تقدم دينا عزت في هذه المراجعة قراءة لسيرتين ذاتيتين تعكسان واقعًا مختلفًا لنساء نشأن في القصور الملكية في المنطقة العربية. إذ تروي "السجينة" قصة مليكة أوفقير في السجون المغربية بعد محاولة انقلاب فاشلة، مُبرزةً انتقالها من حياة القصور إلى معاناة السجن في زنزانات الصحراء، ثم رحلتها اللاحقة إلى فرنسا. أما سالمة بنت سعيد، فتقدم في "مذكرات أميرة عربية" نظرة على الحياة السياسية والاجتماعية في عُمان وزنجبار في القرن التاسع عشر، مُظهرةً التناقضات بين حياة الترف في القصور وواقع النساء اللاتي يعشن في ظل نظام اجتماعي متسلط.
دينا عزت[1]
يفصلهما قرن من الزمان وآلاف الكيلومترات بين الخليج، حيث سلطنة عُمان التي كانت في القرن الماضي تشمل عُمان وزنجبار، والمغرب. إلا أنهما تجمعهما قصة مشتركة في كثير من تفاصيلها، وكأن الزمن لا يتغير كثيرًا: مليكة أوفقير وسالمة بنت سعيد.
في مارس/ آذار 1997، وفي إحدى الشقق الباريسية، التقت مليكة أوفقير، المغربية الأصل، مع ميشيل فيتوسي، التونسية الأصل. ما جمع السيدتين، المولودتين في شمال أفريقيا في نهايات العقد الخامس من القرن العشرين، تجاوز الأصول المغاربية والإقامة الباريسية، ليتحول إلى صداقة وطيدة أثمرت تعاونًا مشتركًا لإخراج واحدة من أكثر قصص القرن العشرين رعبًا في العالم العربي: قصة أسرة الجنرال محمد أوفقير، الذي كان الذراع الأيمن للعاهل المغربي محمد الخامس، ثم خليفته الحسن الثاني، قبل أن تجري تصفيته على يد أحد رجال الحسن الثاني بعد محاولة انقلاب فاشلة في صيف 1972. وهنا بدأت رحلة مفزعة من السجن والتعذيب ومحاولة الهروب لزوجة أوفقير، فاطمة، التي كانت من نجوم القصر المغربي، وأولاده الخمسة، بما فيهم مليكة أوفقير التي كانت متبنَّاة بصورة شبه إجبارية من قبل محمد الخامس لترافق ابنته لالة أمينة.
أسرار القصر
لا يمكن للقارئ أن يطالع صفحات كتاب "السجينة"[2] الصادر أولًا بالفرنسية قبل ترجمته إلى عدة لغات، منها العربية، دون أن يشعر وكأنه يتنقل بين رواية أسطورية في القسم الأول، الذي يعرض حياة البذخ في قصور البلاط المغربي، وبين رواية تمزج الرعب بالإثارة في النصف الثاني من صفحات الكتاب التي تتناول السنوات التي أمضتها أسرة الجنرال أوفقير في أبشع سجون المغرب وأكثرها سوءًا وقذارة، إضافة إلى تناول محاولات الهروب المستميتة، بما في ذلك حفر أنفاق بملاعق وأيدٍ عارية وسط دهاليز تعجّ بالجرذان، في زنزانات تفتقر إلى أبسط متطلبات احتجاز الآدميين.
تروي أوفقير قصة سندريلا المعكوسة؛ الفتاة التي نشأت في ترف كبير في بيت والدها، الذي كرّمه الملك الحسن الثاني بعد تصفية المعارض المغربي المهدي بن بركة. لكنها انتقلت مع أسرتها لعشرين عامًا من المعاناة، متنقلةً بين سجون وسط الصحراء، حيث عاشوا ظروفًا قاسية من تناول الطعام الفاسد، والنوم على أسِرّة موبوءة بالحشرات، إلى التداوي بشرب الماء الساخن. بلغت المعاناة ذروتها عندما حُجز أفراد الأسرة في ثلاث زنزانات ضيقة، خُصصت إحداها للحبس الانفرادي للابن الأكبر للجنرال المقتول، فوصلت الأسرة إلى مرحلة الاكتئاب والرغبة في الموت، ليس فقط عبر محاولات الانتحار، بل أيضًا بمحاولة أفرادها قتل بعضهم البعض تنفيذًا لرغبات اليأس والخلاص من المأساة، التي سلبتهم كل أمل في الخروج من الظلمات إلى النور.
لكنّ معجزة حدثت أخيرًا، إذ تمكنت مليكة وبعض إخوتها من الفرار في واحدة من أعجب قصص الهروب، مما أثار ضجة دولية دفعت الحسن الثاني إلى نقل الأسرة المدمرة نفسيًا إلى سجن داخل منزل كريم الشأن. وفي النهاية، تمكن أفراد الأسرة من مغادرة المغرب إلى فرنسا، حيث التقت مليكة حبيبها إريك وتزوجته. بعد أن كانت محرومة من أن تكون امرأة طبيعية طوال سنوات سجنها، شأنها شأن أمها وكل أخواتها.
لا تحمل قصة السجينة، التي هي مذكرات أملتها مليكة أوفقير وصاغتها بالتعاون مع ميشيل فيتوسي، أي إدانة لحياة القصور الباذخة، والتي تبيح اقتناء العبيد – بما في ذلك الفئة التي أشارت إليها بعبيد النار، المكلفين بالتعذيب البدني، بدءًا من الجلد في حالة الرسوب المدرسي إلى ما هو أكثر وأبشع عنفًا – والمحظيات اللواتي لا يحق لهن، من لحظة السبي، الإنجاب إطلاقًا، بل واللاتي يجري اختيارهن، كما في حال الحسن الثاني، وهن دون السابعة عشر، واللاتي بلغ عددهن عند وفاته أربعين محظية. ومن القليل الذي تنتقده عن سنوات إقامتها في قصر محمد الخامس هو تلقي الفتيات – أمينة، ابنة الملك، ومليكة رفيقتها، وثلاث فتيات أخريات جرى ضمهن لرفقة أمينة – التعليم الجنسي من قبل شيخ كبير في السن كان لا يصف المرأة إلا بكونها جسدًا لتلبية رغبات الرجل.
في الوقت نفسه، لا تعقد أوفقير أي مقارنة بين حياة البذخ التي عاشتها، والتي سمحت لها بارتداء ثياب مُصنَّعة خصيصًا لها بأوامر ملكية من أشهر بيوت الأزياء، وبين حياة عامة الشعب في المغرب، بما في ذلك الأمازيغ الذين تنتمي إليهم. لا يبدو الناس في المغرب جزءًا من القصة إلا في إطار رؤيتهم من خلال نوافذ السيارات أو القطارات، أو بوصفهم سائقي تكاسي نقلوها، مع أخواتها المرافقين لها، أثناء رحلة الهروب من سفارة إلى أخرى بحثًا عن لجوء سياسي.
لا تدين مليكة خيارات والدها السياسية، بل تتجنب الخوض في تفاصيل فظائعه، باستثناء إشارة عابرة إلى قصة المهدي بن بركة. كما أنها لا تتناول بتفصيل دور العاهلين محمد الخامس والحسن الثاني في القرارات السياسية، بما في ذلك تلك التي كانت ضد الأمازيغ، الذين تفتخر أوفقير بانتمائها إليهم. ولا تتطرق بشكل مباشر إلى دور والدها في ترحيل آلاف اليهود المغاربة إلى إسرائيل، وهو ما جعل إسرائيل وجهة محتملة لرحيل أسرة أوفقير في رأي الملك الحسن الثاني بعد خروج الأسرة من السجن. بدلاً من ذلك، تركز على دحض الشائعات حول علاقة والدتها ببعض رجال البلاط والجيش، كما تسعى لرسم صورة إيجابية لوالدها كزوج وأب، مع اعترافها بمغامراته النسائية التي دفعت والدتها للانفصال عنه لفترة مؤقتة.
على الرغم من أن قصة أوفقير لا تنتمي إطلاقًا لسياق النسوية، خاصة تلك التي كانت سائدة في السبعينات، إلا أنها، دون الولوج في مفردات الحركة النسوية، تعبر عن قدرة النساء على التأثير واتخاذ القرار والمعارضة وكسر الحواجز، حتى في ظل الظروف القاسية. كما أنها تلفت النظر إلى دور النساء في إلهام بعضهن البعض، حيث كانت والدتها فاطمة ملهمتها الأثيرة، ودعم بعضهن البعض. وقد دعمت هي أيضًا أخواتها الأصغر في رحلة الزنزانة الواحدة التي امتدت لسنوات متتالية. رغم هذه القوة والصمود، تذكر ميشيل فيتوسي في المقدمة أن مليكة كانت تعاني من نوبات حزن واكتئاب شديدين أثناء العمل على نص الكتاب، لأنها لم تكن تتحمل رؤية كابوسها وقد كُتب على الورق.
أميرة بين التقاليد والإيمان الجديد
بالمقابل، تقول سالمة بنت سعيد، إحدى أميرات عُمان وزنجبار في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، في مقدمة كتابها "أميرة عربية"[3] إنها اختارت أن تكتب مذكراتها لتُطلع أبناءها، الذين وُلدوا بعد أن أصبحت مواطنة ألمانية مسيحية واتخذت اسم إميلي رويتي، على حقيقة أصولها العربية.
على عكس حالة مليكة، تبدو سالمة متصالحة تمامًا مع الأوضاع التي عاشتها في القرن التاسع عشر في بيت الحكم. فهي تعتقد أن كل ما حدث كان له مبرره، فترى أن العبيد يُستعبَدون ولكنهم يتمتعون بحياة مستقرة ولا يقلقون على قوت يومهم. والعبيد من أصول أفريقية يجب تأديبهم باستخدام العنف لأنهم يميلون إلى الكسل ولا يرغبون في فعل شيء إذا لم يُجبروا. والمجوهرات التي يتم نثرها هنا وهناك بين أبناء القصر في كل مناسبة سعيدة هي أمر عادي، بل معبر عن حب الوالد لأبنائه وبناته.
وفي نفس السياق، لا تدين سالمة، اقتناء المحظيات، مع أن والدتها، عائشة الشركسية الأصل، اختُطفت وهي طفلة على يد تجار العبيد الذين قتلوا والديها وفرقوا بينها وبين أختها وأخيها ليفقدوا كل صلة ببعضهم. بل على العكس، تتحدث عن صداقات مبنية على الأصل العرقي، حيث تتمايز علاقات من لهن أصل شركسي عن صاحبات الأصول الحبشية، مع أخذ في الاعتبار وجود بعض الاستثناءات لعلاقات صداقة تجمع بين الطرفين.
على النقيض من مذكرات السجينة، تذهب مذكرات أميرة عربية، التي تتجاوز صفحاتها الـ 400، إلى أبعد من ذلك في التعبير عن عدم ارتياحها للدين الإسلامي. فبينما تكتفي مليكة أوفقير بالتلميح ضمنًا لتفضيلها العقيدة المسيحية، أو العقيدة اللادينية، تتحدث سالمة بنت سعيد بصراحة عن اختيارها التحول إلى المسيحية، وتفخر بتقبل أسرتها لهذا القرار، وإن كان على مضض. مع أخذ في الاعتبار أن هذا التحول حدث بعد أن التقت بحبيبها الألماني الذي أصبح زوجها وانتقلت معه لتعيش في ألمانيا.
لا تهدف مذكرات سالمة إلى طرح أي موقف سياسي محدد، فهي، على عكس أوفقير، لم تتعرض للأذى حتى عندما تورطت مع بعض الإخوة غير الأشقاء في مؤامرة سياسية ضد الأخ الأكبر المستحق لوراثة الحكم بعد وفاة الوالد، إذ كان أخوها الأكبر كريمًا بما يكفي ليتجاوز عن تحزّبها ضده وتآمرها عليه.
تقدم سالمة صورة واضحة عن حياة النساء في ذلك الزمان، إذ ترتبط مكتسباتهن بشكل مباشر بوضعهن الاجتماعي. وتصف تفاصيل الحياة اليومية بدقة عالم الأنثروبولوجيا، وكأنها باحثة تدرس مجتمعًا غريبًا لا علاقة لها به بالضرورة. فتذكر، على سبيل المثال، عادات مثل منع الجواري من الجلوس إلى مائدة الطعام مع الوالد السلطان، وعزل النساء في غرف مظلمة خلال فترة العدة. كما تحكي عن "خصيان" ينحنون أمام الأميرات لتستندن عند نزولهن من على ظهور الحمير أثناء التنقلات. بالمقابل، تشير إلى النساء الفقيرات اللاتي، وبالرغم من التزامهن الإسلامي، لا يعتقدن أنهن يخضعن لمطلب الحجاب، كونهن نساء عاملات في معظم الأحيان، وبحجة أنه فرض على النساء الغنيات فقط. كما تؤكد أن المرأة في الإسلام لا تغيّر اسمها العائلي بعد الزواج. وتضيف أن أخت عمتها الكبرى عائشة رفضت، بعد وفاة الجد، أن يتولى أخوها سعيد (والد سالمة) الحكم تحت إشراف وصي، وقررت أن تتولى هي الحكم، وفعلت ذلك بالفعل. بل "إنها قادت الجيش بمهارة" حتى بلغ أخوها السن المناسب للحكم.
في السياق العام، يعد كتابا مليكة أوفقير وسالمة بنت سعيد نصين يتناولان تاريخ بلدين عربيين في القرنين التاسع عشر والعشرين. واللافت لمن يقرأ النصين، خاصة إذا قرأهما متتاليين، هو التماثل بين حياة القصور، وإلى حد كبير حياة نساء الصفوة الحاكمة في بلدين يقعان على أقصى ضفتي العالم العربي، وفي سياقين تاريخيين مختلفين. فإلى جانب حياة الرفاهية المذهلة، والتي تشمل على سبيل المثال حدائق حيوان خاصة تُهدى لبعض الأميرات من قادة دول العالم، وإلى جانب اقتناء أعداد كبيرة من الإماء والعبيد، هناك أيضًا سيادة دينية للحاكم؛ ففي المغرب، هو "أمير المؤمنين"، وفي زنجبار-عُمان، هو "الإمام". كما أن هناك سيادة ذكورية للحاكم، فهو الوحيد الذي يُسمح له بالتواجد في مناطق الحريم وداخل دوائر نساء الأسرة، باستثناء الخصيان والجواري اللاتي يقمن على خدمة نساء القصر. وفي كلا الحالتين، يبدو انعزال الحاكم وعائلته عن السياق المجتمعي الأوسع جليًا وبصورة تكاد تكون متطابقة.
قد تبدو تفاصيل كتاب "مذكرات أميرة" مفهومة إلى حد ما، خاصة إذا أخذنا في الاعتبار أنها تدور في ثمانينيات القرن التاسع عشر، إذ لا يصعب تصور قصر في زنجبار تتحرك فيه الإماء لتبخير الإمام كل يوم جمعة قبل أداء الصلاة. أما ما يثير الدهشة حقًا، فهو تلك القصص عن الجواري المخصصات لطقس استحمام الملك في المغرب في سبعينيات القرن العشرين، أو قيام الملك بنفسه بتأديب ربيبته بالضرب بالكرباج على قدميها بينما هي راقدة على سجادة أمامه، عقابًا لها على نتائج دراسية غير مقبولة، كما تروي صفحات كتاب "السجينة".
ختامًا، تُعد هاتان السيرتان شهادة حية على التحولات الاجتماعية والسياسية في أجزاء من العالم العربي، ودليلاً على قوة إرادة النساء اللاتي تحدين ظروفهن وكتبت كل واحدة منهن، بطريقتها الخاصة، قصة مقاومة وبقاء، لتظل كل منهما جزءًا من تاريخ المنطقة. هذا النوع من السير لا تفتح نافذة على الماضي فحسب، بل تثير أيضًا أسئلة جوهرية حول دور المرأة في المجتمع، وعلاقة السلطة بالدين، وتأثير الثقافة على الحياة اليومية، مما يجعلها مرجعًا قيمًا لفهم تعقيدات الحاضر واستشراف المستقبل.