تقدم زهراء علي في كتابها "النساء والجندر في العراق: بين بناء الأمة والتفتت"،[1] الصادر باللغة الإنكليزية عن جامعة كامبريدج، دراسة للنوع الاجتماعي في العراق من منظور يتحدى سرديات المستعمِر والمنظومة الأبوية، ويسعى للتركيز على إمكانيات النساء.
مايا البوطي[2]
تتمحور الاهتمامات البحثية لأستاذة علم الاجتماع في جامعة رتجرز، زهراء علي، حول النسوية في العراق وقضايا الجندر والحركات الاجتماعية والسياسية المتعلقة بالإسلام والشرق الأوسط في سياقات الحرب والصراع. يُعدّ كتابها "النساء والجندر في العراق"، سرداً تاريخياً من منظور نسوي عن العراق الحديث يعتمد على منهجية إثنوغرافية، تقوم على إجراء مقابلات ودراسات ميدانية ولقاءات مع ناشطات نسويات عراقيات من خلفيات عرقية وفكرية متنوعة. تهدف الدراسة إلى تتبع تغيرات وتطور الحياة اليومية والحياة الفكرية مع تبدل الأنظمة الحاكمة، وذلك من خلال تقديم قصص الناشطات بترتيب زمني يتتبع الأحداث السياسية المتعاقبة. كما ترصد السياق في العراق في ظل الاحتلال الأمريكي، مع التركيز على ما أوردته المقدمة من صعوبات ناتجة عن الحواجز والتفجيرات والعنف الواقع بسبب هذا الاحتلال وممارساته. أي أن البحث يركز على دراسات ما بعد الاستعمار، وعلى الدراسات النسوية التي تقرأ واقع النساء من منطلق تقاطعي يراعي بنى التمييز والعنف المختلفة.
رفض التبسيط والتعمق في السياقات
تضع هذه الدراسة في الحسبان وضع النساء بين ثنائية الأمة والدولة، المبنية على خلفيات استعمارية وما بعد استعمارية، مع وعيٍ تامٍ بسياقات الإسلام والحداثة والعلمانية. كما تبين خصوصية الحكومة العراقية القائمة ضمن توافقات طائفية وصلات قربى وغيرها من العلاقات، وذلك لتجنب التبسيط المعتاد الوارد في بعض الدراسات الغربية التي تتعامل مع العراق ككتلة واحدة.
تعدّ المواطنة وكيف تعيشها النساء بطريقة مختلفة عن الرجال جزءًا من عدسة البحث، إذ تنطلق الدراسة من قراءة قانون الأحوال المدنية في العراق ضمن تاريخه الطويل وكيفية وضعه خلال وبعد الاستعمار. علاوة على هذا، تركز على فترة الخمسينات وخاصة عام 1959، وكيف شاركت النسويات اليساريات المناهضات للاستعمار في صياغة قانون الأحوال المدنية، وبالتالي ساهمن بجعله القانون الأكثر تقدمية في تاريخ العراق. كما تتابع التغيرات التي طرأت عليه مع تعاقب الحكومات، وخاصة مع وجود تعديلات أضيفت لتناسب التقسيم الطائفي وانعكاسات هذا على النساء.
نسويات عضويات ونسوية سياقية
إضافة إلى ما ورد من بحثٍ في تاريخ العراق وتعقيداته، تتعمق الدراسة في تفسير العلاقة بين الناشطات النسويات وبين واقعهن المركب. كما تسلط الضوء على النسوية العضوية التي ترتبط بالعراق وسياقه، وتتجنب النظر إلى النسوية المستوردة. مع العلم بكون النسوية في العراق جاءت في سياق ما بعد استعماري، ولم تأت كرد فعل مبسط، بل كرؤية شاملة للسياق المحلي، مع تعمق بأفكار الحداثة والتقليد.
تقدم الدراسة مجموعة من المحددات التي تستهدف من خلالها الناشطات، والتي تعتمد عليها لتعرّف النسوية. من هذا المنطلق، تأتي الإشارة إلى منظور ليلى أبو لغد، التي ترفض التعاطي مع النسويات في منطقة الشرق الأوسط كمجرد مستهلكات للفكر الغربي، دون وعي بجهودهن لملاءمة الفكر النسوي بمدارسه المتعددة مع السياق المحلي وتاريخ المنطقة.[3] بالإضافة إلى ذلك، تعتمد على تحليل هشام شرابي للمنظومة الاجتماعية والثقافية المهيمنة في الشرق الأوسط، والتي يعرّفها بـ"الأبوية الجديدة". يوضح شرابي تداخل الحداثة مع التقليد في المنطقة العربية، بحيث يمتلك الفرد إيمانًا بالأمة والدولة والقانون، وفي ذات الوقت بالقبيلة والتقليد والعائلة والعرف والتي يشكل مزيجها نوعًا من الضبابية في القيم والرؤية. بالتالي يعاني الفرد حالة من الصراع والتشتت والتي تعكس وجود مجتمعات غير مكتملة تمتد فيها الأسرة لتسيطر كحاضنة اجتماعية أبوية.
ضمن هذه التعاريف التي تحدد السياق، تنطلق علي من العشرينيات إلى الخمسينيات بمنظور نسوي لتبين أحوال النساء بحسب سردياتهن. كما تتابع البحث بتخصيص قسم لفترة حكم البعث في العراق. هنا يأتي السؤال، "ماذا يعني أن نكون نسويات ضمن فترة تاريخية حكمها البعث"، والتي رغم الاستقرار فيها والتقدم في البنية التحتية وخاصة تطور القطاع التعليمي، إلا أن التمثيل النسوي لم يكن ممكناً خارج المؤسسات الرسمية. كما تتقصى بنية العنف للنظام الديكتاتوري ضمن هذه الفترة، وكيف عمل نظام البعث على تعميق البعد الطائفي والعرقي في مؤسسات الدولة وما له من أبعاد جندرية. يحملها هذا أيضاً، للبحث في سرديات الناشطات النسويات الكرديات التي أبعدن في تلك الفترة عن العراق.
النشاط النسوي وعمل المنظمات غير الحكومية
تدرس علي استراتيجيات الناشطات النسويات في السعي لتجاوز البنية العنيفة التي تؤثر في جميع نواحي الحياة اليومية. وتنتقل إلى العام 2000، والذي تعده كعلامة فارقة في الحراك النسوي المتأثر بصعود الأسلمة والنيوليبرالية والخصخصة والخطاب الوطني. كما تشير، مستندة لعدد من الأبحاث، إلى عمل المنظمات غير الحكومية الدولية في العراق، كنوع من النشاط النسوي المجرد من بعده السياسي والذي يتصف بطبيعة عابرة للقوميات ومتفق مع السياسات الأمريكية وسياسات الأمم المتحدة. تستقصي الدراسة رؤية بعض الأبحاث، حول عمل المنظمات غير الحكومية، والتي تأتي بعضها كواجهة لتحسين ظروف النساء. ورغم ما تقدمه من جهود، فإنها تأتي على خلفية الحروب التي تقودها دول مثل الولايات المتحدة الأمريكية والتي تتسبب بتردي الظروف الإنسانية في المقام الأول.
على ضوء ما سبق، ومن خلال المقابلات التي أجريت، تطرح علي الخيارات المختلفة التي تتبع على المستوى المنظمات النسوية والعاملات بها. إضافة إلى الخيارات الاستراتيجية التي تتبعها النسويات فيما يتعلق بأنواع السلطات التي يخترن التعاون معها، في حين تسعى أخريات لتحقيق تغيير ثوري جذري في المنظومة برفض التعامل مع بعضها.
كتاب بقلم نسوي
يعد كتاب "النساء والجندر في العراق: بين بناء الأمة والتفتت" مرجعًا غنيًا يعكس أصوات النساء في العراق ويُظهر فاعليتهن وجهودهن في التنمية وتحقيق العدالة الاجتماعية. كما يساهم في التأكيد على دور الناشطات النسويات في صناعة تاريخ العراق الحديث، ويكشف سياقات الاضطهاد المتعددة وتظافرها ضمن المنظومة التي تسعى للحد من نشاطهن وتغييبهن. تعد زهراء علي باحثة ذات رؤية عميقة، كما تبين من خلال نشاطها المجتمعي وأبحاثها مدى انشغالها وسعيها لتحسين ظروف النساء ودعم حراكهن الهادف للتغيير.