تروي الناشطة النسوية نولة درويش مسيرة حياتها التي ارتبطت ارتباطًا وثيقًا بنشأتها في كنف أسرة يسارية من أصول يهودية رفضت مغادرة مصر رغم الظروف السياسية المتقلبة، وذلك من خلال كتاب "وأجمل الذكريات ستأتي حتما"، الصادر حديثًا عن دار الكرمة.
داليا شمس[1]
لا تتذكر نولة الكثير من التفاصيل المتعلقة بخروج والدها المناضل اليساري، يوسف درويش،[2] من السجن قرب نهايات عام 1952 وهي في الثالثة من عمرها، لكن المشهد كما ترويه في كتابها "وأجمل الذكريات ستأتي حتما"، يمهد للعلاقة الاستثنائية التي ستربطهما حتى وفاته في 2006 وتأثيره في حياتها إلى الآن. رفضت التجاوب معه في البداية بسبب خجلها الشديد، فقد اجتمعت الأسرة، وكانت الأنظار كلها متجهة إليها. "أصرت أمي على أن يكون مكاني بينهما على طاولة الأكل التي يتدلى عليها مفرش طويل من القطيفة الغامقة. بعد قليل، أومأ أبي إلى أمي كي تنظر إلى ما يحدث تحت ظلال المفرش، فوجدت أنني التقطت يد أبي بكل هدوء من دون أن يلتفت أحد من الجالسين حول هذه الطاولة".
حضر الأب بقوة في مذكرات الابنة الناشطة النسوية السبعينية من أولها إلى آخرها. تقول في مواضع مختلفة من الكتاب إنها تعلمت منه مبادئه، وورثت عنه "جينات التدخين" و "طابع الحُسن على الذقن-ختم العائلة"، وإنها كانت تقوم ببعض المهام مثل توصيل الخطابات لرفاقه كي تكتسب أهمية خاصة في عينيه، كما كانت تلاحقها في لحظات الضعف عبارات من نوعية "بنت يوسف درويش لازم تفضل راسها مرفوعة باستمرار". تصف استمتاع أصحابها بزيارة منزلهم وحبهم لأكل أمها اللذيذ وحديث أبيها الشائق والمتنبه إلى التعرف على تطلعات الشباب والأفكار المتداولة بينهم. وتذكر أنه أوكل لأحد الشباب الجزائريين مهمة تولي تربيتها ماركسيًا، ففرض عليها هذا الأخير قراءة جميع مجلدات "رأس المال"، الذي لم تفهم منه الكثير وقتها. الظروف التي عاشتها جعلتها تكبر قبل الأوان، وعلمتها الانحياز لمن يعانون القهر والظلم والتعامل بندية وتحمل المسؤولية، مع استيعاب حقيقة أن أسر المسجونين يعانون نفسيًا وماديًا بالقدر نفسه الذي يعانيه الإنسان المحروم من الحرية. رأت والدها متورم الوجه من فرط التعذيب ويداه مليئتان بالإصابات، وعرفت معاناة الإحساس بالقلق الدائم ومشقة زيارات السجن التي تتخذ أحيانًا طابعًا مهينًا وضيق ذات اليد، بسبب غياب عائل الأسرة.
على هذا النحو، نتابع مع الأب والابنة شذرات من تاريخ اليسار المصري ودور اليهود في بداية التكوينات الحزبية الشيوعية التي جاءت كنتيجة لوجود عدد كبير من الجاليات الأجنبية بثقافاتها المتباينة وما حازته من امتيازات في مطلع القرن الماضي.[3] ويأتي الكتاب ضمن سلسلة من الأعمال التي لاقت نجاحًا كبيرًا بين القراء، فمن الملاحظ إقبال الناس منذ حقبة التسعينيات على المؤلفات التي تتناول تاريخ اليهود في المنطقة العربية بشكل معمق بعيدًا عن التنميط، بعد أن ظل مسكوتًا عنه لفترة طويلة، كما شهدنا في السنوات الأخيرة صدور مذكرات عدد من اليهود الذين عاشوا في مصر، وحملوا جنسيتها أو من الذين اضطروا للرحيل واستقروا في الخارج. نذكر من بين هذه العناوين على سبيل المثال لا الحصر "ألبير آريه-مذكرات يهودي مصري"، و"المولودة"، و"رونالد شيكوريل: مذكرات القاهرة"، الصادرة بالفرنسية، عن دار نشر سارينا.[4]
شاهدة على عصرها وزمن أبيها
نتعرف من خلال حكايات نولة درويش على بعض أصدقاء والدها، فهي لا تهوى التأطير والتنظير، بل تروي الوقائع كما شهدتها وتصف الأشخاص الذين خالطتهم بحكم قربهم من أهلها، فأمها السيدة إقبال (إستر دافيد حاسين) كانت أيضًا مناضلة يسارية من أصول يهودية ربانية،[5] وأسلمت للزواج من أبيها والاندماج في المجتمع المصري دون توجس. نظرًا لتعدد الاعتقالات، فقد كانت زيارات السجون جزءًا لا يتجزأ من روتين حياتها، نتجول معها من سجن القناطر بالقليوبية إلى المحاريق بالواحات الخارجة، مرورًا بسجن القلعة ومعتقلات أخرى، إذ خرج الأب من محبسه نهائيًا في مطلع السبعينيات، وهو يقترب من الأربعة وستين عامًا، وذهب إلى العمل كمترجم في شركة بترول بالجزائر. وكالعادة في مثل هذه الظروف يكبر الأبناء - هي وأخوها غير الشقيق مجاهد- بصحبة العديد من النساء، الخالات والعمات والجدات وصديقات العائلة اللاتي لهن باع طويل في العمل العام أو لديهن شيء مختلف كصديقة أمها المصورة، هاسيا، التي كانت أول سيدة تصور المتحف المصري بالكامل، وتنشر أعمالها في كتاب بمقدمة من المثقف الفرنسي أندريه مالرو.
نلمس تأثير المسار الذي اختاره الأبوان على كل من حولهم، فجدتها لأبيها "نونناه درويش" قالت لها مرة: "ابني يوسف أقل واحد أحبه من أولادي… عشان أبوكي أسلم وكمان شيوعي"، ولكن هذا لم يمنعها أن تجهز له كعكا بالعجوة والسكر الناعم "مشترطة أن يكون له وحده دونا عن زملائه الشيوعيين الآخرين". تطرق نولة إلى معلومات خاصة بتركيبة الحزب الشيوعي المصري الموحد الذي تشكل من أعضاء ثلاثة تنظيمات هي: حدتو (الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني)، والحزب الشيوعي المصري، وطليعة العمال والفلاحين، وأعلن عن تأسيسه في نهاية عام 1958. وتشير إلى إصرار مسؤولي الحزب على استبعاد الأعضاء من أصول يهودية من المراكز القيادية، وتستند لما ورد في مذكرات ألبير آريه السابق ذكرها، وهي تحذو حذو هذا الأخير حين تخلط الشخصي بالعام. فتشارك القارئ انطباعاتها عن البلاد التي زارتها في توقيتات بعينها، وتصف مسارات عائلة الأب والأم التي تفرق أفرادها بين الدول، وتوضح بعض العادات الخاصة بالأكل والشرب، وتغوص في بعض التفاصيل المتعلقة بالحزب الشيوعي إلى أن حُلّ عام 1965، وكأنها ترغب في ترك شهادة عن عصر ذهب وانقضى، وقد اختارت أن تتوقف بالأحداث حتى عام 2012.
لكن بالطبع هناك فرق بين جيل الآباء والأبناء، ففي أجزاء كثيرة من الكتاب، أو على الأقل النصف الأول منه يطغى حضور رفاق الوالد: المحامي نبيل الهلالي، وطبيب الغلابة فريد حداد الذي مات في السجن بسبب التعذيب مثله مثل شهدي عطية، والمفكر والكاتب أحمد صادق سعد، وريمون دويك، وكانا الأخيران مع أبيها من أصول يهودية، وأسلما من أجل مواصلة نضالهم السياسي، وأنشأوا تنظيم طليعة العمال والفلاحين، وكان ملهمهم في هذه الفكرة شيوعيا سويسري الجنسية يدعى بول جاكو.
كلمة واحدة مقابل خمسة قروش
تتوالى التفاصيل المتشعبة، وتطغى أحيانًا على وجود نولة نفسها التي تؤكد دومًا على طبيعتها الخجولة: "تعرفت خلال الدعوات التي يستضيف فيها أبواي أصدقاءهم على العديد من الشخصيات معظمهم من الشيوعيين. وفي إحدى هذه المرات، كنت كالعادة جالسة صامتة طوال الوقت؛ بسبب الخوف من النطق بكلام يبدو تافها للحاضرين، وجه لي الشاعر والمناضل الشيوعي الفلسطيني معين بسيسو عرضا بأنني لو نطقت بكلمة واحدة فسيعطيني شلنا أي خمسة قروش"، وفي مرات أخرى تكرر جملة "وجدت نفسي في حزب كذا أو تنظيم كذا"، وكلها بالطبع مجموعات يسارية، حتى اتخذت عام 1988 قرارا بترك جميع التنظيمات السياسية.
انخرطت الفتاة في العمل العام دون أن تدري. وهي التي كانت تحلم أن تكون راقصة باليه، وتنضم إلى فرقة البولشوي الروسية ولم تستطع ذلك بسبب إصابتها بشلل الأطفال في مرحلة مبكرة من عمرها تجاوزته بمساعدة الأهل. ظلت نولة لسنوات تقوم بمهام تنظيمية "تافهة" على حد تعبيرها، أقرب إلى أعمال السكرتارية، لكنها كانت دائما حاضرة في الدوائر النضالية بعد حصولها على الليسانس في الآداب الفرنسية والتربية وتدريبها على استخدام الوسائط السمعية والبصرية في تعليم اللغة والتعبير عن النفس. تنقلت بين وظائف وعلاقات مؤقتة، تحدثت عنها بصراحة في الكتاب، فحكت عن قصة حبها مع أوسكار، أحد المناضلين الأفارقة الذين اختلطت بهم في الجزائر:" كانت من أنقى وأصدق الذكريات التي قابلتني طوال حياتي مع أي رجل عرفته قبله أو بعده، فنادرًا ما يفصح رجل عن مشاعره بهذه التلقائية والنقاء من دون خجل أو مواربة. اضطررنا إلى الابتعاد عن بعض، هو إلى نضاله لتحرير بلده، وأنا بالعودة إلى مصر بعد انتهاء تعاقدي في الجزائر، وهكذا انتهت أجمل قصة حب عشتها على الإطلاق".
ربيع الطلاب في فرنسا
مشوار طويل قطعته الطفلة الخجولة التي تنمرت عليها إحدى زميلاتها في المدرسة، وأطلقت عليها "نولة فراولة" لاحمرار وجهها، فردت عليها لتأخذ بثأرها، بناء على نصيحة أمها: "روحية ملوخية"! قرأت وهي في الثانية عشر معظم كتابات المفكرين الوجوديين مثل جان بول سارتر وألبير كامو حتى لو لم تدرك كل ما ورد فيها، وكان أكثر ما تأثرت به هو "مذكرات فتاة مهذبة" لسيمون دي بوفوار. ثم شاركت في مسيرة نسوية، بصحبة والدتها، ضمن حملة تبنتها سيزا نبراوي، للدفاع عن المناضلة الجزائرية جميلة بوحيرد بعد أن صدر بحقها حكم بالإعدام عام 1957. "رأيت فيها للمرة الأولى الفنانة إنجي أفلاطون… لكن سرعان ما حاصرتنا قوات الأمن ... تلك هي المظاهرة الأولى التي شاركت فيها، وكان هذا هو التدشين الأول لاندراجي في العمل العام". بعدها بسنوات نزلت إلى الشارع ضمن جماهير غفيرة رفضت تنحي جمال عبد الناصر في أعقاب هزيمة 1967، مأخوذة بالكاريزما الطاغية لمن تسبب في حبس أبيها: "ربما أيضا لأنني كنت أفتقد كثيرا من الوعي السياسي، وانجرفت وراء المشاعر"، وعند وفاته ارتدت ملابس الحداد لمدة شهر كامل.
وفي صيف العام التالي للنكسة، كانت أولى رحلاتها الخارجية. توجهت إلى باريس لزيارة بعض أفراد الأسرة، واصطحبها بول جاكو، الأب الروحي لوالدها، إلى الحي اللاتيني وجامعة السوربون لكي ترى بقايا آثار هَبة الطلاب الفرنسيين في مايو 1968 للمطالبة بمزيد من الحريات والعدالة الاجتماعية. شكلت هذه الزيارة منعطفا مهمًا في مسيرتها وتكوينها المستقبلي، فحين تتكلم نولة عن المرأة وحقوقها أو عن قصص الحب والحريات، يترسخ لدينا انطباع أننا أمام إحدى بنات هذا الجيل الذي تمرد وخرج بمظاهرات في السوربون، لها الانتماءات نفسها وما زالت تدافع عنها، والتحاقها فيما بعد بمركز دراسات "المرأة الجديدة" الذي شاركت في تأسيسه في نهاية الثمانينيات ومطلع التسعينيات سمح لها بالتحرك على أرض الواقع لتطبيق بعض هذه القناعات، بعيدًا عن "رغي اجتماعات" الأحزاب.
المرأة الجديدة
عملت نولة مع صديقات مثل آمال عبد الهادي وعايدة سيف الدولة وأخريات أصغر سنا مثل شيرين أبو النجا وراجية عمران (ابنتها الروحية) وهند ونادية واصف لإحداث تغيير في أوضاع النساء. حاولن الاشتباك مع أبعاد العنف الجسدي والجنسي والنفسي الذي تتعرض له الإناث، وحاربن الختان على سبيل المثال، مما عرضهن لهجوم شديد واتهامات بتطبيق أجندات أجنبية. وكانت ضمن مهامها التواصل مع أكثر من 350 منظمة مصرية غير حكومية وإعداد قاعدة بيانات لها، إضافة إلى السفر إلى بعض المحافظات التي لم يسبق لها زيارتها والاحتكاك المباشر بأحوال المصريات. كانت تسافر شرقا وغربا، وترجع إلى شقتهم في شارع يوسف الجندي بوسط القاهرة حيث أمضت خمسة وأربعين عامًا من حياتها، حتى اضُطرت إلى تركها بعد وفاة والدها. كان قلبها يتحطم كل مرة تشاهد فيها المعارك الضارية التي دارت في شارع طفولتها أثناء وبعد ثورة يناير 2011 التي شاركت فيها بالطبع مع ابنتها (الممثلة بسمة). "أول من توضع أحواله جانبا بعد الثورات هن النساء بحجة أن جميع الأمور سوف تُصلح بعد انتصار الثورة، والتاريخ يقول إن هذا الزعم ليس صحيحًا، وإن نيل حقوق النساء يحتاج إلى جهود من نوع مختلف ليس الآن مجال الخوض فيها بتعمق". كالعادة تتسرب سيرة الأب إلى أحاديثها الهاتفية مع أخيها المقيم في سويسرا، فهو الحاضر الغائب أبدا، يتخيل الأخ لو كان والدهما قد عاصر الثورة ونزل إلى الميدان، ولو على كرسي متحرك، وتقول هي الآن إن من حسن حظه أنه لم يكن بيننا في ذلك الوقت.