يأتي كتاب "مذكرات هدى شعراوي ونصوص أخرى" كوثيقة تاريخية واجتماعية تسلط الضوء على الحراك الذي شهدته مصر في مطلع القرن العشرين، ويعد مصدرًا أساسيًا يعكس السردية النسوية المصرية. يقدم الجزء الأول، الصادر في عام 2022، عرضًا لحياة شعراوي في فترة طفولتها وحتى بداية مشوارها النضالي. يبرز الجزء الثاني "النصوص الأخرى" دور المرأة في حركة التطور العالمي وتحقيق السلام العالمي. يعزز الكتاب الفهم لتفاعل هدى شعراوي مع السياق العام، وكيف أثرت تجاربها وفكرها في تشكيل رؤيتها لتحقيق التغيير وتحرير المرأة المصرية.
آيات عبد الدايم [1]
لا يمكن لأي باحث في تاريخ الحركة النسوية وحقوق المرأة المصرية أن يفتح هذا الملف، وكل ما تحقق فيه عبر عقود، دون التوقف عند شخصيات محددة أدت أدوارًا رائدة في طريق كفاح تحرير وانتزاع حقوق المرأة المصرية من قيود المجتمع وفرضها على تشريعات وقوانين الدولة، ويتصدر هذه الشخصيات "هدى شعراوي" التي قادت الحركة النسوية المنظمة الأولى في مصر خلال النصف الأول من القرن العشرين، وأرست قواعدها وفتحت بخطواتها الطريق أمام مصريات أخريات ليشاركن في تحقيق مكتسبات حقوقية ومشاركة فعالة وحضورًا مؤثرًا في الحيز والشأن العام لصالح المرأة المصرية.
الآن ونحن نقطع العقود في النصف الأول من القرن الحادي والعشرين، وتتنوع مسارات وأجندات وتوجهات الحركات النسوية المصرية والعربية، نعود إلى السيرة الأولى وبدايات تشكل الحركة النسوية المصرية من خلال قراءة ثانية لمذكرات "هدى شعراوي"، وهذه العودة ليست لإعادة التأكيد على ما حققته وأنجزته، بل لقراءة سيرة وواقع المرأة المصرية ما بين النموذج الرائد، وبين واقع القاعدة من النساء المصريات بعد ما يزيد عن قرن كامل من حراك هدى شعراوي، والبحث عن التقاطعات ورصد نقاط التلاقي فيما بينهما، وكيف تفرغ الحقوق من مضمونها أمام ممارسات رسمية ومجتمعية؟
مذكرات هدى شعراوي... توثيق لسيرة كفاح وثقافة مجتمع
أصدرت الهيئة العامة لقصور الثقافة، التابعة لوزارة الثقافة المصرية، في عام 2022 طبعة جديدة من السيرة الذاتية لـهدى شعراوي تحت عنوان "مذكرات هدى شعراوي ونصوص أخرى"، وفي إطار سلسلة "ذاكرة الكتابة" المعنية بنشر أبرز الأعمال الفكرية والأدبية والنقدية التي طبعت منذ بدايات القرن العشرين، وجاءت الطبعة مقسمة إلى جزئيين أساسيين، يسبقهما تقديم بقلم الدكتور طارق النعمان، تحت عنوان "من عالم الحريم إلى الفضاء العام/ هدى شعراوي وصناعة النوع".
وحمل الجزء الأول من الكتاب فصول مذكرات السيدة هدى شعراوي كيفما كتبتها وجاءت في 44 فصلًا، وتناولت فيها جوانب من طفولتها وعلاقتها بأبيها، ودفاعها عنه كأحد رموز تشكيل المشهد السياسي في مصر خلال فترة الثورة العرابية واحتلال الإنجليز لمصر، بالإضافة إلى تفنيد مواقفه في ذات الفترة وكذلك مواقف خصومه من العرابين، ويتصدرهم أحمد عرابي ذاته، وتناولت فيها مراحل التكوين الأولى في صباها والعوامل المؤثرة فيه وقصة زواجها وهي ابنة ثلاثة عشر عامًا، ثم انطلقت في عرض وتوثيق تطورات خطواتها في مسارين متوازيين: الكفاح الوطني لتحرر مصر، والنضال النسائي حتى تتحرر المرأة المصرية. أما الجزء الثاني من الكتاب، فجاء تحت عنوان "النصوص الأخرى" التي استعرضت دور المرأة في حركة التطور العالمي، وكذلك دورها في تحقيق السلام العالمي، بالإضافة إلى رثاء درية هانم شفيق لهدى شعراوي.
ولعل حالة الثراء التي تحملها فصول الكتاب، سواء بتوثيق لملامح الحياة في مصر أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، أو رصدها لمنظومة قيم وأفكار وانحيازيات الطبقة الأرستقراطية وطبيعة تفاعلها مع السياق العام، أو متابعة كيفية تشكل شخصية وأفكار القائد/ة وعلاقته بسياقه واحتياجات الجماهير وخطابه لهم، تجعل العودة إليه ضرورة وخاصة مع الحالة العامة التي تشكل المشهد العام حاليًا في مصر.
طفولة هدى شعراوي: بذور القهر والثورة الأولى
تبدو طبيعة سياق نشأة و"تربية البنت" في المجتمع المصري جليةً في الفصول الأولى من الكتاب؛ فموقع المرأة مقيدٌ بالتهميش وبأدوار محددة وضيقة النطاق، ويصح وصفه بأنه لا يخرج عن مصطلح وفكرة "الحريم". حينها كان موقع المرأة منزل أبيها ثم زوجها لاحقًا، وكانت حدود دورها محصورة في رعاية المنزل وشؤونه والإنجاب وتنشئة الأبناء. ورغم أن "هدى شعراوي" كانت ابنة الطبقة العليا ذات النفوذ والسلطة، إلا أنها لم تكن محمية من الدخول في قالب التنميط والتأطير. فالمربي لديه سلطة عليها منعتها من دراسة النحو والقواعد حينما تطلعت لذلك، وكان لديه سلطة الثواب والعقاب وممارسة العنف ضد الطفلة هدى وشقيقها تحت دعوى التأديب. علاوة على ذلك، كانت تصلها رسائل مباشرة وغير مباشرة تقول إن أخاها مفضّل عنها، وليس لشيء سوى أنه ولد ذكرًا، أما هي فولدت أنثى. فبدأت "هدى" موجة من الإحساس بكراهية الذات وجنسها، مبكرًا، وحين وصلت إلى عمر الثالثة عشر من عمرها اكتمل القالب حول وجودها، وأجبرت على الزواج برجل لديه أطفال في مثل عمرها، ثم تطلقت منه لرغبة والدتها، إلا أنها بقيت في حالة نزاع وضغط، حتى عادت إليه مجددًا.
ورغم ما سبق، كان هناك مسار آخر يتشكل في نفس الشابة "هدى شعراوي"، فبعد أن ودعت شخصية الطفلة بتجربة زواج صعبة، بدأت تنمو شخصيتها وتتطور بهدوء، وفي داخلها كانت بشائر التمرد على الواقع والقوالب المفروضة عليها، ولم تتمكن من ذلك إلا بامتيازات تكفلها لها طبقتها الاجتماعية، فالسيدة اعتمدت في تكوينها المعرفي والفكري على التعلم والقراءة والاحتكاك بالأوساط الاجتماعية متعددة الثقافات، التي تفرد مساحة للنقاش وتبادل الآراء وتطويرها بشكل انعكس على نمو بذور التمرد داخلها.
المرأة المصرية بين الماضي والحاضر
لعل الملامح المُشكلة للسياق الذي نشأت به هدى شعراوي، قبل ما يزيد عن القرن بعقود، وسبق عرضها أعلاه، تطرح سؤالًا: هل ما زالت المرأة المصرية معرضة لذات السياق والممارسات في القرن الحادي والعشرين؟
وتأتي الإجابة في التقرير الصادر عن المركز القومي للسكان، بتاريخ نيسان/ أبريل لعام 2022، تحت عنوان "استمرار ثقافة تفضيل إنجاب الذكور وبخاصة في الريف المصري"، وفيه تشير الإحصاءات أن هناك اتجاهًا عامًا بين المبحوثين من كل المستويات التعليمية، لإنجاب عدد أقل من الأبناء الإناث مقابل عدد أكبر من الذكور، ويتفاوت ارتفاع عدد الذكور المرغوب فيه طبقًا للمستوى التعليمي، وقد اتضح أن الرغبة في إنجاب مزيد من الذكور (ثلاثة أطفال فأكثر) تزيد في الريف بنسبة (15.8%) مقارنة بالحضر بنسبة (12.2%)، واللافت في ذات التقرير أن الزوجات كانت حريصات ومتوافقات مع الأزواج على ضرورة إنجاب طفل ذكر حال إنجاب بنات فقط.
ويحمل التقرير في ذاته مؤشرات عن نتائج استمرار تلك الثقافة، من ارتفاع معدلات الأمية والعنف وعمالة الأطفال والتسرب من التعليم والزواج المبكر للإناث وحرمان المرأة من الميراث، أي أن الثقافة السلبية التي حرمت "هدى شعراوي" وقيدتها في طفولتها من حقوقها البسيطة ما زالت تشكل واقعًا وحياة ومسارات نسبة كبيرة من النساء في مصر، لكن هل المكتسبات التي حققتها مسيرة النسوية المصرية وتوجهاتها الحالية كافية لكسر قوالب تلك الثقافة وتحرير المرأة من قيودها المعنوية؟
المرأة المصرية والحضور في الشأن العام
تقوم المجتمعات التي تؤطر المرأة في قوالب محدّدة الأدوار والأنماط، بحجب صوتها وعزل رأيها عما يدور حولها من شأن عام. ولطالما ظلت المرأة وهي لا تمتلك أدوات المعرفة وتحصيلها أسيرة هذه الدائرة المغلقة. ولعل أول خطوة قطعتها السيدة هدى شعراوي في طريق الاشتباك والحضور في المجال العام كانت العمل على تحصيلها المعرفي واكتشاف تجارب من ثقافات ومجتمعات أخرى تأخذ فيها المرأة موقعًا ودورًا مختلفًا، وتناضل من أجل المزيد.
تزامنت تلك الخطوات التي قطعتها "هدى شعراوي" بصحبة أصوات أخرى مصرية تبحث عن سبل فتح طريق النمو أمام المرأة، مثل قاسم أمين الذي تسبب كتابه "تحرير المرأة" في حدوث ضجة وجدل مجتمعي كبير، وبشكل جعل هدى تنتقد وترصد ردود فعل سيدات المجتمع حينها بقولها "وكم سمعنا في ذلك الوقت السيدات أنفسهن يستنكرن تصريحات قاسم أمين ومبادئه، رغم أنها كانت في صالحهن؛ لأنها كانت تظهرن في الثوب الحقيقي من عدم الكفاءة، وكان ذلك يجرح كبرياءهن، فكن بذلك يذكرنني بالجواري عندما تعطي لهن ورقة العتق من الرق، إذ كن يبكين على حياة العبودية والأسر.."
جاءت الجملة السابقة دالة على طبيعة رؤية المرأة لذاتها وتوحدها مع القالب المرسوم لها من المجتمع، لدرجة العجز عن استيعاب أو التفكر في وضع آخر، ورغم ذلك بدأ أثر الفراشة يكتسب هوامش صغيرة لصوت المرأة، وكذلك بدأ تطلع المجتمع يأخذ مسارات متوازية، فتأسيس الجامعة المصرية (التي أصبحت فيما بعد جامعة القاهرة) يفتح أفقًا ومتنفسًا جديدًا، والحركة الوطنية قيد التطور وتخوض نزالًا تلو الآخر مع سلطة القصر والمحتل، ووعي الشعب يتحرك وينشغل بمستجدات الوطن.
عاشت هدى شعراوي في وسط تلك الأحداث والتغييرات، حتى جاءت لحظة ثورة 1919، والتحقت بالنضال الوطني بكل عنفوان وقوة واستقلالية، وبوعي شديد الدقة والحساسية يمزج ما بين الثورة والإصلاح. فالثورة موجهة بالكامل ضد المحتل ومنظومة الأفكار التي تقيد المرأة، والإصلاح موجه نحو بنية المجتمع. ويتضح الذكاء في مسارها ومنهجية نضالها أنها اتبعت التدرج في تقديم أفكارها والانتقاء المتعمد لما ترغب في طرحه على المجتمع، فالصدام الغاضب مع المجتمعات لا يُثمر إلا النفور ومزيدًا من التشبث وارتفاع احتمالات إجهاض عملية التغيير بالكامل. يتضح هذا التدرج حين حددت في البداية هدفها لانتزاع الحقوق الأساسية لصالح المرأة، فطالبت بالمساواة بين الجنسين في حق التعليم وفتح مجال التعليم العالي أمام الراغبات من السيدات، وبالتوازي طالبت بتعديل قانون الانتخابات حتى تتمكن المرأة المصرية من المشاركة وإيصال صوتها وتجربة ممارسة حقوقها، بالإضافة إلى المطالبة بتحديد سن زواج البنت.
وهنا يمكن ملاحظة أن فلسفة نضالها كانت تسعى إلى تمكين المرأة المصرية من أدوات التغيير والتثوير، أي التعليم والممارسة السياسية. وقد وجد هذا المنهج، الذي قامت عليه سيدات منتميات إلى الطبقة الأرستقراطية بالأساس، تأثيرًا على المستوى الشعبي، إذ التقطته نساء الطبقات الوسطى والشعبية. وهو ما ترصده هدى في المذكرات بوصفها للقيادات النسائية التي كانت تذهب لمكان المسيرات بعربات فاخرة لتجد النساء الفقيرات سبقهن مشيًا على الأقدام، وهذا ما يجعل التغيير أمرًا حتميًا فالأفكار التي تغرس في المجتمع بشكل أفقي تنمو وتزدهر وتتطور.
إن العودة إلى مذكرات ومسيرة النسوية الأولى في مصر تجعلني أتساءل عن طبيعة منهجية النسويات المصريات الآن؟ وموقع خطابهن من قواعد المجتمع النسائية؟ وما حجم وطبيعة تأثيره؟ وما هو المحرك للمشهد النسوي المصري؟ هل هو الاحتياج والحقوق الأساسية والمشتركة بين عموم النساء؟ أم هو حقوق شرائح اجتماعية نسوية ذات طبيعة طبقية محددة؟ وما تأثير استخدام السلطة لملف حقوق المرأة في صياغة المشهد السياسي الداخلي؟ وما هو مدى تأثير ذلك على المشهد النسوي؟
من وراء الحجاب
ومع صعوبة التساؤلات السابقة، نجد المرأة المصرية ضحية لموجة عنف مجتمعي، رصدتها دراسة مشتركة بين المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية والمركز القومي للمرأة، ونُشرت في يناير 2022 تحت عنوان "العنف ضد المرأة: الأبعاد وآليات المواجهة". جاءت الدراسة بمؤشرات دالة، حيث بلغت نسبة النساء المشاركات في الدراسة اللاتي يتعرضن للضرب (75%)، بينما بلغت نسبة اللاتي تعرضن للتحرش (80%).
تطرح هذه الدراسة سؤالًا جديدًا: هل العمل على مستوى الدستور والتشريع ونصوص القانون بمفرده كافٍ لإحداث التغيير؟ أم أن ممارسات المجتمع وثقافة البنية الداخلية للدولة المنوطة بالتنفيذ قادرة على تصفية مكتسبات المرأة المصرية من مضمونها؟ أم أن هذا المجتمع وقواعده من النساء يلزمهما مسار ثقافي يشتبك مع الجذور الثقافية لإشكالية علاقات القوة بين الرجل والمرأة؟ والقيام بالتوعية بالحقوق والمفاهيم داخل المجتمع وخلق أرضية نسائية مشتركة مجددًا؟ وتترك الأسئلة الموجهة مفتوحة تنتظر نقاشًا جادًا من الجيل الحالي للنسويات!