعادة الكولونيالية السابقة
سؤال الكولونيالية، بحسب كتاب العقاد، لا يختلف عن سؤال الدكتاتورية، فالعنصرية قائمة سواء من منطلق الجنس أو من منطلق السلطة؛ وفي الحالتين هي عنصرية القوي تجاه الضعيف، بالضبط كما هو الحال في الحرب الإبادية التي يقيمها الاحتلال الإسرائيلي بحق الفلسطينيين في غزة على مدى عامين، بينما العالم يتابع قبل أن يتحرك: يتعاطف، ثم يشجب، ثم يطالب – من خلال مظاهرات – بوقف الحرب الإبادية، التي استطاع العالم أن يرى حقيقة ما يجري فيها، بالرغم من الكثير من الانحيازات في التغطية الإعلامية الغربية، التي لا تسمي الأشياء بأسمائها حين يتعلق الأمر بقتل الإسرائيليين للمدنيين الفلسطينيين، مع أعمال آلية للدمار جعلت من المستحيل عمليًا إحصاء أعداد القتلى، مع وجود أعداد لا يستهان بها تحت ركام غزة المدمرة إسرائيليًا تحت شعار "الحفاظ على الحضارة في مواجهة الهمجية".
لا يخلو كتاب العقاد من طرح رؤيةٍ شخصيةٍ مبنيّةٍ على وقائع معاشة، تتناول توازي أشكال القمع وتقاطعها. يكتب العقاد، ولو قليلًا، عن أسرته التي قررت، وهو بعدُ طفلٌ، مغادرةَ مصر بسبب ما تعرّض له والده من عنتٍ على يد أحد أفراد إنفاذ القانون في الأيام التالية لمقتل أنور السادات، إذ كان عمل والده يتطلّب منه البقاء ليلًا بعد بدء حظر التجوّل المفروض في حينه، وذلك رغم امتلاكه تصريحًا يُستثنى به من ساعات الحظر.
ويتحدث العقاد أيضًا عن أشكال القمع الفعلي الناتجة عن تباين مواقع النفوذ في المجتمعات الخليجية خلال ثمانينيات القرن العشرين، حين كان يمكن لأحد أبناء "بلاد النفط" أن يُهين أحد العاملين لديه إهانةً بالغة، من غير أن يجرؤ الأخير على ردّ الصاع أو حتى التفكير في ذلك. ثم يتطرّق إلى ما يلاقيه المهاجرون، ولا سيّما من ذوي البشرة السمراء أو الانتماء العربي أو المسلم، في بلاد أمريكا الشمالية، من عنتٍ وتمييزٍ لكونهم مهاجرين يُفترض فيهم أحد أمرين: الهمجية أو الإرهاب.
ويعود العقاد مع القارئ إلى بدايات الحرب الإسرائيلية على غزة، حين قال يوآف غالانت، وزيرُ الدفاع الإسرائيلي في حينه، إنّ إسرائيل تخوض حربًا ضد "حيوانات بشرية". وعلى الرغم من الموقف الواضح الذي يُبديه العقاد في كتابه من دعم دونالد ترامب لحرب الإبادة الإسرائيلية على غزة، وهو الموقف الذي يراه متطابقًا في جوهره مع مسعى ترامب للتنكيل باللاجئين إلى الولايات المتحدة، فإنه لا ينفي عن سابقيه من الرؤساء الأميركيين، الذين تعاقبوا على الجلوس في المكتب البيضاوي بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، بمن فيهم باراك أوباما، القادم من عوالم البشرة السمراء، تورّطهم في ممارسة سياسات شبيهة، وإنْ بدرجاتٍ مختلفة، جعلت كلَّ من يُقتل على يد جنديٍّ أميركيٍّ في أحد مواقع الوجود العسكري الأميركي يُوصم، بالضرورة، بصفة "الإرهابي".
وما فعلته إسرائيل خلال عامين من حرب الإبادة على غزة هو تكرارٌ لهذا الادّعاء ذاته، إذ تزعم أنّها تقتل إرهابيين، وتسعى لوقف "مدد الهمجية"، من خلال "حرق المكتبات والمزارع، ونهب المتعلقات الشخصية، وقتل الأطفال الهائمين على وجوههم في الحقول بحثًا عن بعض الثمار التي تسدّ الجوع."
على صِغَر حجمه، فإنّ كتاب العقاد "يومًا ما، سيدّعي الجميع أنهم كانوا دائمًا ضد ما حدث"، يحفل بتفاصيل كثيرة ولافتة تدفع القارئ إلى إعادة النظر في فهمه لما تقوم به إسرائيل، بدعمٍ غربيٍّ وصمتٍ عربيٍّ مريب. غير أنّ أهميته تكمن في كشفه عن تواطؤ أوسع لمنظومةٍ حضاريةٍ بُنيت على فكرة التفوّق نفسها التي تبرّر القتل باسم التقدّم. بهذا المعنى، يصبح الكتاب صورة لانعكاس حقيقية الغرب، وتذكيرًا للضحايا بأنّ قول الحقيقة، مهما بدا ضئيلًا، هو وقفة في وجه محوٍ مستمر.
[1] تعبّر وجهات النظر الواردة في هذا النص عن آراء كاتبها، ولا تمثل بالضرورة وجهة نظر منصة "الصالون"
دينا عزت صحافية مصرية.
[2] Omar El Akkad, One Day, Everyone Will Have Always Been Against This. (New York: Alfred A. Knopf, 2025).