تستعرض زيزي باباشاريسي في كتابها "الجماهير العاطفية: المشاعر والتكنولوجيا والسياسة" كيفية توظيف منصات التواصل الاجتماعي في تشكيل سرديات عاطفية تسهم في تفاعل الجماهير مع القضايا والأحداث الراهنة. ومن خلال رؤية تحليلية معمقة، تسلط الضوء على دور هذه الوسائط في تحدي الهيمنة القمعية، خاصة في سياق الاستبداد، حيث تتحول التكنولوجيا إلى أداة فعالة لخلق فضاءات مقاومة وسرديات إنسانية بديلة.
مايا البوطي[1]
فيما نتابع الحرب الراهنة على غزة والعنف المستعر ضد شعبها، نشهد تعاطفًا عالميًا متزايدًا مع هذه القضية الحقّة، على الرغم من استمرار الإعلام الإسرائيلي في تحريف الحقائق والتعتيم على جرائمه. يعود جزء من فضل تحدي هذه السردية الاستعمارية إلى جهود المؤثرات والمؤثرين على منصات التواصل الاجتماعي في غزة، حيث يعملون على إيصال الأصوات والقصص والحكايات التي تسعى إسرائيل لطمسها. لذا شهدنا كيف استهدفت إسرائيل المؤثرات والمؤثرين، وكذلك الصحفيات والصحافيين، بشكل مباشر، لمنعهم من نقل تجارب أهل غزة مع هذا العنف المستمر.
يساعدنا كتاب "الجماهير العاطفية: المشاعر والتكنولوجيا والسياسة"[2] لأستاذة التواصل في جامعة إلينوي، زيزي باباشاريسي، والصادر عام 2015، على فهم كيفية مساهمة منصات التواصل في تغيير السرديات المهيمنة وخلق حالة تواصل تُسهم في أنسنة الضحايا. يحملنا لتقديم هذا الكتاب، اتصاله براهنية قضية السرديات في منطقتنا العربية، ودور منصات التواصل في تعزيزها لمواجهة المنظومات الاستعمارية والأبوية والديكتاتورية.
"الأثر الانفعالي" من الراديو إلى منصات التواصل الاجتماعي
تنطلق باباشاريسي من ذكرى انتفاضة أثينا عام 1973، التي عاشتها في طفولتها وأثر الراديو في مسار أحداثها، مما جعلها تدرك لاحقا في دراستها، أهمية السرد القصصي في المجال الإعلامي. تعود الكاتبة بذاكرتها إلى الانتفاضة التي بدأت كمظاهرة طلابية ضخمة تعبيرًا عن الرفض الشعبي للمجلس العسكري اليوناني الذي حكم في الفترة 1967-1974. انطلقت شرارة المظاهرات في 14 تشرين الثاني/ نوفمبر 1973، وتصاعدت إلى ثورة مفتوحة ضد المجلس العسكري، وانتهت بالعنف ضد الطلاب، مما أسفر عن مقتل عدد منهم. الملفت في الذكرى التي تشير إليها باباشاريسي، هو كيف أسهم بث الراديو في خلق سردية أشعلت قلوب الجموع، حتى من لم يكن فعليًا متواجدًا في موقع الحدث. تستلهم الكاتبة من هذه الذكرى لتمضي في بحثها في تأثير منصات التواصل في خلق سرديات تحرك المشاعر وتخلق رؤية إنسانية لمجموعة ما.
يدرس الكتاب كيف أسهمت الدعوات والخطابات المتداولة على منصات التواصل الاجتماعي، خاصة تويتر (منصة إكس حاليًا)، في تشكيل سردية موحدة لجموع المشاركين في ثورة 25 يناير. كما يشير إلى أن المتتبع لهذه الثورة يلاحظ قيامها دون وجود ممثل رئيسي أو تيار حزبي مركزي، وبالتالي ارتكازها على المد الشعبي. من هنا تنبع أهمية البحث الذي يقدمه الكتاب، في ضرورة دراسة دور النشاط الرقمي وأثر التفاعل على منصات التواصل الاجتماعي. يخصص الكتاب قسمًا لدراسة الاحتجاجات تحت شعار "احتلوا وول ستريت" في عام 2011، التي دعت إليها صفحات التواصل، وخاصة تويتر، في تلك الفترة. ويعتمد على هذه الواقعة لدراسة العلاقة بين الأثر العاطفي ومنصات التواصل، وما نتج عنها من تحرك الحشود لرفض المنظومة الرأسمالية.
نظرية الانفعال | Affect Theory
يعتمد البحث على "نظرية الانفعال/العواطف"، التي تُعد جزءًا من الدراسات الثقافية، وتعكس التأثير السياسي على الحسي والانفعالي. تفكك باباشاريسي ثنائية العقل والعاطفة التي سادت في الفكر الغربي، وتبين صعوبة الفصل بين العقلاني والفكري والعاطفي. تعود ببحثها إلى شخصيات التنوير في القرن السابع عشر مثل ديكارت، وهوبز، ولوك، وهيوم، الذين ربطوا العلم بالعقل. هكذا، جرى الاحتفاء بالعقلاني كجزء من الفضاء العام ومجال للفكر والقانون، بينما استُبعِد العاطفي باعتباره أمرًا غير عقلاني وغير خاضع للفكر.
في المقابل أشار ماكس فيبر إلى أن الفكر العقلاني ينقسم إلى نوعين: أحدهما يخضع للحساب والقياس، بينما يتجه الجزء الآخر نحو المعتقد والتقليد والاعتياد والعاطفة، ويخضع للمزاجية. وقد بيّن فيبر أن "العقلانية، هي العملية التي يستخدم فيها الفكر لتنظيم وتقييم حقائق المنطق، وهو (ما طوّر) كمكون أساسي في المنظومة الاجتماعية". وقد ميز بين أربعة أنماط من العقلانية: "ما يستخدم للوصول لهدف محدد، وما يستخدم كأداة، وما يُوجه نحو قيمة واعتقاد معين، والعاطفي، والتقليدي أو المحافظ."[3] وتقدم هذه الافتراضات ثنائيات تفصل بين المنطق والعاطفة وفقًا لباباشاريسي. وقد انتقد يورغن هابرماس تقسيم فيبر لما هو عقلاني وعاطفي، لعدم مناقشته للأثر السياسي، وخاصة الخطاب الإعلامي الحكومي الموجه الذي يهدف إلى التأثير على الجماهير. ومع القمع السياسي الذي مارسته الأنظمة في دول المنطقة العربية، والذي كان سائدًا قبل الربيع العربي (ولا يزال)، واحتكار الفضاء العام ومنع وجود حركات سياسية فاعلة، ظهرت منصات التواصل كمساحة بديلة سمحت بتبادل الفكر السياسي والعمل على تحدي منظومة القمع.
بناءً على ذلك، توضح باباشاريسي أن الفصل بين العقل والعاطفة يبسط الظواهر ولا يعكس تعقيدها، وتشير إلى أن الانفعال يعد جزءًا من الظاهرة ومكونًا من الفعل السياسي. تقول بهذا الصدد: "الانفعال/العاطفة جزء أساسي من كيفية تضمين الأفراد للفكر ونقله عبر الفعل والتجربة اليومية."[4]
تختار الكاتبة الاعتماد على مفاهيم جيل دولوز وفيليكس غاتاري الذين ميّزا بين العواطف والانفعال. فقد أوضحا أن الانفعال يسبق الفعل. إذ يريان التأثير على أنه "القدرة على التأثير والتأثر، وهي شدة انفعالية غير مرتبطة بالفردية، تنشأ قبل أن تكتسب طابعًا شخصيًا، وتعكس انتقال الجسد من حالة شعورية إلى أخرى، بما يتضمن زيادة أو نقصانًا في قدرة الجسد على الفعل."[5]
تتناول باحثات نسويات مثل لورين برلنت وسارة أحمد نظرية الانفعال بوصفها إطارًا لفهم الأبعاد العاطفية للتجربة الإنسانية، وهو ما تؤكده زينة حلبي، الكاتبة والأكاديمية المختصة بالأدب والثقافة المعاصرة، مشيرة إلى أن هذه النظرية تعكس أثر "الحياة الاجتماعية للمشاعر"، إذ يمكن رصد كيفية توظيف منظومة عاطفية للتطبيع مع مظاهر اجتماعية تخضع للمنظومة السائدة. وتذكر حلبي مثالاً على ذلك، كيفية "استخدام الانتماء الأسري لتسطيح التراتبية في بيئة العمل، أو كيف تُنسَب للدولة مشاعر أسوةً بالبشر يجب أن تُصان من نقد المعارضين."[6] بالتالي، تُفهم المشاعر هنا، بحسب حلبي، ليس فقط في إطارها الفردي والخاص، بل أيضًا باعتبارها وسيلة "تؤطّر السياسة ومفاهيم مثل الانتماء والحميمية."
إضافة لما سبق، تقدم ميليسا غريغ[7] تعريفًا للانفعال باعتباره قوة محركة، لكنها تضيف أن وصف الانفعال بهذه القوة المحركة قد يبدو مبالغًا فيه. فالأثر الانفعالي قد يكون غير مرئي، ويظهر في الأمور الاعتيادية والجزئيات الدقيقة التي تعكس تدرجات انفعالية تنبثق من علاقات القوى التي تطبع سلوكنا. وتشير كذلك إلى أن "التأثير، في كثير من الأحيان، يُعادل القوة أو قوى المواجهة".[8] أي أن الانفعال هو نتيجة لعلاقات القوى وأثرها الفيزيائي على الجسد والعواطف.
تويتر كنموذج للتفاعل في عصر التكنولوجيا
وفقًا للمنهجية المتبعة في الكتاب، يتركز البحث على هذا "الأثر" الذي تخلقه منصات التواصل، وعلى الإمكانيات العاطفية التي تدعمها، بما يتيح مشاركة القصص ويمنح القدرة على إنتاج تأثيرات عامة مشتركة يمكن أن تبلغ ذروتها في إحداث تأثيرات سياسية كبيرة. أي أن الكتاب يتقصى ترابط الجماهير من خلال الأثر الانفعالي الذي تصنعه القصص في العصر الرقمي.
هكذا، تهتم الكاتبة بكيفية "تسهيل التكنولوجيات للتدفقات العاطفية عبر الشبكة العنكبوتية، التي تُنتج وتوزع ويعاد مزجها من خلال قنوات الاتصال الوسيطة".[9] بناءً على ذلك، تُتابع كيفية خلق حالة حسية من الانفعال، تسبق "اللغة المحكومة بالمنظومة المجتمعية"، والتي يمكن الاستدلال عليها من "المتغيرات الجسدية من خفقان القلب وتدفق الهرمونات، التي تُعد مؤشرات لقراءة الأثر الانفعالي".
هل تحرُّك الجموع يحمل بالضرورة عمقًا سياسيًا؟
تلفت باباشاريسي انتباهنا إلى أن هذا الشعور بالانتماء الذي تخلقه سرديات التواصل لا يؤطر بالضرورة لعمق سياسي. فقد تتفق مجموعات على رؤية معينة دون التعمق في زواياها أو نقدها بشكل معمق. ومع ذلك، ترى الكاتبة أهمية هذا الشعور كبداية لخلق مساحات للعمل السياسي وتعميقه فيما بعد.
من المهم الإشارة إلى أننا نشهد مؤخرًا تغييرات مستمرة في سياسات الخوارزميات الخاصة بمنصات التواصل، مما يؤثر على تفضيلات ظهور المحتوى لدى المتصفحات-ين. هكذا بات هناك ظواهر مرتبطة بتكثف ظهور محتوى معين لدى المتصفحات-ين. من هذه الظواهر ما يُعرف بـ"غرف الصدى"، حيث يتعرض الأفراد بشكل مستمر لمحتوى يتوافق مع آراءهن-م وقيمهن-م الحالية. ونتيجة لذلك، قد يجد المستخدمات-ون أنفسهم محاطات-ين بأفراد يشبهونهم في التفكير، مما يحد من تعرضهم لوجهات نظر بديلة ويعزز شعور العزلة عن الآخرين الذين يحملون آراء مختلفة.
ورغم أن هذه الظواهر ظهرت بشكل أكثر وضوحًا مؤخرًا، أي بعد صدور الكتاب، إلا أن باباشاريسي أوضحت سابقًا أن منصات التواصل ليست بالضرورة مساحة لتعميق الوعي السياسي. بالتالي، ترى ضرورة بذل جهد لفهم هذه الظواهر ودراستها بشكل نقدي. فلا ينبغي الاكتفاء بالمعلومات التي تقدمها منصات التواصل، بل يجب التحقق منها وتحليل الرسائل السياسية والأيديولوجية الكامنة خلفها. ومع ذلك، لا ينفي هذا الأثر الكبير للتكنولوجيا في أحداث شهدت تحركات شعبية واسعة (مثل ثورة يناير في مصر)، حيث أدت منصات التواصل دورًا رئيسيًا في نشر الدافع الإنساني الذي أسهم في هذه التحركات.
في عدد من الدول العربية، ومع تصاعد القمع السياسي وتقييد الحريات في الفضاء العام، شكّلت منصات التواصل الاجتماعي مساحة بديلة أتاحت التواصل وأسهمت في تحريك النقاشات السياسية. وقد برز دور هذه المنصات بشكل خاص خلال الثورات التونسية والمصرية حيث أدّت دورًا أساسيًا في الحراك ضد الحكم الاستبدادي. في مصر، وعلى خلفية عدد من حوادث عنف الشرطة ضد بعض المدنيين، دعت صفحات التواصل إلى رفض الظلم والعنف والمنظومة القمعية. ومن أبرز هذه الصفحات، صفحة "كلنا خالد سعيد". وفي سياق مشابه، أسهمت منصات التواصل في إنشاء تنسيقيات لدعم الثورة السورية ضد نظام بشار الأسد عام 2011. ومع إدراك النظام السوري لأثر هذه المنصات في تعزيز الحراك ضده، عمل على حجبها واعتقال الناشطين والناشطات، كما لجأ إلى التصعيد المضاد من خلال إنشاء جيش إلكتروني اخترق الصفحات المعارضة، وروّج لخطاب النظام، وشنّ هجمات إلكترونية على المعارضة والمواقع الإخبارية. وبالتالي، يتضح جليًا أن منصات التواصل الاجتماعي قد أحدثت تحولات عميقة في الساحة السياسية العربية، وشكلت الرأي العام، وخلقت مساحة للتعبير عن الانفعالات والمطالب المشروعة.
سرد إنساني عبر الوسيط الرقمي لمواجهة المنظومة القمعية
في ظل آليات العنف التي تستهدف أهل غزة وتسعى لإبادتهم، يصبح من الضروري الاستفادة من الأفكار الواردة في كتاب الجماهير العاطفية لمواجهة هذا التوحش. يبرز أهمية العمل على خلق سرديات إنسانية تُظهر الظلم الواقع على السكان الأصليين من خلال التركيز على القصص والحكايات.
قدم كتاب الجماهير العاطفية رؤية مهمة في مجال نظرية الانفعال والسرد القصصي والوسائط التكنولوجية، بما يندرج ضمن السياسي والمعاش اليومي. يتعمق الكتاب في دراسة دور التكنولوجيا وأثرها على آليات التواصل الإنساني، المساحات العامة، والفعل السياسي. وفي سياقات يغيب فيها الحق بالمشاركة الديمقراطية أو تسود فيها أنظمة استعمارية، ديكتاتورية، أو أبوية، تتيح منصات التواصل أدواتٍ لخلق سرديات تتحدى الهيمنة. ومن خلال سياسة واعية تنطلق من حق الفئات المهمشة في تقرير مصيرها، يمكن تعزيز دور هذه الفئات عبر نشر المعرفة حول كيفية الاستفادة من منصات التواصل وبيان أثرها في إيصال أصواتهن/هم، مما يسهم في تعميق مشاركتهن/هم في صنع التغيير.