تقدم كل من دلال البزري في كتابها "دفاتر الحرب الأهلية اللبنانية 1975-1990" وريجينا صنيفر في "ألقيتُ السلاح: امرأة في خِضمّ الحرب اللبنانية"، شهادات حيّة تمثل سردية المرأة خلال الحرب اللبنانية. إذ تكشف صفحاتهما أصواتًا نسوية قوية تأتي من خلفيات أيديولوجية متنوعة، تروي حكايات القتال من منظور مختلف، وتكسر الصورة النمطية للمرأة العربية.
هلا أبي صالح [1]
بعد انتهاء الحرب الأهلية اللبنانية التي استمرت لمدة خمسة عشر عامًا (1975-1990)، التزم لبنان بسياسة الصمت و"التناسي الجماعي". على الرغم من تعرض الكثير من المواطنين والمواطنات للنفي والتشريد والاختطاف والقتل والعنف خلال تلك الفترة، قررت السلطات اللبنانية تجاهل الماضي وتبني سياسة العفو عن الجناة بعد انتهاء الصراع. واتبع العديد من الأفراد السياسة نفسها، بينما رفض آخرون مشاركة تجاربهم عن الحرب. ومع ذلك، خلال الفترة التي ساد فيها الصمت، ارتفعت أصوات النساء، سواء كن ضمن لجنة أهالي المخطوفين والمفقودين في لبنان، أو كن محاربات سابقات حملن السلاح، وشاركن في الحرب لأسباب مختلفة.[2] قامت هذه النساء بتسليم السلاح الذي كان بحوزتهن، واعتمدن على قوة الكلمة والقلم بدلاً منه، لتسجيل الأحداث التي جرت قبل وأثناء وبعد فترة الحرب.
نتناول هنا سيرتين ذاتيتين لامرأتين شاركتا في الحرب إلى جانب الميليشيات لسنوات عدّة.[3] وتختلف هاتان السيرتان عن الدراسات الأكاديمية أو التاريخية التي كتبت حول الصراع من حيث سرد الأحداث منْ وجهة نظرِ النساءِ أنفسهنّ، ممّا يضفي على النصِّ صفة شخصية وفريدة. علمًا بأن مشاركة النساء اللبنانيات في الحروب لا تعد أمرًا مستنكرًا، إذ ذاع صيت العديد من المناضلات في مناطق جنوب لبنان، مثل مناضلات "جمول"[4] وسناء محيدلي وسهى بشارة، وأخريات ممن شاركن في الحرب الأهلية، ووقفن على خطوط المواجهة في قلب العاصمة وضواحيها. فكنّ شاهدات على العنف الدائر والنزاعات وتداعياتها على الإنسان والجماعة. بل كان لهن دور كمقاتلات في هذه الحرب، ولم يجسدن فقط دور الضحية، باعتبارهن أمهات وزوجات خسرن أولادهن أو أزواجهن، أو تعرضن للعنف، مثل "جوسلين خويري".
وراء المتراس: دلال البزري وريجينا صنيفر
كانت دلال البزري، الباحثة في علم الاجتماع السياسي، ناشطة في منظمة العمل الشيوعي في لبنان خلال الحرب. تنقلت خلال فترة عضويتها بين عدّة قطاعات داخل المنظمة، شملت العمل الشعبي، وقطاع الطلاب، والقطاع النسائي، والقطاع الإعلامي.
تعرض البزري في كتابها الصادر عام 2017 بعنوان "دفاتر الحرب الأهلية اللبنانية 1975-1990"، تجاربها ويومياتها خلال الحرب بصفتها عضوًا في منظمة العمل الشيوعي. كما تتناول فترة دراستها الجامعية ومسار نضالها قبل وأثناء الحرب، ودورها كزوجة وأم خلال فترات العنف. يقدم الكتاب وصفًا دقيقًا ليوميات الكاتبة-المقاتلة في مركز الشياح في ضواحي بيروت، حيث كانت تشارك في مختلف الأنشطة، وتبني علاقات مع الرفاق والرفيقات هناك. كما يسلط الضوء على التغييرات التي حدثت خلال السنوات الأولى من الحرب داخل المنظمة، والعلاقة مع الأحياء السكنية المجاورة، والتغييرات الحياتية الطارئة التي فرضتها الحرب وتداعياتها على الخدمات كالماء والوقود والطحين. يتضمن الكتاب أيضًا وصفًا للحياة في الملجأ، وكيف يتصرّف كل إنسان بطريقة بشكل مختلف تحت وطأة العنف وعند مواجهة خيار البقاء أو النجاة.
أما ريجينا صنيفر، فقد صدر كتابها في عام 2006 باللغة الفرنسية تحت عنوان "J'ai déposé les armes Une Femme dans la guerre du Liban"، وترجم إلى اللغة العربية في عام 2008، تحت عنوان "ألقيت السلاح: امرأة في خضم الحرب اللبنانية". يعد الكتاب سيرة ذاتية للكاتبة تبدأ بولادتها في مستشفى في بيروت، وتستمر بسرد سنوات الطفولة، وبداية الحرب اللبنانية في فترة المراهقة، وثم انضمامها إلى كل من حزب الكتائب وميليشيا القوات اللبنانية، وصولاً إلى دراستها الجامعية. تروي صنيفر قصة حياتها من فترة ما قبل الحرب في ضواحي بيروت إلى عام 2006، عندما عادت إلى لبنان لقضاء عطلة الصيف. ولا يمكن إدراك دور ريجينا الفعلي في الحرب إلا عند الوصول إلى منتصف الكتاب، بعد تحولها من العمل في مجال الاتصالات إلى العمل في مكتب الإعلام والترويج.
جنبًا إلى جنب
يتشارك الكتابان في العديد من النقاط، على الرغم من اختلاف انتماء الكاتبتين الأيديولوجي، ووضعهما الاجتماعي وفارق السن بينهما. ففي بداية الحرب، كانت صنيفير طالبة مدرسية مراهقة، بينما كانت البزري طالبة جامعية متزوجة وأماً لطفل. مع ذلك، لم تمنع هذه الفروقات وجود عدد من المواضيع المتقاطعة بين الكتابين، وفي خطاب المحاربات بشكل عام.
كان للمرأة حضور بارز في كل من سيرة صنيفر والبزري، إذ عُرضت صورتها بحالات وأدوار متنوعة في لبنان خلال تلك الفترة. فتظهر إبنة، وطالبة في المدرسة أو الجامعة، وزوجة، وأم، ومشاركة في أعمال قتالية، ومهرّبة للأسلحة، وتارة تكون في حالة مختلفة من حبّ، وخوف ورعب، وإنكار للواقع، أو في حالة حداد وحزن. يُسلط الضوء على النساء في مختلف حالاتهن ككائنات بشرية على هذه الأرض في سياق محدّد هو الحرب، أي عنف طويل الأمد. ومع ذلك، لم تُظهر هذه الصفحات صورة المرأة ضحية، بل امرأة تواجه العنف الدائر والدائم، وحياتها مستمرة رغم هذا التحدي. أي أن المرأة في هذين الكتابين تظهر كجهة فاعلة، عوضًا عن كونها ضحية رازخة تحت وطأة أفعال الرجال. فالحرب والعنف غالبًا ما يرتبطان بصفات الذكورية والرجولة والرجال، وتصوّر النساء في العديد من الأحيان إما كضحايا أو كمسببات للصراع كما في أسطورة حرب طروادة.
ظهرت المرأة المقاتلة والمحاربة حاملة الأيديولوجية بوضوح في الكتابين. فقد صرحت كل من صنيفر والبزري بانتمائهما إلى أحزابهما لدعم قضية معينة يرونها محقّة في نظرهما. فرأت صنيفر أن قضيتها هي الدفاع عن مسيحيي لبنان ووجودهم، وفي فترة ما رأت ضرورة الدفاع عن مسيحيي المنطقة أيضًا. في حين رأت دلال أن قضيتها هي تغيير النظام الطائفي في لبنان ودعم القضية الفلسطينية وتحرير الأرض، وعدت اللجوء إلى العنف والانخراط في الميليشيات هو الوسيلة المناسبة لتحقيق هذا التغيير في الوضع القائم في البلاد. شاركت ريجينا ودلال في الحرب بإرادتهما الخاصة، وهو ما أكدته ريجينا في فصلٍ مستقل في كتابها تحت عنوان "مقاتلة"، شرحت من خلاله بدقة وتفصيل سبب انضمامها إلى القوات اللبنانية. وبالتالي، تتكرر في كتابها مواضع الإشادة بشجاعة المقاتلين "الأبطال" الذين يواجهون الأخطار التي تهدد الوجود المسيحي في لبنان. ولم تغفل صنيفير عن ذكر جولسين خويري وإبداء إعجابها بدورها وبطولاتها، قائلة "رأيت فيها أُنموذجاً حياًّ للمرأة الرائدة".
أما صفحات كتاب البزري، فضمت أسماء "الرفيقات" عضوات منظمة العمل الشيوعي. ورد مثلاً اسم سهيلة "أولى شهيدات" المنظمة في منطقة الشياح، وكذلك رفيقاتها في المركز: الرفيقة إيمان، الرفيقة زينب والرفيقة وردة. كما خصصت فصلاً كاملاً في كتابها للحديث عن "الأمومة في الحرب". فبالرغم من أن فصول الكتاب بدأت بنشاطها الحزبي في الجامعة اللبنانية - كلية التربية، ومن ثم انتقلت إلى الحديث عن نشاطها العسكري في مركز الشياح في ضواحي بيروت، إلا أنها تنتقل في نهاية الكتاب إلى الحديث عن أخبار عائلتها، من طرد والدتها من منزلها من قبل ميليشات الحرب، إلى خطف زوجها وخطف ابنها. غير أن هذا الفصل يُظهر تجربتها كأم والمشاعر التي عاشتها خلال السنوات الأولى من الحرب، بينما كان يرافقها ابنها البكر "همام" ذو الثلاث سنوات. وتصف فيه كذلك القلق الذي انتابها عند اختطافه بعد مرور سنوات، مما دفعها لمغادرة البلاد في أواخر الثمانينات.
نجد في صفحات الكتابين تململاً وانتقاداً للذكورية السائدة في الميليشيات المتحاربة وحتى في مجتمع الحرب. تشير صنيفر إلى الانتقادات التي واجهتها عند إعلانها نيّة الانضمام إلى القوات اللبنانية، وتحدّثت عن نظرات المواطنين والمواطنات إليها وهي ترتدي الزي العسكري المرقط. كما ذكرت انتقاد خالتها لها لانخراطها في العمل الحزبي ومتابعة دراستها في الجامعة، معتقدةً أنها لن تجد "العريس اللّقطة" لتتزوج به، أي أن عنوستها محتملة. وتعود صنيفر لتذكر أنها نفسها شعرت بالحنين إلى الأنوثة التي "افتقدتها" خلال أسابيع التدريب العسكري، قائلةً "في تلك الليالي تحت الخيمة، لا يبقى إلا شعر نزار (قباني) ليساعدني على أن أحلم بأنوثتي في عالم ذكوري تعترض الحرب مساره".
أما البزري، فتحدّثت بإسهاب عن تجربتها كامرأة مشاركة في النشاط الحزبي ومن ثم العسكري. ووصفت في الفصول الأولى تجربة وجودها ضمن المجموعات الحزبية في الجامعة والصعوبات التي واجهتها من انتقادات ومحاولات استبعاد من النشاط الحزبي الجاد. فمثلاً، ذكرت أنها انتُخِبَت في إحدى السنوات كممثلة للطلاب بصفتها "أم لصبي صغير". وبعد ذلك، حدث نقاش داخل الحزب حول حقها في الترشح مجددًا في السنة التالية على الرغم من تحقيقها أكبر نسبة تصويت في تلك السنة. وانتهى الأمر بقبول ترشّحها وخروجها من هذا الموقف بدرس أثر في سلوكها في السنوات التالية، عبرت عنه بقولها "..إذ عليّ، أينما حللت، أن أكون بمقدار رجلين، كي أتساوى مع رجل من بين الرجال". إضافة إلى ما سبق، أثارت البزري انتقادًا لدور المرأة في الحزب خلال الحرب، بتعبيرها عن رفضها لتحمل النساء مسؤولية الطبخ والتنظيف في المركز في الشياح، دون مشاركتهن في المهام العسكرية الأساسية. وفي فصل "لا رفيقات في القيادة"، شرحت بوضوح وضع المرأة المناضلة الحقيقي في منظمة العمل الشيوعي والفارق الكبير بين النظرية والواقع فيما يتعلق بدور المرأة في الأحزاب اليسارية-الماركسيّة. وظل هذا الانتقاد قائمًا في الفصول اللاحقة.
وجهًا إلى وجه
تناولت كل من صنيفر والبزري التجارب التي مررن بها خلال الحرب بأساليب ورؤى مختلفة. فمثلا لم يقتصر حديث ريجينا صنيفر على حياتها في لبنان منذ ولادتها حتى مغادرتها فقط، بل كشفت أيضًا عن تفاصيل مهمة تخص الذاكرة الجماعية للموارنة من خلال كلماتها. فنقلت بذلك أفكار ومشاعر معظم الموارنة في تلك الفترة، من خوف وقلق من الآخر، ومن شعور بتهديد وجوديّ. فلم تقم صنيفر بنقل مخاوفها وذاكرتها عن هذه المرحلة، بل نقلت أيضًا الذاكرة الجماعية، والتاريخ السياسي والاجتماعي للموارنة في لبنان وللقرى المسيحية - المارونية. كما صوّرت صفحات كتابها حياة الشباب خلال فترة الحرب، بما في ذلك يومياتهم وأسلوب حياتهم، بالإضافة إلى كيفية وقوعهم في الحب والتحديات التي قد تواجههم للقاء أحبائهم بسبب الحرب. لم تكتف صنيفر بسرد الأحداث وتفاصيل حياتها فقط، بل قدمت تعليقات على الماضي، وعلى تصرفاتها وتصرفات الأشخاص الآخرين. فما نجده في هذا الكتاب هو وجهة نظر صنيفر في أثناء الكتابة، إذ دمجت ما بين الحاضر والماضي، وقدمت تعليقاتها على الماضي استنادًا إلى المعرفة التي تمتلكها في الوقت الحاضر.
جاء كتاب البزري على هيئة يوميات تروي تجربة مواطنة خلال فترة الحرب، إذ كشف لنا التحديات التي واجهوها في حياتهم اليومية مثل انقطاع المياه والكهرباء ونقص الطعام، وكيف وجدوا حلولاً لهذه المشاكل. ويسلط الضوء كذلك على حياة المواطنات والمواطنين في الملاجئ. ويروي قصص جيران الكاتبة في الحرب وما حلّ بهم وأبرز سمات شخصياتهم، وكيف تأقلموا مع دوائر العنف المستمرّة والمتقطّعة، وجنونهم وعقلانيتهم في ظل هذه الأوضاع. ومع ذلك، لم تقدم البزري أي تعليقات أو تقييمات للماضي في كتابها، على عكس ما نراه في كتاب صنيفر. بل يتضح من النص أنه عبارة عن سرد للأحداث التي سجلتها ذاكرة الكاتبة، دون الكشف عن أهدافها التي دفعتها لكتابته. يلاحظ أيضًا أن البزري استعرضت في النصف الأول من الكتاب السنوات الأولى للحرب، أي من عام 1975 إلى عام 1977، بشكل تفصيلي. أما النصف الثاني، فقد تطرقت بشكل موجز إلى أحداث مهمة من حياتها خلال الثمانينات، مقارنة بدقة تناولها للسنوات الأولى من الحرب.
النسوية والنسوية البيضاء
ختامًا، يعكس محتوى هذين الكتابين صورة مختلفة للمرأة اللبنانية تتجاوز التركيز على الجمال والأناقة. بالإضافة إلى ذلك، تكسر هذه الصفحات الصورة النمطية المعتادة للمرأة العربية، والتي تظهرها كمخلوق خاضع لا وجود له إلا لخدمة الرجال وإرضائهم، ومكانها الوحيد هو المنزل. إن الصورة التي رسمتها الكاتبتان هي لنساء أحرار، انخرطن في المليشيات، وحملن السلاح للدفاع عن قضيّة يرونها مشروعة. فهن لسن خاضعات، مهمّشات أو ضحايا كما تراهم النسوية البيضاء. بل هن نساء هذه الأرض، وهن جزء أساسي من المجتمع، وجزء من الحلّ ومن المشكلة أيضًا، ولسن بحاجة إلى الإنقاذ.