انطلقت الكاتبة والأكاديمية الفلسطينية عدنية شبلي من واقعة حقيقية حدثت في صحراء النقب منذ أكثر من سبعين عامًا، لتخلق رواية غير تقليدية، وتقدم صورة حية لمعاناة أهل الأراضي المحتلة بين نكبة وأخرى. حاول الغرب إقصاءها من المحافل الدولية فازدادت شعبيتها.
داليا شمس
عدنية شبلي لا تشبه أحدًا! انشغل بها كثيرون وبروايتها " تفصيل ثانوي"،[1] التي صدرت منها طبعة مصرية أخيراً عن دار تنمية، بعد اللغط الذي دار حولها حين منعت إدارة معرض فرانكفورت الدولي للكتاب الاحتفالية المقررة لاستلامها جائزة "ليبراتور" الألمانية، التي تمنح لآداب آسيا وإفريقيا وأمريكا الجنوبية، وذلك بعد اشتعال الحرب في غزة.
عند قراءة الرواية، التي تعد صغيرة الحجم نسبيًا، إذ لا يتجاوز عدد صفحاتها 125 صفحة، ندرك سريعًا أننا أمام مؤلفة متعددة المشارب، تتبع نهجًا يمزج بين تخصصات ومجالات متنوعة. كتابتها تجريبية، وتشي باهتمامها بالفن التشكيلي عامة والفنون البصرية والتصورية خاصة. ينعكس هذا على شكل السرد وبناء العمل، الذي قسمته عدنية إلى جزأين متساويين لتروي قصة وقعت بالفعل في أغسطس 1949. استلهمت أحداثها من موضوع نشرته جريدة "هآرتس" قبل عشرين عامًا، ذكرت فيه أن وحدة عسكرية إسرائيلية قامت بقتل رجل بدوي من النقب الغربي، واختطاف ابنته واحتجازها لبضعة أيام قبل اغتصابها ورميها بالرصاص.
الراوي في النصف الأول من الكتاب هو قائد الوحدة العسكرية المكلفة بترسيم الحدود الجنوبية مع مصر ومنع المتسللين من اختراقها و"تنظيف النقب من بقايا العرب". تعمدت عدنية شبلي، البالغة من العمر 49 عامًا، إظهار رتابة الأيام والأحداث. رسمت ببطء حركاته المتكررة في ثكنته وحول الخيام، وتفقده للجنود بين التلال. وكان تحديها الأكبر هو التعبير عن الصمت باللغة، ففي الصحراء لا يرتفع سوى صوت طلقات بعيدة وحفيف الرياح، ويسمع حتى رغاء الجمال ونبض الضابط الذي يتسارع لدرجة الاختناق.
أما نباح الكلب فيصحبنا طوال الرواية ويشكل عنصرًا أساسيًا للربط بين جزأيها. هو الشاهد الوحيد على المأساة، في حين لا يملك سوى العواء، مثله مثل القارىء الذي يعتصره الحزن والألم دون أن يقوى على فعل شيء بخلاف الصراخ والتعبير عن امتعاضه. في نهاية الجزء الأول، بعد الاغتصاب الجماعي للفتاة وقتلها، تصف الكاتبة اقتراب الكلب من كف الضابط الإسرائيلي المنبسطة في الهواء، بأنه "أخذ يشمشمها، ثم أطبقها فجأة على فكيه. وراح ارتجاج نباح الكلب المكبوت يتسرب إليها، في حين كان صوت انزلاق أطرافه على الأرضية وهو يحاول الإفلات من قبضته، يملأ الفضاء. ويجاهد الكلب. وكلما جاهد أكثر، ازدادت وتيرة تعثره فانزلاقه على الأرضية، وارتجاج نباحه المكبوت".
ثم يبدأ النصف الثاني من الرواية بمشهد آخر، تُقدِم فيه شخصية الباحثة الفلسطينية المعاصرة التي قررت التحقق من دقة رواية صحيفة "هآرتس"، بحثًا عن سردية أخرى من وجهة نظر أبناء البلاد. هي المُراقِبة التي تجلس خلف نوافذ بيتها الكثيرة في رام الله وتحاول دومًا تجاوز الحدود التي يفرضها الواقع المربك بين الأشياء والبشر والأماكن. تقول في استهلال الجزء الثاني: "بعد أن انتهيت من تعليق الستائر أمام النوافذ، استلقيت فوق السرير. حينها بدأ كلب ما على التلة المقابلة يعوي بلا انقطاع. كان الوقت ما بعد منتصف الليل، ولم أغف رغم إنهاكي الشديد، بعد أن قضيت اليوم بأكمله أجهز البيت وأنظفه جيدًا (...) وقد استأجرت هذا البيت قبل أيام عدة، مباشرة بعد استلام وظيفتي الجديدة".
الأسماء والوقائع تتكرر
لا نعرف اسم البطلة ولا اسم الضابط ولا اسم الفتاة ضحية الاغتصاب التي اكتفت عدنية شبلي بوصف نحيبها المكبوت حين وجدوها "متكورة كخنفساء داخل ثيابها السوداء"، وبوصف فوقية واستعلاء الضابط حين باشر بغسل جسمها وفتح خرطوم المياه عليها قبل اغتصابها ليتخلص من الروائح الكريهة التي علقت بها، وكان الجنود قد أضرموا النار في ملابسها وما تبقى من خصلات شعرها بعد قصه وتطهيره بالوقود. الأسماء هنا ليست ضرورية فالحكاية قابلة للتكرار في أي وقت لأننا في بقعة من الأرض يطغى عليها صخب الاحتلال والقتل الدائم، لكن أسماء الأماكن والقرى والمستعمرات وتحديد مواقعها على الخريطة أهم بالنسبة للكاتبة التي تقوم بالتأريخ للواقعة وتوثيقها.
تذهب ابنة الضفة الغربية إلى النقب ومعها الخرائط القديمة والحديثة، تقارن بينهم، تسعى للوصول إلى المتاحف والأرشيفات، تتجول خلال رحلتها بين أماكن نسمع عنها يوميًا في نشرات الأخبار حاليًا: قرية بيتونيا التي تردد اسمها مع تبادل تسليم الأسرى بين حماس والكيان الصهيوني، سجن عوفر الذي تم إنشاؤه سنة 2002 في خضم موجة إعادة الاجتياحات في ربيع ذلك العام، حين جمع الجيش الإسرائيلي كل من هم فوق السادسة عشرة ودون الخمسين في الساحات العامة ثم حملهم إليه، القاعدة العسكرية خلف السجن... "وكلما استمريت في مسيري لم أعد أعرف أين أنا!"، لأن القرى الفلسطينية التي كانت هناك اختفت غالبيتها بعد تشريد قاطنيها وحل محلها المستوطنات.
تركز عدنية شبلي على تاريخ الأماكن وتبدل واقعها على الأرض، أما الأشخاص فلا تهتم برسم ماضيهم كثيرًا أو بذكر خلفايتهم، ويتخذ السرد لديها شكلاً فنيًا على صعيد التصوير واللغة، وليس على صعيد البناء الدرامي والحبكة، عبر جمل قصيرة رشيقة، باردة أحياناً، ولا تخلو من تمرد وتهكم على الأفكار النمطية التي يسعى البعض إلى حبس الفلسطينيين بداخلها حين يتكلمون عن رغبتهم في التشبث بالحياة وحبها على الرغم من محاولة الاحتلال تدميرها أو عند الإصرار على أن هنالك ما يستحق الحياة على هذه الأرض. "لا يمكنني أنا بالذات التحدث باسم الآخرين، لكن في حالتي، كل ما في الأمر هو أنه ليس بمقدوري الحكم على الأمور بشكل متزن، أو معرفة ما يجب أو ما لا يجب القيام به، وكل ما يمكنني عمله بغير عواقب وخيمة هو العمل في مكتبي، أو الجلوس في بيتي إلى طاولتي أمام النافذة الكبيرة".
هذه الكلمات قد تمثل الكاتبة نفسها التي تتمرد على القوالب والحدود هي الأخرى. تكتب كرسامة أو مصورة، وتتنقل في التخصصات الأكاديمية بين علوم الإعلام والصورة والدراسات الثقافية والأدب، إلى جانب عملها على مؤلفات خاصة بالحركة التشكيلية الفلسطينية. تُدرِّس في جامعات مختلفة في الداخل والخارج، في فلسطين وإنجلترا وألمانيا، إذ تقيم حاليًا في برلين. تجيد العبرية والألمانية والإنجليزية والفرنسية والكورية، لكنها تصر على أن تكتب باللغة العربية الأقرب إليها. ترفض الفصل بين فلسطيني الداخل والخارج وبين الأجيال المختلفة للكُتّاب، وتستسلم لفكرة العيش حيث تقودها قدماها أو الارتحال بشكل مستمر. تحكي كما لو كانت أحد أبطال سينما إيليا سليمان، حيث العبث سيد الموقف، وهو عبث يحكم الحياة اليومية، كما يرد في تناولها للترتيبات المضنية التي تلجأ إليها الراوية في الجزء الثاني، كي تتمكن من الذهاب إلى بعض المواقع والالتفاف على الحواجز، بسبب هويتها التي تجعلها تلقائيًا تمثل تهديدًا للأمن الإسرائيلي.
الشيطان يكمن في التفاصيل
توضح الراوية سبب اختيار عنوان الكتاب "تفصيل ثانوي" وسبب اهتمامها بالحادثة: "لقد جرت في صباح ما، سيصادف بعد ربع قرن بالضبط، صباح ميلادي. بالطبع قد تبدو هذه نرجسية خالصة، حقيقة أن ما شدني إلى تلك الحادثة وجعلها تستحوذني هو مثل هذا التفصيل الثانوي، مقارنة مع تفاصيلها الرئيسية الأخرى التي يمكن وصفها بالمفجعة". ترى أن التركيز على أشد التفاصيل ثانوية هو السبيل الوحيد للوصول إلى الحقيقة. مرة أخرى تلجأ إلى مثال استعارته من المختصين بالفن التشكيلي للتمييز بين اللوحة الأصلية والمزيفة، هؤلاء الذين يطالبون بالتركيز على التفاصيل الأقل أهمية: "المقلدون، بحسبهم، حين يقومون بتزييف لوحة ما، ينتبهون إلى التفاصيل الرئيسية والمهمة فيها، كاستدارة الوجه أو وضعية الجسم وبالتالي ينجحون بتقليدها على أتم وجه، لكنهم قلما انتبهوا إلى التفاصيل الصغيرة الهامشية (...) وهو ما يؤدي بهم إلى الإخفاق في نقلها بشكل عام".
وبما أن الماضي لا يموت، بل يظل يسكن في الحشى ويتكرر أحيانا كثيرة، فقد لاقت البطلة حتفها وهي تبحث عن الحقيقة وتجمع العديد من التفاصيل الثانوية.. تم استهدافها هي الأخرى برصاص المحتل، بمنتهى السهولة والبساطة، وبدم بارد.