يُعدّ "فهم الدولة العربية"، عملًا مرجعيًا يتناول تعقيدات تشكّل الدولة، والحكم، والديناميات السياسية في العالم العربي. ويضمّ الكتاب مجموعة غنيّة من إسهامات باحثين بارزين في دراسات الشرق الأوسط، ويقدّم تحليلاً شاملاً، متعدّد الأبعاد، وعابرًا للتخصّصات، للتحدّيات التاريخية والمعاصرة التي تواجه الدول العربية، متجاوزًا بذلك الأطر الغربية التقليدية، ومركزًا على قضايا الشرعية، والاستبداد، والحوكمة، والفاعلين المجتمعيين والخارجيين. وبما يتضمّنه من رؤى دقيقة ومعالجات عميقة، يشكّل هذا المؤلَّف مصدرًا أساسيًا للباحثين، وصنّاع السياسات، وكل من يسعى إلى فهم ديناميات المشهد السياسي في المنطقة.
أحمد بلال القطّي[1]
على مدار العقود الماضية، شكّلت الدولة في المنطقة العربية محورًا لعدد من الأعمال الفكرية الرائدة التي سعت إلى فكّ تعقيداتها ورصد أبعادها المختلفة، على غرار مؤلّف نزيه الأيوبي[2] "تضخيم الدولة العربية: السياسة والمجتمع في الشرق الأوسط"،[3] الذي قدّم قراءة نقدية لفهم الدولة بوصفها جهازًا قمعيًا ضخمًا يفتقر إلى الشرعية والقدرة على تلبية تطلّعات مجتمعاته. بالإضافة إلى أطروحات محمد عابد الجابري[4]، التي فتحت آفاقًا جديدة لفهم البنية التحتية لعلاقة المجتمعات العربية بالسياسة وما يرتبط بها من مفاهيم الرياسة ونُظم الحكم العربية، لا سيّما في سياقاتها التاريخية المؤسّسة.
ورغم هذه الإسهامات المهمّة، لا تزال عملية التنظير حول الدولة في العالم العربي تُواجه تحدّيات كبيرة، إذ تتسم الدولة في هذه المنطقة، وفي الجنوب العالمي عمومًا، بتعقيدات لا يمكن حصرها ضمن القوالب التقليدية أو التصنيفات الجاهزة المستخدمة في دراسة الدول الغربية. لهذا، فإن الجهود المبذولة لفهم الدولة العربية وتفسير تحوّلاتها ما زالت بحاجة إلى مزيد من العمل من قِبل الباحثين في دراسات الشرق الأوسط والجنوب العالمي.
في هذا السياق، تستعرض هذه المراجعة أحد الإصدارات الحديثة التّي تناولت الدولة في السياق العربي، وهو كتاب "فهم الدولة العربية"،[5] الصادر عام 2024، بتحرير ستيفن هايدمان ومارك لينش، والذي يُعدّ إضافة نوعية إلى هذا النقاش. إذ يُقدّم الكتاب مقاربات متعددة تسعى إلى تجاوز القراءات النمطية، معتمدًا على أدوات نظرية وتحليلية جديدة تُسهم في تعميق فهمنا للدولة العربية، لا بوصفها كيانًا سياسيًا فحسب، بل كمنظومة معقّدة تتشكّل عند تقاطع السلطة والمجتمع والتاريخ.
يجمع الكتاب بين رؤى متعدّدة تُعيد فتح النقاشات المؤسّسة حول الدولة، بينما تتفاعل مع تطوّرات معاصرة، مثل التقدم التكنولوجي في إدارة الحكم، واستمرار أنظمة الحكم السلطوية، والتشابك المعقّد بين الدولة والمجتمع. ومن خلال هذه الإسهامات، يُبرز الكتاب أهمّية الدولة العربية بوصفها موضوعًا مركزيًا للبحث الأكاديمي، وفاعلًا محوريًا في التحوّلات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي يشهدها الجنوب العالمي والعالم بأسره. تهدف هذه المراجعة إلى استكشاف الأفكار الرئيسية التي يقدّمها الكتاب، مع وضعها في سياق أوسع للنقاشات الدائرة حول طبيعة الدولة العربية ومسارات تطوّرها.
يقدم العمل استكشافًا شاملاً للطبيعة متعدّدة الأبعاد للدولة العربية، متناولاً الأبعاد التاريخية، السياسية، الاقتصادية، والاجتماعية. ويتضمّن إسهامات لثلّة من الباحثين متعدّدي الاختصاصات، تتميّز بالبحث الدقيق، وتقدّم رؤى نظرية وتجريبية تأخذ في الاعتبار وجهات نظر وتفسيرات متنوعة، ممّا يجعل الكتاب مصدرًا قيّمًا للباحثين والطلاّب في دراسات الشرق الأوسط والعلوم السياسية.
جاء الكتاب في ثلاثة أقسام وعشرة فصول تناولت موضوعات مختلفة، يتناول كلّ منها جانبًا مهمًا من جوانب الدولة العربية. تستكشف الفصول الأولى من القسم الأوّل العناصر الأساسية التي تُعرّف مفهوم الدولة في السياق العربي، بما في ذلك التطوّر التاريخي لهياكل الدولة وتفاوت قدراتها عبر المنطقة. تُحلّل الفصول اللاحقة التفاعلات بين مؤسّسات الدولة والفاعلين المجتمعيين، وتدرس كيفية تأثير هذه العلاقات على الحوكمة، الشرعية، والتماسك الاجتماعي. كما يتعمّق الكتاب في تحليل أشكال المقاومة والمعارضة التي تتحدّى سلطة الدولة، مسلّطًا الضوء على دور المجتمع المدني، الحركات الاجتماعية، والجهات غير الحكومية. أما القسم الأخير، فيُقيّم تأثير العوامل الخارجية على الدول العربية، بما في ذلك التدخّلات الأجنبية، الصراعات الإقليمية، والعولمة.
تتضمّن المواضيع الرئيسية التي يتناولها الكتاب: تشكيل الدولة والشرعية، الاستبداد والحوكمة، الهياكل الاقتصادية والتنمية، سياسات الهوّية والطائفية، علاقات الدولة والمجتمع، وتأثير الفاعلين الخارجيين. يقدّم المساهمون تحليلات معمّقة للعمليات التاريخية التي رافقت تشكيل الدولة في العالم العربي، مع التركيز على الإرث الاستعماري والتطوّرات في السياق ما بعد الاستعماري التي لا تزال تؤثر في شرعية الدولة. تفحص بعض الفصول استمرارية الأنظمة الاستبدادية، وتتضمّن مناقشات حول آليات السيطرة مثل شبكات المحسوبية، الزبونية/ الزبائنية، الأجهزة الأمنية، والتلاعب بالمؤسسات السياسية. وتتناول بعض مساهمات الباحثين في هذا الكتاب تحليلات مستفيضة للأسس الاقتصادية التي تنهض عليها الدولة في المنطقة العربية، عبر نقاشات حول الاقتصادات الريعية، تأثير الثروة النفطية، والتحدّيات الاجتماعية والاقتصادية التي تؤثّر في استقرار الدولة. كما تتطرق بعض الأطروحات إلى دور الهوّية والانقسامات الطائفية، مع تسليط الضوء على كيفية استغلال الأنظمة لهذه العوامل للحفاظ على السلطة وقمع المعارضة.
الدولة المتخيّلة: إشكاليات بناء الدولة الحديثة في العالم العربي
إنّ مفهوم الدولة الحديثة في منطقتنا، كما في مثيلاته في الجنوب العالمي، لا يخلو من شيء من التعقيد والتركيب، فهي وإن نشأت في المرحلة الاستعمارية وفي سياق تاريخي يفصل بين حربين عالميتين، إلاّ أنّها تستند إلى تقاليد تراثية وعمليّات إعادة إنتاج وإعادة هيكلة معقّدة لبنى سياسية تاريخية، وعناصر رمزية تجعلها مادّة خصبة للدرس والبحث.
الدولة في نموذجها المثالي هي نتاج التجربة الأوروبية، التي شكّلت عبر قرون نموذجًا استقرّ على هياكل قانونية وبيروقراطية تُعبّر عن الكيان السيادي للدولة. فمفهوم الدولة كما نعرفه اليوم نشأ تدريجيًا في أوروبا، وارتبط ببناء سلطات مركزية تحتكر العنف، وتنظّم المجتمع وفق قوانين محكمة. وعلى الرغم من أنّ هذا النموذج انتشر عالميًا، إلا أنّه ظلّ في جوهره انعكاسًا لتجربة تاريخية أوروبية، ممّا يجعله غير منسجم تمامًا مع السياقات المحليّة في دول الجنوب، حيث تبقى الدولة كيانًا متخيّلًا أكثر منه واقعًا ملموسًا، في نظر العديد من المجتمعات التي لم تشهد نفس التحوّلات السياسية والاجتماعية التي شهدتها أوروبا.
لقد كان استيراد مفهوم الدولة الحديثة في دول الجنوب العالمي، ومنها الدول العربية، جزءًا من مشروع استعماري أوسع، فرض نموذجًا أوروبيًا للدولة السيادية، لم يكن نابعًا من السياقات المحلية، ولا متوافقًا مع البنى الاجتماعية والسياسية التي سبقت الاستعمار. فكما يشير غسّان سلامة[6]، فإنّ الدولة في صورتها المثالية هي إنتاج أوروبي بامتياز، جرى تصديره إلى العالم عبر التوسّع الاستعماري، مما أدّى إلى ظهور دول وطنية في منطقتنا لا تملك جذورًا اجتماعية وسياسية متينة. هذه الدولة المفروضة أوجدت علاقة إشكالية بين السلطة والمجتمع، إذ أصبحت الدولة كيانًا خارجيًا، منفصلًا عن الهوّيات المحلية والتطلّعات الشعبية، ممّا أدى إلى تشكّل فجوة بين الدولة ومواطنيها. وقد أفرز هذا الانفصال سلوكيات تتراوح بين الريبة في الدولة والعطش إليها، إذ تُعدّ الدولة في نظر المجتمع مصدرًا للسلطة والقمع، وفي الوقت نفسه يُنتظر منها تقديم الحماية والخدمات.
أوجد هذا الوضع ديناميات معقّدة في العلاقة بين الدولة والمجتمع. ففي كثير من الأحيان، تقتصر مظاهر حضور الدولة على أدوات القمع والإكراه، مثل الشرطة والجيش، بينما تغيب عن أداء وظائفها الأساسية في توفير الخدمات التي تعزّز الثقة بها، وهو ما يسمّيه بعض المفكرين بـ "السياسات التعويضية"، حيث يعتمد الأفراد على الدعم الحكومي للحصول على السلع الأساسية مثل الخبز، فتتحوّل هذه السلع إلى أدوات تُعمّق التبعية دون تعزيز مفهوم الدولة بوصفها كيانًا جامعًا. في مثل هذه السياقات، يظهر نوع من التناقض في سلوك الأفراد، إذ يسعون إلى استغلال حضور الدولة لتحقيق مصالحهم اليومية، لكنّهم ينظرون إليها في الوقت نفسه بمثابة قوّة خارجة عنهم ولا تمثّلهم. ويعكس هذا التناقض طبيعة الدولة في منطقتنا، حيث يكون حضورها قسريًا في بعض الأحيان، وشبه غائب في أحيان أخرى، ممّا يعقّد عملية بناء الثقة والشرعية بين الدولة والمجتمع.
الدولة العربية: أولوية بقاء النظام
يطرح الكتاب حُجّة رئيسية مفادها أنّ بقاء الأنظمة، لا بناء مؤسّسات دولة قويّة، كان الشاغل الأول للحكّام العرب. ويُتناول هذا الموضوع في عدد من الفصول، من بينها فصل ستيفن هايدمان المعنون بـ"رؤية الدولة: أو لماذا تبدو الدول العربية على ما هي عليه؟"، وخاتمة دان سلايتر بعنوان: "شبح الطيف: الهروب من الفئة المتبقية من الدول الضعيفة". يجادل الكاتبان بأنّ الأنظمة العربية لطالما فضّلت البقاء في السلطة على حساب تطوير القدرات المؤسّساتية. ونتيجة لذلك، تتّسم العديد من الدول العربية بما يسمّيه هايدمان بــ"الدولة غير المتوازنة"، حيث تكون بعض القدرات، مثل القسر والمراقبة، متطوّرة بشكل كبير، بينما تُهمَل قدرات أخرى، مثل تقديم الخدمات والمساءلة العامة.
يساعد مفهوم "بقاء النظام" في تفسير استمرارية السلطوية في العالم العربي، حتّى في مواجهة الاحتجاجات الشعبية والمطالبة بالإصلاح. وفي هذا السياق، يستعرض الكتاب نقاشات أوسع حول استمرارية الأنظمة السلطوية وآليات سيطرتها. وتتجلّى عمليّة تفضيل أمن النظام على جهود بناء الدولة في بلدان مثل سوريا، حيث ركّز نظام بشار الأسد على تعزيز السلطة عبر القوّة العسكرية، وتوسيع قدرات أجهزة المخابرات، والتعويل على الدعم الخارجي في إطار سياسة التحالفات الطائفية، بدلاً من معالجة الأسباب الجذرية للصراع.
في السياق ذاته، ينتقل الفصل الذي كتبه مارك لينش، بعنوان "الوضوح، المراقبة الرقمية، والدولة في الشرق الأوسط"، إلى التركيز على الأدوات الحديثة التي تستخدمها الدول العربية لفرض السيطرة على شعوبها. يجادل لينش بأنّ التقدّم في تقنيات المراقبة الرقمية قد عزّز بشكل كبير ما يسمّيه "وضوح الدول العربية"[7]، أي قدرتها على مراقبة مجتمعاتها والتحكّم بها. مستندًا إلى مفهوم الوضوح لدى الدولة كما صاغه جيمس سي. سكوت، يوضّح لينش كيف أصبحت تكنولوجيا المراقبة الرقمية عنصرًا محوريًا في استراتيجيات الأنظمة السلطوية. وقد مكّن تطوير هذه الأدوات، لا سيّما بعد الربيع العربي، الأنظمة من التكيّف مع التحديات الجديدة بل وتعزيز قبضتها على السلطة.
تتجلّى الأهمية المتزايدة للمراقبة الرقمية في الأحداث الأخيرة التي شهدتها بلدان مثل مصر والمملكة العربية السعودية، حيث استخدمت الأنظمة تكنولوجيا متقدّمة لقمع المعارضة. ففي مصر، نفّذت الحكومة مراقبة واسعة لمنصّات التواصل الاجتماعي بهدف تتبّع المعارضين واعتقالهم، بينما استخدمت السعودية برامج تجسّس ضدّ منتقديها وناشطين في مجال حقوق الإنسان، سواء داخل البلاد أو خارجها. ويطرح الفصل تساؤلات مهمّة حول مستقبل الحوكمة في العالم العربي، خاصّة مع استمرار الأنظمة السلطوية في الاستثمار في هذه التقنيات بوصفها وسيلة للتحكّم بالشعوب وتعزيز قبضتها الأمنية.
إدارة الدولة في العالم العربي
يقدّم فصل ليزا أندرسون، "إدارة الدولة: الدولة وأنماط السياسة المتغيّرة في العالم العربي"، تحليلاً سياسيًا-اقتصاديًا لكيفية إدارة الأنظمة العربية للموارد من أجل الحفاظ على السلطة. تُجادل أندرسون بأنّ العديد من الأنظمة في العالم العربي تشتغل عل شكل بنى اقتصادية تجارية؛ إذ تقدّم من خلال ميكانيزمات معيّنة مصالح اقتصادية لفئات معيّنة، بغرض إثراء النخبة الحاكمة. ويتجلّى هذا النهج في الحكم بوضوح في دول الخليج الغنيّة بالنفط، حيث استخدمت الأسر الحاكمة عائدات النفط للحفاظ على الاستقرار السياسي عبر المحسوبية والعلاقات الزبائنية.
تُعدّ رؤى هذا الفصل مهمّة لفهم التطوّرات الأخيرة في الخليج، خاصة في دول مثل السعودية والإمارات، حيث نفّذت القيادة السياسية هناك إصلاحات اقتصادية كبرى. وتُقدّم هذه الإصلاحات، مثل رؤية السعودية 2030، بوصفها جهودًا لتحديث الدولة وتنويع الاقتصاد، غير أنّها تسهم أيضًا في تعزيز سلطة النخبة الحاكمة. تشير أندرسون إلى أنّ هذه الإصلاحات، على الرغم من إمكانية إسهامها في تحقيق نموّ اقتصادي، فمن غير المرجّح أن تفضي إلى تحرير سياسي كبير أو إلى قيام حكم ديمقراطي.
حوكمة الموارد: صراع الدولة المركزية والمجتمعات المحلّية في السياقات القبلية
يركّز فصل شون يوم، "المياه، الدولة، والقبلية في الأردن"، على دور الموارد الطبيعية في تشكيل علاقات الدولة مع المجتمع. يجادل شون بأنّ جهود الدولة الأردنية لفرض السيطرة على موارد المياه قد أدّت إلى مقاومة شديدة من القبائل المحلّية، التي تنظر إلى تدخّل الدولة باعتباره انتهاكاً لحقوقها التقليدية. ويعكس هذا الصراع حول الموارد حدود سلطة الدولة في المناطق الريفية، والنزاع المستمر بينها وبين الفاعلين القبليين.
يمكن تطبيق رؤى هذا الفصل على سياقات أخرى في العالم العربي، حيث نشأت نزاعات مشابهة حول الموارد. فعلى سبيل المثال، في جنوب العراق، تصادمت الجماعات القبلية مع الحكومة المركزية بشأن السيطرة على موارد المياه والأراضي، ممّا أدّى إلى تصاعد التوتّرات واستمرار الصراع. يُبرز هذا التحليل أهمّية فهم كيفية تشكّل الصراعات حول الموارد، وتفاعلها مع التكوين الاجتماعي والسياسي المحلي، مما يساهم في رسم حدود النفوذ والتأثير بين الدولة والمجتمع في المناطق ذات البنية القبلية المتجذّرة.
سياسة القصور والحكم الوراثي
يقدّم فصل ديبالي موخوبادياي حول سياسة القصور في أفغانستان بعنوان "سياسة القصور باعتبارها نظامًا هشًّا: ضعف الدولة في أفغانستان" منظورًا مقارنًا لدور التفاوض بين النخب والمحسوبية في عملية بناء الدولة. ورغم تركيز هذا الفصل على الحالة الأفغانية، فإن تحليله يتقاطع مع ديناميات العديد من الأنظمة العربية، خاصّة تلك التّي تتّسم بالحكم الوراثي. تجادل موخوبادياي بأنّ بقاء الدول الضعيفة غالبًا ما يعتمد على قدرة النخب الحاكمة على إدارة الانقسامات وبناء التحالفات. وينطبق هذا بشكل خاص على الملكيات، مثل السعودية، حيث حافظت الأسرة الحاكمة على الاستقرار من خلال توازن دقيق للقوى داخل البلاط الملكي.
يمكن ملاحظة أهمية تحليل موخوبادياي في الأحداث الأخيرة في السعودية، حيث قام وليّ العهد محمد بن سلمان بعدد من الخطوات الجريئة لترسيخ سلطته داخل الأسرة الحاكمة، من بينها تهميش المنافسين المحتملين، ومركزة صناعة القرار في دائرته المقرّبة. ورغم أنّ هذه التحرّكات قد عزّزت قبضته على السلطة، إلا أنهّا أثارت أيضًا تساؤلات حول استقرار المملكة على المدى البعيد، لا سيّما في ظل التحدّيات الاقتصادية أو السياسية المحتملة. ويُظهر هذا السياق كيف أن مستقبل الدولة قد بات مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا بمستقبل النظام، إذ تغدو استمرارية الدولة مستحيلة في غياب النظام القائم.
تحدّي الدولة: المقاومة والتجزئة
يستعرض فصل جيليان شفيدلر، "قدرات الدولة والصراع: رؤية من الأردن"، كيف أثّرت الاحتجاجات الشعبية و"حركات المقاومة" في تطوّر قدرات الدولة. ترى شفيدلر أنّ الموجة الاحتجاجية التّي شهدتها عدّة دول عربية في أعقاب أحداث الربيع العربي، بما في ذلك الأردن، أجبرت الأنظمة على التكيّف والتطوّر استجابةً لمطالب الشارع. وتعدّ قدرة الدولة الأردنية على إدارة الاحتجاجات والحفاظ على الاستقرار عاملاً رئيسيًا في بقائها، على الرغم من الاستياء الواسع من الأوضاع الاقتصادية ومستويات الحوكمة. ويكتسب هذا التحليل أهمّية خاصة في ظلّ الاحتجاجات الأخيرة في الأردن على خلفية إجراءات التقشّف والإصلاحات السياسية[8]. وتعكس قدرة الحكومة على احتواء هذه التحركات دون اللجوء إلى قمع مفرط توجّهًا أوسع في المنطقة، إذ تسعى الدول إلى تحقيق توازن بين المطالب الشعبية بالإصلاح وضرورة الحفاظ على استقرار النظام. ويُبرز هذا الفصل أهمية فهم كيفية تفاعل "حركات المقاومة" مع المؤسّسات الحكومية، ممّا يشكل مسار تطوّر الدولة على مرّ الزمن.
جذور الهشاشة: تفكيك أسباب ضعف الدولة العربية
يستعرض الفصل الذي كتبه ريموند هينيبوش، والمعنون بـ "فهم ضعف الدولة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا"، الأسباب التاريخية والبنيوية الكامنة وراء هشاشة العديد من الدول العربية. ويحدّد هينيبوش مجموعة من العوامل التي أسهمت في هذا الضعف المزمن، بدءًا من إرث الاستعمار، مرورًا بالطبيعة الريعية لاقتصادات عدّة في المنطقة، والتي أسهمت في تراجع القوّة المؤسّساتية للدول العربية. ويُبرز هينيبوش كيف أنّ الاعتماد على الريع الخارجي، ولا سيّما النفط، قد قوّض في كثير من الأحيان تطوّر مؤسّسات الدولة القوّية، وجعل هذه الدول أكثر عرضة للأزمات الاقتصادية والسياسية. ويستشهد، على سبيل المثال، بأزمة النفط في الثمانينيات والإصلاحات النيوليبرالية اللاحقة التي فرضتها المؤسسات المالية الدولية[9]، والتي أدّت إلى مزيد من تآكل قدرة الدولة، وزيادة التفاوتات الاجتماعية.
تكتسب هذه الدراسة أهمّية خاصّة في ضوء الأزمات المستمرّة في دول مثل لبنان وسوريا واليمن، حيث أدّى انهيار مؤسّسات الدولة إلى انتشار العنف، وانهيار الاقتصاد، وظهور فاعلين غير حكوميين. يوفّر تحليل ضعف الدولة وجذور الهشاشة التاريخية رؤى قيّمة لفهم أسباب تعثّر بعض الدول العربية في الحفاظ على السيطرة، في ظلّ الانتفاضات الشعبية والنزاعات الأهلية.
خاتمة
يقدّم الكتاب تحليلًا معمّقًا لديناميكيات الدولة في العالم العربي، منتقدًا التصنيفات الكلاسيكية التّي تُفرط في التبسيط، والتّي تكتفي بحصر الدول في ثنائية "القوّة" أو "الضعف"، كاشفًا عن طيف أكثر تعقيدًا لقدرات الحكم. يتمحور النقاش حول مفارقة صمود الأنظمة السلطوية، حيث تُظهر بعض الدول، التي تُصنّف عادة على أنّها "ضعيفة"، قدرة لافتة على الحفاظ على النظام. ومن المواضيع الأساسية التي يتناولها الكتاب التمييز بين الدولة والنظام، موضحًا كيف أنّ الأنظمة، بدافع البقاء وتعزيز السلطة، تشكّل وتؤسّس قدرات الدولة حول النظام بشكل غير متوازن، إذ تُعطى الأولوية في أغلب الأحيان للأمن على حساب الخدمات الاجتماعية. كذلك تُعرَض المواطنة في السياق العربي بوصفها "حقًّا مشروطًا"، تتأثر فيه حقوق الأفراد بعوامل مثل الطائفة والمنطقة والانتماء السياسي. كما يناقش الكتاب مفهوم "الوضوح"، المستمد من أفكار جيمس سكوت، ليوضح كيف تُعزّز الدول قدراتها على البقاء من خلال مراقبة المجتمعات وإدارتها، خصوصًا عبر تقنيات المراقبة المتطوّرة، بدلاً من التركيز على بناء وتعزيز قدرات تنموية تحقّق الرفاه للمجتمع. بالإضافة إلى ذلك، تبرز "الزبائنية" و"المحسوبية" كأدوات أساسية للأنظمة في الحفاظ على الحكم، من خلال التوزيع الانتقائي للموارد وتشكيل التحالفات الاجتماعية. كما يستكشف الكتاب مفهوم "الحكم الهجين"، حيث يتداخل دور الفاعلين الرسميين وغير الرسمييّن، ممّا يزيد من تعقيد التصوّرات التقليدية حول سلطة الدولة. ومع أخذ الإرث الاستعماري والضغوط الخارجية بعين الاعتبار في تشكيل مسارات الدول، يقدّم الكتاب إطارًا شاملًا لفهم تنوّع مسارات الدول العربية وصمودها في مواجهة التحديات المعاصرة.